“روح”.. غشاوة الأحلام الكبيرة تعمينا عن اللحظات الصغيرة

إسراء إمام
في كتاب “الكتاب الصغير للصفاء” يُصنّف الكاتب “جيمي سمارت” الأهداف إلى نوعين؛ أهداف حقيقية وأهداف سامة، ويُعَرّف الأهداف السامة باعتبارها الأهداف التي يربط بها الإنسان سعادته أو معنى وجوده، وقد يقضي عمره كله في محاولة تحقيقها، وحينما يبلغها يشعر إثرها بخيبة الأمل والإحباط، لدرجة قد تحمله على الاعتقاد بأنه أخطأ في تقدير هدف حياته المنشود، بل يمكن -إن امتلك وقتا كافيا- أن يستحضر هدفا ساما آخر يقضي نحبه وهو يسعى إليه.
والمشكلة هنا ليست في طبيعة الهدف ذاته، وإنما في تعامل الشخص معه على مدار حياته، كأن يقول “لن أكون سعيدا إلا عندما أحقق كذا”، أو “سأكون مُهما فقط حينما أبلغ كذا”، فيؤكد “سمارت” أن هذا التفكير سيكون بمثابة حُكم بتعاسة أبدية، وإهدار فرصة لعيش تجربة حياتية حقيقية، لأن الشخص في هذه الحالة لا يرغب في هدفه ذاته، وإنما يستخدمه كوسيلة للتعويض عن مشاعر يفتقدها، ويجهل كونها بداخله في الأساس، لكنه لم يبذل جهدا كافيا لتفعيلها والتواصل معها، وإنما يتطلع للحصول إليها من خلال تفاعله مع مؤثرات الحياة التي تأتي دوما من خارجه.
وعلى العكس من ذلك تكون الأهداف الحقيقية، وهي الأهداف التي نريدها من أجل ذاتها، ولا يمتزج التفكير فيها بشعور ما من القلق والنقص، فعندما تكون الرغبة حقيقية، ستدرك أنك على ما يرام سواء حققتها أم لا.
“إن حياتي كلها كانت بلا معنى”.. فخ الإنجاز الوهمي
في مشهد من مشاهد فيلم التحريك (الأنيميشن) “روح” (Soul) -الذي أنتج عام 2020- يمتلك “جو” الفرصة بعد وفاته لكي يطلع على لقطات للحظات بعينها من حياته، فيجد لحظة يجلس فيها وحيدا في مكان عام يحتسي فنجانا من القهوة، ويأكل قطعة من الكعك، وفي لحظة أخرى ينهمك في مشاهدة التلفاز، وفي لحظة أخرى يقوم بتدريس الموسيقى لعدد من تلاميذ صفه.
حينها يشعر “جو” بالكآبة، لأنه منذ وقت قليل قد شاهد لحظات أخرى مجمعة لحياة شخص آخر، حياة كانت زاخرة بالجوائز والإنجازات، فسرعان ما يفكر أنه عاش ومات دون أن يحقق غايته بخصوص موسيقى الجاز التي طالما نذر نفسه لها، إنه لم يُنجِز أي حلم فيها، فيردد بدون وعي “إن حياتي كانت بلا معنى، إن حياتي كانت بلا معنى”.
وقع “جو” في نفس الفخ الذي يشرحه “سمارت” في كتابه، فقام بربط معنى حياته بقدر الإنجاز الذي حققه في مجال موسيقى الجاز، ولم يُقَدّر لحظاته الكثيرة التي عزف فيها تلك الموسيقى لنفسه ومع طلابه بمتعة ونشوة، لحظات قام فيها بإلهام طالبته المُغرمة بآلة الترومبوت، فدفعها بحساسيته وتقديسه لشغفه الموسيقي كي تستكمل مسيرتها في التعلم رغم شكوكها الدائمة في قدرتها.
لحظات حظي فيها بقهوة ساخنة وكعك لذيذ في مكان جميل، ولحظات قضاها آمنا دافئا في بيته. فَوّت “جو” سعادة تلك اللحظات، وقضى حياته منشغلا بكونه يتطلع لممارسة العزف الاحترافي للجاز، وحينما حباه القدر فرصة أخرى لكي يحيا لحظة ممارسة العزف على مسرح كما كان يتمنى دوما؛ اكتشف أنها لم تكن تحمل ذلك السحر الذي كان يظنه، وأن الحياة بعدها لا تختلف تماما عن الحياة قبلها، وذلك لأن الحياة هي كل شيء كان قبل هذه اللحظة وسيكون بعدها، ولا يقف أبدا عند هذه اللحظة بعينها.

“جميع الأمور العظيمة تفعل من أجل ذاتها”.. تيه السمكة في المحيط
يتماهى معظمنا في البداية مع رغبة “جو” المُلِّحة في العمل كعازف لموسيقى الجاز، والتخلص من مهنته التقليدية التي تخص التدريس الموسيقي، ومعظمنا يوافقه بخصوص أن السبيل الوحيد للاستمتاع بحياته يكمن في تحقيق رغبته تلك، بالطبع نفعل ذلك لأنها فكرة شائعة، فكم من موهوب الآن على سطح كوكب الأرض ولا يفكر بأن سعادته الحقيقية ستكون واقعا فقط حينما يحقق إنجازا ما يخص موهبته؟ وكم موهوب يوجد الآن على سطح الأرض ولا يخلط بين شغف عيش الحياة نفسه وشغف سعيه فيما يخص موهبته؟ وكم موهوب يوجد الآن على سطح الأرض ولا يعي أن اللحظة التي يندمج خلالها في التعاطي مع موهبته بينه وبين نفسه لا تفرق عن اللحظة التي يُصفق له الناس ويشاركونه إنتاجه فيها؟
يقول “روبرت بروست”: إن جميع الأمور العظيمة تفعل من أجل ذاتها.
والموهبة أمر عظيم لا بد أن نقدر لحظاتنا معها، ونوثق علاقتنا الذاتية بها، ونجعلها كافية لرضانا وسعادتنا، وهذا لا يمنع أبدا أن نتطلع لمشاركتها، لكن الخطر أن تتحول تلك المشاركة لغاية تفقدنا علاقة الصلة الخاصة بيننا وبين موهبتنا، فنجعل تلك الصلة باهتة ناقصة تُجوِّعنا ولا تشبعنا أبدا.
وعلى المنوال نفسه تُعتبر الحياة أيضا أمرا عظيما يُستَحَق أن يُعاش لذاته وأن يُلاحَظ وأن يُقدَر ويُمتَن لكل جزء منه. فبعدما انتهى “جو” من لحظة عزفه مع نجمته المفضلة على المسرح، باح لها عن شعور عدم الاختلاف الذي ينتابه حينها، رغم أنه كان ينتظر تلك اللحظة طوال حياته، فردت عليه بقصة رمزية مختصرة حول سمكة صغيرة اعتادت أن تهلك نفسها بالبحث عن المحيط، وحينما كانت تجاوبها الأسماك الكبيرة عن كونها تسبح في المحيط فعلا، كانت تستنكر ذلك قائلة: هذه المياه التي نسبح فيها مجرد مياه، وإنما أنا أبحث عن المحيط.

“بيتي دوكتر”.. لعبة الكتابة توقع المشاهد في الفخ
قَصَد المخرج وكاتب السيناريو “بيتي دوكتر” أن يبدأ فيلمه بالمشاهد التي تجعلنا نتتبع رغبة “جو”، فنرى بعينيه ونقع معه في الفخ نفسه، فهذه الافتتاحية التي نراه فيها يستمتع بعزف البيانو لهذه الدرجة التي تغمرنا؛ كفيلة بأن تجعلنا نطبّق ذات اللبس الشائع بخصوص ربط متعة تلك اللحظة بالتطلع لما هو أبعد منها، وليس محاولة التماهي مع كونها هي في حد ذاتها حقيقة جميلة تبعث على الامتنان، والوعي بأن هذا التفكير نفسه يستجلب نوعا صادقا وخاصا من السعادة التي لا توصف.
يجعلنا “بيتي” نوافق “جو” على محاولة التملص من عمله بالتدريس، وعلى إصراره الجنوني بشأن عودته للحياة مرة أخرى بعد موته، لكي يحقق أمنيته الأثيرة في العزف على المسرح مع إحدى أشهر عازفات الجاز المفضلات لديه، وبالفعل يقنعنا “بيتي” لمدة ليست قصيرة أن هذه هي عقدة الفيلم، تلك الفكرة المعتادة عن السعي وراء شغف الموهبة بطريقة متجسدة مادية ملموسة، لنتفاجأ بعدها بأن عقدة السيناريو الحقيقية هي إعادة النظر في صحة هذه الفكرة، وزرع فكرة بديلة تُعلِمنا كيف نستخدم الموهبة لصالح عيش الحياة لا لإهدارها.
هكذا تكون كتابة “بيتي دوكتر” في معظم الأحيان، كتابة تحرضنا على إعادة النظر بشأن ما نعتبره من المُسلّمات، ففي فيلمه السابق “بالداخل بالخارج” (Inside Out) أشار إلى وجهة النظر الاستثنائية بخصوص الحزن، إذ نعتبره عدوا لنا في معظم الوقت، فنتهرب منه ولا نعطي أنفسنا فرصة لكي نعيشه بالقدر الكافي، وذلك باعتباره ضعفا أو عجزا، لكن “بيتي” يوضح من خلال قصة شديدة اللطف والأثر أن الحزن جزء لا يتجزأ من منظومة مشاعرنا، ونبذه -ظنا بأن هذا هو الطريق الأقصر لتكثيف سعادتنا- قد يؤدي في النهاية إلى عدم شعورنا بأي شيء من الأساس.
لقاء العوالم الأخرى.. سفر عابر تختبره الأرواح
تُشَدِد التعاليم الروحانية على كوننا جميعا متصلين، فكلنا من نسيج هذا الكون، وربما تلتقي أرواحنا في عوالم أخرى لا ندركها ونحن على هيئتنا الجسدية المادية الحالية، وربما تختبر أرواحنا هذا السفر العابر لتلك العوالم خلال الأحلام مثلا.
يأتي “دوكتر” ليضع تلك الأفكار السابقة كخلفية هامة، ويحاول أن يربطها بما يحدث لنا خلال العالم الوحيد الذي ندركه، أي خلال تلك الحياة التي نعيشها جميعا، فنراه يضع تصورا مُلفتا لروح هؤلاء الذين حوصروا بروتينية حياة لم يستسيغوها أبدا، فبدأت أرواحهم رويدا رويدا بالتسلسل خارج أجسادهم، ليبقوا في وضع مُعلّق بين الحياة والموت جسدا بلا روح، جسد يأكل ويشرب وينام ويعمل لكنه بلا روح.
كثيرا ما نستمع إلى هذا التوصيف، لكننا لم نتصوره بذلك التجسيد الملهم الذي وضعه “دوكتر” في فيلمه، حيث أظهر هذه الأرواح في عالم مرتفع يفوق الأرض، فهي تبدو هائمة تائهة مُحاطة بهالة سوداء تخفي هيئتها وتحيلها لمظهر شبحي مخيف، بينما تبقى أجسادها على الأرض مجرد هياكل صمّاء تتكلم من دون كلمات، تعمل بلا إنتاج وتأكل بغير شهية وتنام بدون راحة وتحيا دون أن تحيا.
تصور آخر بديع يضعه “دوكتر” لمحاولة تفسير الحالة التي تنتابنا جميعا حينما ننغمس في عمل شيء نحبه، تلك النشوة التي تستولي على أرواحنا، وتجبرنا بغير إرادة على أن نغمّض عينينا من فرط الإحساس، نعم، تلك الحالة التي نعرفها جيدا، لكننا لن نستطيع تخيلها مثلما تخيلها “دوكتر”.

ما بعد الموت وما قبل الميلاد.. تصوّرات بصرية
يفترض “دوكتر” أن أرواحنا تغادرنا، أو ترتفع بنا إلى عالم أثيري آخر يعتلي هذا العالم الذي نحياه، وفي هذا العالم نلتقي بكل تلك الأرواح التي تستعذب ما تفعله هي الأخرى، ليكون ذلك العالم المُفتَرَض عبارة عن مجتمع صغير يجمع كل الأرواح التي تختبر لحظة راقية من المتعة مع شغفها، يبقى ذلك المجتمع قائما، لأن تلك اللحظات لا تنضب أبدا، لكن أفراد هذا المجتمع هم من يتغيرون وفقا لتوقيت عيش لحظات مثيلة بالتناوب، فترى فيه أحدهم وهو يستمع إلى موسيقاه المفضلة، وآخر يغني وآخر يكتب، وآخر يقوم بتصوير مشهد أعجبه وهكذا.
هذا إلى جانب التصورات البصرية التي وضعها الفيلم لعالم ما بعد الموت، حيث جسّد فيه الروح وهي في طريقها إلى الآخرة التي نراها كبقعة عملاقة من الضوء تظهر على مدى أسود محيط، بينما نستمع إلى مؤثر مَهيب في شريط الصوت، ليفخم من وقع المشهد ويُعمِّق أثره.
كما نرى تصورات عالم ما قبل الميلاد أيضا الذي يناقض الصورة السابقة بوضوح، فيتبدى لنا بألوانه الزاهية، في تحريض على التعامل مع تجربة الميلاد، واختبار عيش الحياة على الأرض بإشراق وقوة.
فيلم “روح” فيلم بسيط جميل، ويتناول فكرة ليست هيّنة بأسلوب ساحر ودافئ خفيف الحضور يليق بفن الكرتون، ويناسب الحالة المتوقعة منه، فيحقق معادلة الترفيه والفكر في قالب واحد بإتقان وسلاسة مشهود لها.