“الناجون من كورونا”.. قصص الكفاح الإنساني على حافة الموت

مَرّ أكثر من عام على ظهور الموجة الأولى من وباء كورونا (كوفيد ـ 19)، ويزداد خوف البشرية وقلقها من حدوث ذات الفواجع والمآسي أو أكثر خلال الموجة الثانية التي يشهدها العالم الآن.

يعود الوثائقي البريطاني “الناجون من كوفيد” (Surviving Covid) قليلا إلى الوراء، ليلقي نظرة على المشهد التراجيدي الحاصل في المراحل الأولى من انتشار الجائحة، وذلك بتوثيقه أربع حالات دخلت أقسام “العناية المركزة” في أحد المستشفيات البريطانية، من خلال عرض تشابك العلاقات الإنسانية بين هؤلاء المرضى الذين هم بين الموت والحياة، وبين عوائلهم من جهة، وبينهم وبين الأطقم الطبية المعالجة لهم من جهة أخرى.

المقطع البريطاني من تراجيديا الوباء يمكن تعميمه على العالم بأسره، لما فيه من مشتركات إنسانية، مما يعطي الوثائقي الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) قيمة مضاعفة، لكونه ينطلق من نقطة صغيرة، لكنها قابلة للتوسع والتعميم، فالجائحة وويلاتها وصلت إلى كل نقطة من بقاع الأرض تقريبا، ولم تعد محصورة في منطقة جغرافية بعينها.

قسم العناية المركزة.. ضربة الفيروس في الديار البريطانية

يظهر مستشفى “كينغز كوليج هسبيتال” بكل أبعاده والمساحات الخضراء المحيطة به في مشهد مأخوذ من الأعلى، وسرعان ما تدخل الكاميرا إلى غرف قسم العناية المركزة فيه، وتقترب من المرضى الراقدين على أَسِرّة تحيط بها شاشات إلكترونية وأجهزة تنفس صناعي، والكثير من الأنابيب المربوطة بأجسام مرضى دخلوا في شبه غيبوبة كاملة.

كان زمن تصوير الفيلم في شهر مارس/ آذار من العام 2020 الذي شهدت فيه المستشفيات البريطانية تدفقا هائلا للمصابين بالمرض. حيث يلازم المخرج “نِك هولت” لشهور أربعة أشخاصا من الراقدين في القسم، ويعرض على مشاهديه ما حلّ بهم وكيف كانت علاقتهم بأقاربهم وعوائلهم خلال تلك الفترة الحرجة.

يبدأ الفيلم بمواطن إسباني اسمه “يواخين” أُدخِل إلى القسم قبل يوم من إعلان بريطانيا الإغلاق العام، وظلّ فيه أكثر من مئة يوم، حيث يظهر في المشهد الطبيب المختص وهو يحاول الحديث معه باللغة الإنجليزية أو بعض المفردات الإسبانية رغم غيبوبته.

يقدم الطبيب معلومات تشي بسوء حالة “يواخين” الصحية، فقد دمر الفيروس أجزاء كبيرة من جسده، وعطل عمل الدماغ والقلب والكليتين، ولم يعد يبقيه على قيد الحياة سوى جهاز التنفس الذي يُؤمّن له الأكسجين اللازم للحفاظ على ما تبقى من وظائف للأعضاء الحيوية.

طواقم الأطباء.. مسند الأجساد التي خربها كورونا

يعطي صانع الوثائقي للأطباء والممرضين فرصة لعرض وجهات نظرهم ومشاعرهم لما يواجهونه يوميا، وذلك في ظرف استثنائي لا يمكن مقارنته بأي ظرف سبقه، وحسب تعابير بعضهم فإنهم يصارعون في كل لحظة “عدوا خفيا” لا يعرفون عنه الكثير، ولا يمكن مقارنة ما يحدثه من تخريب في الأجساد التي يخترقها ببقية الفيروسات.

الطواقم الطبية رفقة أحد المرضى في صراعهم ضد كورونا الذين وصفوه بـ”العدوي الخفي”

كان مدخل الفيلم عبر “يواخين”، وهو مريض أجنبي وصل إلى بريطانيا وتزوّج من امرأة توفيت بعد سنوات بمرض السرطان، لكنه ما زال يكنُّ لها حُبّا عميقا في قلبه، ويفتح بابا لعرض علاقات إنسانية تُعوّض المريض وحدته.

كان “يواخين” (61 عاما) محظوظا بوجود ابنة زوجته البريطانية التي لازمته طيلة فترة وجوده في القسم، وهناك أيضا الرعاية الاستثنائية التي تقدمها الطواقم الطبية من دون النظر إلى عرق المريض أو لونه، فمُهمتها مُنصبّة على سحب المريض من منطقة الموت إلى ساحة الحياة.

معركة “ديفيد”.. عامل البناء الذي انتصر على السرطان

تنقل إحدى الطبيبات المختصات بالرعاية المركزة اختلاط المشاعر الحاصل عند الطبيب المعالج اتجاه مرضاه، وهو يراهم في كل مكان من المستشفى في حالة سيئة جدا، تضعف شدتها مبدأ “اللاشخصية” التي يلتزم بها الأطباء عادة.

تفرض حالة مرضى كورونا على الطبيب تعاطفا إنسانيا، فهذا الإنسان الذي أمامه الآن قد يكون مكانه -إذا ما شاءت الأقدار- والده أو جده أو أخيه. كلامها المؤثر لا يعطلها عن مواصلة مراقبتها لحالة المريض “ديفيد” (62 عاما)، وهو عامل البناء الذي انتصر على مرض السرطان قبل سنوات، لكنه يبدو اليوم عاجزا أمام فيروس لا يعرف الرحمة.

الطبيبة تواصل مراقبتها لحالة المريض “ديفيد”، وهو عامل البناء الذي انتصر على مرض السرطان قبل سنوات لكنه عاجزا اليوم أمام كورونا

طيلة غيبوبة “ديفيد” كانت تأتي زوجته مع ابنته إلى المستشفى، تقف بالقرب منه وتتحدث إليه، وكلها ثقة من قدرته على تجاوز المرض كما تجاوز السرطان. يذهب الوثائقي معها إلى بيتها ويسجل جانبا من حياته الشخصية، فقد كان الرجل حيويا ومرحا، وقد أحبّ عائلته رغم طول ساعات غيابه عن البيت بسبب عمله الذي كان يعوضه خلال الرحلات الصيفية معهم.

علاقة الآباء بالأبناء.. بعد عاطفي خاص في الفيلم

تأخذ العلاقة بالأطفال بُعدا خاصا في حالة المريض “سابا” (52 عاما)، ففكرة البقاء إلى جانبهم ومساعدتهم تعطيه رغبة في البقاء على قيد الحياة، ذلك بعض ما ينقله الأب من أحاسيس خالجته أثناء رقدته على السرير لأشهر.

وعلى الجانب الآخر ثمّة قلق وخوف يجتاح الأطفال على والدهم، فينقلونه بعفوية وبكلمات تناسب أعمارهم لا يخفون فيها ما يخشون منه، فتواصلهم معه عبر شاشات الهاتف المحمول تساعده وتمنحه المزيد من الطاقة، رغم الأضرار الكبيرة التي لحقت بجسده جراء المرض، فقد حالفه الحظ للخروج من المستشفى في نفس يوم ميلاد ابنته، وكان مُصرّا على حضور عيد ميلادها والاحتفال معها ومع بقية أفراد الأُسرة.

مشهد وصول “سابا” إلى المنزل، حيث استقبله أولاده بحفاوة عالية، خاصة وأنه شارك ابنتها عيد ميلاد في اليوم ذاته

كانت مشاهد وصول “سابا” للمنزل مؤثرة لا تقل عن مشاهد الناجين الآخرين، ومن بينهم راعي الكنيسة “توبي” (52 عاما) الذي أصيب بالمرض ونُقل إلى قسم العناية المركزة بعد تدهور حالته الصحية التي يصفها الأطباء بالصعبة جراء تعطل عمل رئتيه.

يذهب الوثائقي إلى بيته ويقابل زوجته وأولاده، فهم يصفونه بالأب الحنون، ويعبرون عن حزنهم العميق لمصابه. كما ويسلط الوثائقي الضوء على الدور الذي تلعبه النساء في مساعدة الأزواج على تجاوز محنة ما بعد الخروج من المستشفى.

ما بعد التعافي.. آثار المرض التي تطارد المصابين

يصف الأطباء الخراب الكبير الذي يحدثه الفيروس في الأجساد ويمنع المرضى من العودة إلى حياتهم الطبيعية حتى بعد مدة طويلة من خروجهم من المستشفى، فبعضهم قد يحتاج سنين ليستعيد عافيته، وذلك هو الحال مع “توبي” الذي جُهّز بيته بمعدات طبية كان على الزوجة تعلّم طرق استخدامها لمساعدة زوجها الذي أقعده المرض عن الحركة، وخرّب أجزاء كبيرة من جسده.

بقدر مشابه يحاول “سابا” تجاوز حالة عجزه عن الحركة بمساعدة زوجته التي تواظب على الخروج معه إلى الحديقة القريبة من منزلهما يوميا، في سبيل تقوية جسده على تحمل حركة الساقين الذين ضعفت قدراتهما بعد طول رقاد على السرير.

“سابا” الذي أصيب بكورونا رفقة زوجته التي تواظب معه للخروج إلى حديقة قريبة من منزلهما في سبيل تقوية جسده بعد المرض

كل المشاهد والمعطيات الطبية تؤكد صعوبة تجاوز المريض الداخل في غيبوبة طويلة من تجاوز اختلالات الدماغ المتوقعة، لكن لكل قاعدة استثناء كما يؤكد الطبيب المشرف على متابعة حالة المريض الإسباني الذي شُفي من مرضه وعاد إلى وعيه السابق، مما يزيد من صعوبة فهم الأطباء والعلماء للفيروس وطرق تأثيره على أجساد المرضى، لكنه يعطي بالمقابل أملا بوجود فرص نجاة منه على الأقل فيما يتعلق بالجانب النفسي والعقلي، وتأثيراتهما الكبيرة على حالة المريض الصحية بعد الشفاء الجسدي.

التعبير عن حالة الفرح بعودة الأزواج إلى منازلهم ثانية لا يعبر عن شدتها إلا خسارة زوجة العامل “ديفيد” له، لقد مات زوجها بعد أن عجز عن مقاومة الفيروس. حيث تنقل مشاهد دفنه شدة حزنها على فراقه، وعجزها عن تصديق فقدان زوج كانت على يقين من قدرته على العودة ثانية إلى منزله.

لافتات الشكر والورود.. احتفاء بحراس الأرواح البشرية

للإشادة بدور الطواقم الطبية طيلة زمن انتشار الوباء؛ يعمل الوثائقي على نقل مشاعر بعض الممرضين وحماسهم للعمل بكل ما يستطيعون من قوة لإنقاذ المرضى، فأحاديثهم تُعبّر عن مشاعرهم النبيلة، وأعمالهم تؤكد بجلاء قدرة الإنسان على العطاء والتضحية.

يصوّر الفيلم اللافتات وباقات الورود المُعلّقة على سياج المستشفى التي تشيد كلماتها بجهود طواقمه الطبية، وبذلها جهودا خارقة وثّقها الفيلم بأدق تفاصيلها، وبفضلها يُعدّ من بين السبّاقين لتوثيق تاريخ وباء اجتاح البشرية، وكان لا بد من رصد تداعياته بعين واعية وبأدوات فنية وفرت له فرص نقل حالة المرضى ومشاعر عوائلهم إلى جمهور واسع، لن تتوفر له فرصة الدخول إلى أقسام (العناية المركزة) إلا عبر الشاشات.


إعلان