ما وراء الشمس.. أهوال السجون في السينما المصرية

الفنان المصري هشام عبد الحميد

قدمت السينما المصرية على مدار تاريخها موضوع السجن، مركزة بذلك على الجرائم الجنائية، فأغلب الأفلام تناولت السجن كعقاب مدني لمقترف الجرائم، أما بعض الأفلام الأخرى فقد قدمت المعتقلات كأداة قمع للسياسيين المعارضين، وما جرى فيها من أهوال وفظائع، على أساس أن تهمة سجناء الرأي هي أنهم “أعداء الوطن” الذين يريدون الاعتداء على أمن البلد.

وقد دأبت السينما على عرض السجون بشكل يحمل الكثير من التجميل، وأبعدته عمّا يجري بشكل حقيقي، وبعبارة أخرى فقد أظهرت واقع السجون إلى حد كبير أفضل مما هي عليه في الواقع. لكن بعض الأفلام قدمت في عرضها للمعتقل السياسي -بالمقارنة مع الأفلام الأخرى- صورة أكثر صدقا وقربا إلى الواقع .

وهنا تحضرني أمثلة لكلا النوعين من الأفلام، وهذا ما سنناقشه في هذا المقال، وعلى سبيل المثال لا الحصر فيلم “مجرم مع مرتبة الشرف” و”إحنا بتوع الأوتوبيس” و”بسبوسة بالقشطة”.

لقطة من فيلم “مجرم مع مرتبة الشرف” الذي كان بطله الفنان هشام عبد الحميد

 

“مجرم مع مرتبة الشرف”.. بؤس أدى لاكتئاب الطاقم

فيلم “مجرم مع مرتبة الشرف” هو من إخراج مدحت السباعي، وتشرفتُ بإنتاجه وبطولته، حيث تعمدنا تصوير مشاهد للسجن حقيقية دون تجميل الواقع، وقد ذهبنا إلى سجن حقيقي، ويا لشدة هول ما رأيناه، فقد كان ما شاهدته وضعا بائسا حزينا، فالزنازين التي تفتقد للحد الأدنى من شروط الحياة هي الجدول اليومي الصعب لنزلاء السجن.

أعترفُ أننا لم ننقل كل ما شاهدناه، لكننا حاولنا بقدر المستطاع أن نعرضه بشكل مخفف نسبيا، أتذكر أنني بعد الانتهاء من التصوير قبعت في منزلي مكتئبا لمدة أسبوع، لا أتحدث مع أحد نتيجة لهول ما شاهدت.

 

“البريء”.. هروب من المعتقل في جوف الصحراء

عندما ننتقل إلى فيلم آخر يتناول المعتقلات مثل فيلم “البريء” من إخراج عاطف الطيب؛ نجد أنه اقترب كثيرا من واقع المعتقل شكلا ومضمونا، فالمعتقل في أحداث الفيلم يكاد يكون الديكور الأساسي للفيلم، وهو مبنى تحيطه الصحراء من كل جانب، وتفصل مئات آلاف الكيلومترات بينه وبين الحضر، حيث الصحراء المليئة بالزواحف السامة كالعقارب والثعابين، فالهروب يكاد يكون مستحيلا إلا في حالات نادرة تصل لحد الانتحار.

في “البريء” كان صلاح قابيل يلعب دور شخصية مُعارض سياسي يمتهن الكتابة الأدبية، وذلك عندما انطلق بالصحراء غير آبه بكل الأخطار، تعقبه من الأمن العسكري المركزي سبع الليل، ويلعب دوره أحمد زكي الذي يقوم بخنق المعارض السياسي حتى الموت عندما يمسكه، لقد كان سبع الليل مغسول الدماغ بعبارة أنهم “أعداء الوطن”.

كان مشهد الهيليكوبتر التي تأتي باللجنة الدولية لحقوق الإنسان لتفقد أحوال المعتقلين مشهدا موفقا إلى حد كبير، وقد أعطى الفيلم بعدا واقعيا بتصوير وحشة المعتقل وصعوبة الوصول إليه.

أحمد زكي الذي قام بدور سبع الليل المغسول الدماغ بعبارة “أعداء الوطن”

 

مواجهة الثعابين الحقيقية.. أحمد زكي يروي المشهد

كان تصوير زنازين المعتقل بالفيلم موفقاً إلى حد كبير، وتحديدا مشهد إلقاء الثعابين على المُجنّد سبع الليل، وذلك لإخافته حين لوحظ أنه متعاطف مع بلدياته الشاب الثوري ممدوح عبد العليم الذي يلقى حتفه لاحقا في المعتقل .

ذكر لي أحمد زكي كيفية تصوير هذا المشهد الذي كان واقعيا خاليا من الخدع السينمائية، أي أنهم أتوا بثعابين بالفعل وألقوها على أحمد بالزنزانة، وقام المخرج ومدير التصوير سعيد الشيمي بتثبيت الكاميرا، وأسرعوا بالابتعاد سريعا لكي يواجه أحمد الثعبانين وحده، وذلك في مشهد كامل متصل.

بالطبع كان موقفا صعبا وفريدا من نوعه وخطرا أيضا، تعامل معه أحمد بحذق شديد، وتخلص من الثعبان الأول بتمزيقه، والثاني بسحقه فى جدار الزنزانة .

 

وحش في السجن وإنسان في المنزل.. دور المأمور

لعب كل من الفنان محمود عبد العزيز والفنان حسن حسني دوريهما ببراعة شديدة، حيث جسّد الأول المأمور، والثاني مساعده الذي يتستر على تجاوزات مسؤولي المعتقل التي تصل إلى حد الجرائم. وذلك التستر كان بمنتهى الأريحية والبلادة ولزُوجة المتسلق والعبد الذى يسعى إلى إرضاء سيده بأي شكل وبأي ثمن.

أما محمود عبد العزيز فقد قدم شخصية مأمور المعتقل القاسي الذى لا يتردد في التصفية الجسدية بدم بارد، وفي الوقت نفسه هو الأب الحنون الذي يحرص على حياته العائلية كما ينبغي، فهو أب مثالي يحتفي بعيد ميلاد أطفاله، وياتي لهم بالهدايا في وجه مختلف تماما عن وجه المأمور القاسي المتجرد من الحس الإنساني .

فيلم “البريء” كان من أكثر أفلام المعتقلات صدقا وشفافية، لهذا واجه صعوبات في العرض الجماهيري، إذ اعترضت رقابة المصنفات الفنية على إجازته، ورفعته إلى وزارة الدفاع لإبداء الرأي فيه، وشاهده المشير عبد الحليم أبو غزالة في ذلك الوقت، وأبدى موافقته مع بعض الحذف، حيث حُذف مشهد النهاية العنيف الذي يتمرد فيه سبع الليل، ويقوم بإطلاق النار على قيادات المعتقل .

 

“إحنا بتوع الأتوبيس”.. صدفة تحملك إلى الجحيم

فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” مأخوذ عن واقعة حقيقية صاغها في كتاب الكاتب الكبير جلال الدين الحمامصي، وأعدها كسيناريو السيناريست فاروق صبري، وأخرجها حسين كمال، وهي من بطولة عبد المنعم مدبولي  وعادل إمام وسعيد عبد الغني، وألحان بليغ حمدي .

يدور الفيلم حول خلاف تقليدي بين جيران العمارة الواحدة الذين يتشاجرون على إثر ذلك بالحافلة، ويأخذهم المفوض إلى قسم الشرطة، حيث كان القسم -لسوء حظهم العسر- بصدد إرسال دفعة من المعتقلين إلى أحد المعتقلات، فيأخذون بالخطأ معهم.

تبدأ رحلة العذاب المشوبة بسخرية مريرة، حيث يعذبون من قبل رأس قيادة المعتقل سعيد عبد الغني المأمور السادي الذي لا يقتنع بحكاياتهم عن الحافلة.

يبدأ المأمور بالتلذذ بتعذيبهم بسادية شديدة، إلى أن تتفجر الأحداث عندما يموت وجدي العربي الشاب الثوري تحت وطأة التعذيب، حيث تنفجر حالة من حالات الغضب في المعتقل، ويبدأ الحراس في قمع المعتقلين، ومنهم “بتوع الأتوبيس”.

مشهد تعذيب عبد المنعم مدبولي بربطه من رقبته لكي يسأله سعيد عبد الغني، إنت إيه؟ فيجيب مدبولي المُكبل بالأغلال بأنه كلب

 

“أنا كلب”.. مشهد مستوحى من قصة حقيقية

لعل أفظع ما في فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” مشهد تعذيب عبد المنعم مدبولي بربطه من رقبته لكي يسأله سعيد عبد الغني، إنت إيه؟ فيجيب مدبولي المُكبل بالأغلال بأنه كلب، فيسأله وماذا يصنع الكلب؟ فيقوم مدبولي بتقليد نباح الكلب “هاو هاو”، وذلك في مشهد من أقسى مشاهد المعتقلات على الإطلاق.

وقد حكى عبد المنعم مدبولي أنه استوحى هذا المشهد من جار أمامهم كان قد اعتُقِل بالسجن الحربي لدى حمزة البسيوني الذي كان مأمور السجن، فكان يتعمد أن  يأمره أمام زوجته وابنته بسؤاله: أنت إيه؟ ويجيب أنه كلب، ويركع على الأربع ويقلد الكلب، في مشهد مُهين أمام زوجته وابنته .

وهناك مشهد آخر بالفيلم لا يقل فظاعة عنه، وهو مشهد تعذيبهم حفاة الأقدام على سطح صفيح ساخن، مع ضحكات الضابط السادي.

لا شك أن الفيلم بأجوائه الكابوسية وأهمها تصميم المعتقل كبناء مرعب؛ أعطى صورة سينمائية حقيقية تصور ما كانت عليه المعتقلات، وأعطى صورة صارت شاهدا حقيقيا يشهد على وضع بقية المعتقلات، ووثيقة أدلى بها من قُدّر لهم أن ينجوا من جحيم السجون .

 

“بسبوسة بالقشطة”.. قصة سجين يأسر سجانه

 فيلم “بسبوسة بالقشة” هو من بطولة كاتب هذه السطور، ومعه محمد شومان، وهو من إخراج عبادة بغدادي، وتأليف أحمد زين .

تُصوّر الأحداث داخل المعتقل فترة من حياة سجين مثقف، وهو الدور الذي اضطلعت به، أما السجان فكان العسكري الذي يلعب دوره محمد شومان.

وتبدأ العلاقة بين السجين والمسجون متوترة، ثم ما تلبث أن تتحول إلى صداقة، وذلك بعد محاولة السجين إنقاذ ابن العسكري، لكن مع تطور الأحداث يقضي الابن نحبه، ولم تقدم إدارة السجن للعسكري الدعم السريع لعلاج ابنه، مما أدى إلى تدهور حالته وموته. يقرر العسكري التعاون مع السجين، لكن تكتشف إدارة السجن وتعاقب السجين بالتعذيب.

وينتهي الفيلم بإحضار العسكري طبق “بسبوسة بالقشطة”، حيث كان السجين يحلم بها في بداية الفيلم، إلا أن السجين لا يستطيع أن يلتهمها كما كان يتمنى، وذلك جراء انهياره الشديد بعد التعذيب .

ولأول مرة تأتي معالجة سينما المعتقلات تناولا إنسانيا لموضوع العلاقة بين السجين والسجان، حيث حضرت بالفيلم أجواء المعتقلات بقوة، وبكثير من الصدق رغم أن الفيلم صُوِّر بإسطنبول .

 

هاني مهني.. ميزة السجن الفندقي مع رجال النظام

لعل سخرية القدر تدفع الفنان الملحن هاني مهني لكي يحكي في أحد البرامج التلفزيونية تفاصيل سجنه بسبب قضية نصب، حيث كان في السجن كبار السياسين أمثال حبيب العدل وزير داخلية مصر السابق، وجمال وعلاء مبارك، وأحمد عز وهشام طلعت مصطفى.

وعلى حد قوله :إن السجن المُشار إليه كان يتسع لثلاثة آلاف سجين، لكن الموجودين به هم 13 سجينا، ويوجد بالسجن غرفة رياضية على أعلى مستوى، وقد بناه وتحمل تكلفته أحمد عز.

كما أضاف :يوجد كذلك جامع كبير بسجّاد فخم، بناه هشام طلعت مصطفى، وملاعب وبلياردو وكرة قدم.

لعل هذا السجن هو الوحيد الذي فشلت السينما المصرية في تجسيده، أو لم تصل للحد الأدنى من إمكانية تجسيده بمعنى أدق .


إعلان