“كوليكتف”.. ديدان الفساد تلتهم الدولة الرومانية
محمد موسى
“هذا الحريق ليس جزءاً من العرض الموسيقي، فليسرع أحد ما بإطفاء الحريق”. هذه كانت آخر كلمات المُغنّي الذي كان يقف مع فرقته على مسرح “كوليكتف” في العاصمة الرومانية بوخارست عام 2015، وقد ظهر في تسجيل فيديو سجّله هاتف أحد الحاضرين، ونقله الفيلم التسجيلي “كوليكتف” Collective) 2019) للمخرج الروماني “ألكسندر ناناو”.
ما حدث بعد ذلك صار معروفا لدى الكثيرين في رومانيا، فالحريق الذي بدأ في سقف المبنى وكان محدودا التهم البناية القديمة كلها. كما يُصوّر الفيديو القصير ذاته اللحظات القليلة المعدودة لهروب الجمهور من المسرح، أما ما أعقب ذلك من تدافع الحاضرين على الخروج من المبنى؛ فلم تصوره أي كاميرات، بيد أن خسائره وآثاره العميقة ما زالت متواصلة حتى الساعة في الحياة السياسية والاجتماعية في رومانيا.
قُتل في الحريق في القاعة المسرحية 28 شخصاً من الجمهور، وأصيب 180 آخرون، أما قصص المصابين وما آلت إليه حياتهم فكانت كالصاعقة التي تهز الدولة الرومانية بعنف، إذ مات في المستشفيات 37 من المصابين بسبب فساد وإهمال الدولة والمستشفيات، لتسقط حكومة رومانية وتُعيّن واحدة أخرى بدلا منها، كما عُين وزير جديد للصحة.
لم يبدأ فيلم “كوليكتف” بمشهد الحريق، بل بواحد من المشاهد القاسية التي يحفل بها، إذ صوّر الفيلم لقاء لذوي الضحايا مع الإعلام الروماني، وقد غلب عليهم التأثر الشديد، وسال كثير من الدموع في ذلك اللقاء، خاصة حين يتذكر الآباء والأمهات أبناءهم الذين قضوا في الحريق أو في المستشفيات بعد ذلك، ويُشدّد بعضهم على أن حياة أبنائهم كان من الممكن إنقاذها لو وجدوا عناية في المستشفيات، ولم يُتركوا ضحية للبكتيريا التي التهمت أجسادهم.
صحيفة غازيتا.. أداء السلطة الرابعة لرسالتها
كان كثير من الصحفيين حاضرا في المؤتمر الإعلامي لأهالي الضحايا، منهم اثنان من جريدة غازيتا الرومانية، وستكون لهم مكانة مُهمة للغاية في هذا الفيلم الوثائقي، إذ سيرافقهم الفيلم وهم ينبشون في طبقات الفساد التي تضرب الدولة الرومانية، وعبرهم سيُقدم الفيلم تحقيقا استقصائيا فريدا أصبح نادرا للغاية في السينما الوثائقية اليوم.
بعد صدمة الحريق ذاتها وخسائرها البشرية، تتكشف صدمات أخرى تتعلق بالمصابين بالحريق، فقد توزعوا على مستشفيات عدة في البلد، حيث لم تكن هناك أقسام خاصة بمصابي الحرائق في رومانيا، كما تأخرت الدولة في إرسالهم إلى الدول الأوروبية مجاورة، لكن الكارثة الأكبر كانت متمثلة في البكتيريا التي هاجمت المصابين بسبب ضعف تحصين المستشفيات وغرف الإنعاش بالتحديد، ليُترك هؤلاء المصابون يواجهون موتا جديدا على أسرة المستشفيات.
كانت كاميرات الفيلم في اجتماعات تحرير صحيفة غازيتا وهي تعد لخطتها التحريرية الجديدة التي تخص متابعة قضية مصابي الحريق، وبعد حصولها على معلومات تخص الغش في مواد تعقيم المستشفيات تقرر الصحيفة إرسال مُصوّر ليصوّر صاحب الشركة التي تجهز مستشفيات رومانيا بمواد التعقيم المهمة.
وفي مشهد يُشبه ما يحدث في الأفلام الروائية، يرافق الفيلم مُصوّرا من صحيفة غازيتا الرومانية وهو يصور مدير الشركة، وسيدوي صدى التحقيق القادم للصحيفة في البلد كله.
يبقى الفيلم في نصفه الأول قريبا كثيرا من فريق التحقيق بالصحيفة في غازيتا، فينقل ارتباك وزير الصحة الواضح في مؤتمرات صحفية، ودفاعه المستميت عن نظام صحي وحكومي متهالك. كما كانت الكاميرا موجودة في اجتماعات التحرير الخاصة التي ستكون مُهمة للمشاهد لفهم تفاصيل القضية في سياقات الزمن والأوضاع السياسية والاجتماعية.
عودة “فويكوليسكو”.. إنقاذ سمعة البلاد الممرغة في التراب
تزداد الضغوطات على الحكومة، وبالتحديد وزارة الصحة الرومانية، وتدفع هذه الضغوط وزير الصحة للاستقالة، ليخلفه طبيب روماني شاب اسمه “فلاد فويكوليسكو”، وقد كان يعمل في النمسا قبل أن يقرر العودة إلى بلده بدوافع وطنية للمساعدة في إنقاذ سمعة البلد التي تمرغت في التراب.
تدفع الضغوط الشعبية والإعلامية إلى القبض على مدير شركة تجهيز المواد المعقمة، وكانت كاميرا الفيلم موجودة أثناء وصوله إلى مبنى الشرطة الرومانية، بيد أن هذا المدير الذي يُقال إنه كان يملك علاقات واسعة مع شخصيات نافذة في الحكومة الرومانية خرج بكفالة.
ينتهي الثلث الأول من الفيلم بصدمة كبيرة، إذ سيُقتل مدير الشركة بحادث سيارة أشيع أنه ربما كان مُدبرا للتخلص منه، لقطع الحبل الذي يوصله إلى شخصيات مهمة، بيد أن قتل المدير سيزيد من الضغط الشعبي على الحكومة، لتتحول قضية المصابين بالمستشفيات إلى أمثولة عن الفساد العام وضحاياه من المواطنين العادين.
عقبات في طريق الوزير.. صدمة الفساد والبيروقراطية
يأخذ الفيلم منحى آخر في نصفه الثاني، بعد أن يتسلم الوزير الشاب الجديد وزارة الصحة، إذ يستحوذ الوزير على الوقت الأكبر من زمن النصف الثاني، وإن كان الفيلم يعود بين الحين والآخر لمتابعة حال الفريق الصحفي المُكلّف بمتابعة القضية.
يصطدم الوزير الجديد بعقبات البيروقراطية والفساد المُستشري في وزارته والبلد، ويعي سريعا أن الصعوبات التي يواجها لن يكون لها حل سريع أو مبسط.
في واحد من مشاهد الفيلم الكبيرة، كان “فويكوليسكو” يستمع لمساعدته التي شرحت له الفساد المستشري في المستشفيات، وكيف أن هناك أطباء يدفعون رشاوي لمديريهم حتى ينقلوهم إلى أقسام مهمة في هذه المستشفيات، لأجل أن يطلبوا هم أيضا رشاوي من مراجعي هذه المستشفيات، وذلك في دورة لا تنتهي من الفساد، إذ بعد ثواني من الصمت، تحدث الوزير الشاب بيأس مطبق: كيف يُمكن أن نحل ذلك بحق السماء؟ كيف يمكن أن تصبح المستشفيات والأطباء بهذا السوء؟
ترد عليه مساعدته بلهجة حزينة: إنها مشكلة الإنسان هنا.
لا يأتي كل هذا القنوط من حوادث فساد عادية، فالوزير نفسه تسلم قبل أيام من زمن ذلك المشهد تقريرا من فريقه الجديد يكشف فيه أن المعقمات التي تستخدمها رومانيا في مستشفياتها هي الأسوأ على صعيد الاتحاد الأوروبي بسبب الغش في نوعيتها، وكنتيجة لذلك يموت 1200 شخصا بالنسبة بسبب إصابتهم بالبكتيريا والفيروسات أثناء مكوثهم في المستشفى.
“لقد مات ابني”.. إعادة إحياء مأساة الحريق
يوزع الفيلم مجموعة من المشاهد الصادمة للغاية في زمنه الذي يصل إلى ساعة وأربعين دقيقة، ليُعيد التذكير بالقضية الأساسية للفيلم، والمأساة الإنسانية التي ربما تضيع في نقاشات السياسة والإعلام.
ومن المشاهد الشديدة القسوة مشهد صوره شخص مجهول لأحد المصابين في حريق صالة “كوليكتف” والديدان تغطي وجهه، حيث ترك لمصيره في المستشفى الذي كان يرقد فيه. وسنعرف من شخص كان يعمل في أحد المستشفيات التي استقبلت مصابي المسرح، بأن بعض المستشفيات غطت وجوه المرضى بالشراشف حتى لا يزعجوا العاملين فيها، وأن هؤلاء المرضى تُركوا للإهمال، فقُتل بعضهم بالبكتيريا والديدان.
من المشاهد الأخرى مشهد يرافق إحدى الناجيات من الحريق وهي تخضع لجلسة تصوير فوتوغرافي، حيث بدت الحروق واضحة على جسد ووجه المرأة التي تتعدى الثلاثين بقليل، والأجزاء التي احترقت من رأسها قد شُوّهت تماما، لذلك كانت تغطي رأسها بغطاء رأس، كما أن الحرق شوّه للأبد أصابع يديها، وأفقدها القدرة على تحريك أصابعها.
يرافق الفيلم افتتاح معرض الصور لجلسة التصوير التي حضرها الوزير بنفسه، بالإضافة إلى بعض عوائل الضحايا. يقول رجل في منتصف عمره لكاميرا الفيلم: ابني كانت له إصابات أقل من المرأة في الصور. ثم يكمل بانكسار هائل: لقد مات ابني في المستشفى بسبب البكتريا.
يسجل الفيلم محطات مهمة للمرأة ذاتها في الأشهر التي تلت الحريق، فكان حاضرا معها عندما يجرّب فريق أجنبي يدين صناعيتين بدل اليدين اللتين أتلفتهما الإصابة. حيث بدا الفرح واضحا على المرأة وهي تمسك بيدها الصناعية كوب ماء وترفعه إلى فمها، بينما كانت والدتها التي تجلس في زاوية الغرفة تغالب دموعها.
عودة الأحزاب الفاسدة.. مستقبل البلاد اليائس
تتفجر قضايا أخرى تخص الفساد أثناء تصوير الفيلم، إذ تقرر موظفة في إحدى المستشفيات الكبيرة في البلد فضح مديرها الذي سرق -حسب قولها- مبالغ من المستشفى تكفي لبناء مستشفى جديد حسب المواصفات العالمية. ومرة أخرى تُرسل صحيفة غازيتا مراسلين لها لتصوير هذا المدير، وتوجيه الانتباه على قضية السرقات في المستشفيات الرومانية والخسائر التي تتكبدها الدولة جراء ذلك.
تدهم وزير الصحة الجديد الانتخابات النيابية لتزيد من أحمال الشاب الكبيرة، إذ بدا أن أحزابا بعينها ستفوز هذه الانتخابات، وهو الأمر الذي يعني –حسب الوزير- أن الفساد الذي يسود البلد سيتواصل بطرق مختلفة.
يعود الوزير إلى قريته الصغيرة للإدلاء بصوته هناك، وعندما يخسر حزبه الانتخابات يتصل بوالده الذي كان حزينا مثله للنتيجة وقانطا من المستقبل في البلد، بل إنه شجع ابنه في المكالمة ذاتها على العودة إلى النمسا حيث كان يعمل هناك، من أجل خدمة مرضى في بلد يستحق خدماته.
تهديدات بالقتل تفاقم المأساة.. قتامة المشهد الأخير
يضع الفيلم مشاهديه في الخط الأول في المهمة التي يضطلع بها، كما يمكنه من متابعة فهم القضية بكل أبعادها المعقدة، فنقاشات اجتماعات التحرير في صحيفة غازيتا توفر الفرصة للمشاهد لترتيب أفكاره ودفعه لطرح تساؤلاته الخاصة التي يُمكن البحث عن أجوبة لها عبر زمن الفيلم.
يحظى الفيلم بفرصة فريدة لتصوير أبعاد الأزمة التي ضربت البلد في سياقات متعددة، فهناك مثلا الجانب التحقيقي الذي مثّلته الصحيفة، إلى جانب تصوير الصراع بين النيات الطيبة ومافيات الفساد، والمُمثلة بعجز الوزير الشاب “فويكوليسكو” وانهزامه.
كما لا يغفل الفيلم عن التذكير بالمأساة الإنسانية المتواصلة لضحايا الحريق وذويهم، دون أن يتورط بعرض الكثير من المشاهد المُبالغ في عاطفيتها وحزنها.
تزداد قتامة الفيلم في دقائقه الأخيرة، إذ يكشف صحفيون يعملون في صحيفة غازيتا أنهم تلقوا تهديدات بالقتل لهم ولعوائلهم إذا واصلوا التركيز على القضية، بينما بدت الهزيمة على الوزير الشاب الذي كان ناشطا قبل أن يتولى رئاسة الوزارة، وصار يعرف بعدها صعوبات التغيير في بلده.