“شكيب أرسلان”.. رماح الأمير اللبناني المحارب في خاصرة الاستعمار

“أحمد الله عز وجل الذي سهّل لي أن أفارق الحياة على أرض هذا الوطن الذي أحببته، وأنا سعيد أن أدفن في تربة طاهرة لا ترفرف فوقها راية أجنبية وأن ألاقي وجه ربي الكريم فأعيد هذه الأمانة إلى بارئها بعد أن تحققت أحلام طفولتي في هذه الجامعة العربية حرسها الله، وسأخبر رفاقي في الجهاد بأن تضحياتهم لم تكن عبثا”.

بهذه الكلمات ختم الأمير شكيب أرسلان حياته التي كانت حافلة بالمتغيرات، ملأى بالأصدقاء والأعداء، مكللة بالشعر والأدب والقتال في عدة جبهات، متوجة بكثير من الأفكار التي ضمّنها كتبه المتعددة، ومنها كتاب “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم”، وقال فيه “عدو الإسلام اثنان: جامد وجاحد”.

فاتح رمضان.. ميلاد أمير عثماني بنسب قحطاني

يصفه النقّاد شكيب أرسلان بأنه مفكر إسلامي تطور سياسيا حسب أحداث المنطقة، وكان يدرك أن الغرب يريد الشرق بثرواته ووصلته الإستراتيجية بين الشرق الأقصى والغرب، ولذلك كان يرى أن يكون الشرق موحدا تحت سلطنة واحدة، حتى لو كانت العثمانية. وقد أفردت له الجزيرة الوثائقية فيلما ألقى الضوء على مختلف محطات حياته، تحت عنوان: “أمير البيان.. شكيب أرسلان”.

كان قلمه سيّالا، وكان شاعرا حماسيا:

كفى الشهادة فيما بيننا نسبا
إن لم تكن جمعتنا وحدة النسب

مجدي بعثمانَ حامي ملّتي، وأنا
لم أنسَ قحطانَ أصلي في الورى وأبي

ولد في الشويفات في لبنان عام 1869، وكان ذلك في الليلة الأولى من رمضان، والتحق بمدرسة الحكمة في 1886، وتعلم اللغة التركية والفقه في المدرسة السلطانية في بيروت. وكان حدثان حاسمان قد لعبا دورا هاما في تشكيل فكر شكيب، وهما لقاؤه بالإمام محمد عبده (الإصلاحي)، وهي العلاقة التي قادته فيما بعد الحدث الثاني، وهو لقاؤه بجمال الدين الأفغاني (الثائر).

عائلة أرسلان هي إحدى العائلات التي حكمت باسم الدولة العثمانية وشكيب كان كبيرها وشيخها

شيخ عائلة أرسلان.. أيادي السلطان التي يحكم بها الأقاليم

نشأت الدولة العثمانية -التي كان يدين لها الأمير بالولاء- على مبدأ الغزو والتوسع، فتمددت غربا في أوروبا، وجنوبا في المنطقة العربية، وكان يحكمها السلطان العثماني (خليفة المسلمين)، ويعاونه الصدر الأعظم ومجموعة الدواوين والإدارات المحلية والجيش، وإقطاعيات محلية تلتزم بدف الضرائب للباب العالي بصفته المالك أو الحامي للمنطقة.

وتعتمد السلطنة على العائلات الكبيرة في الحكم المحلي، وكانت عائلة أرسلان من هذه العائلات، وكان شكيب هو كبيرها وشيخها، وكان عضوا في مجلس المبعوثان (البرلمان الأوروبي)، وتمرّس على الحكم والإدارة وهو يافع، فقد كان مديرا للشويفات وهو ابن 22 عاما فقط، ولم تُرضِ طموحَه العالي إدارةُ جبل لبنان فقط، فتوجه إلى الأستانة (إسطنبول حاليا).

في عام 1902 عيِّن متصرفا، وذلك خلفا لنعوم باشا، وجمع الدروز على طاعة الدولة حينما كلّفه والي الشام بزيارة جبل الدروز. وقد كان سياسيا ومفكرا، ورجلا مؤثرا في محيطه المحلي والعربي، وكان مواليا للسلطنة ومحبا لها، وهذا ما جمع عليه الأعداء من كل صوب، وخصوصا من قوى الاستعمار الفرنسي والإنجليزي، فكثرت عليه الوشايات إلى الباب العالي حتى عزل عن قائمية جبل الشوف.

بعد عزل السطان عبد الحميد الثاني تولى أخوه السلطان محمد الخامس الحكم

عزل السلطان.. جيش المنشقين القادم من اليونان

في زمن السلطان عبد الحميد ساءت الأحوال في السلطنة، فقد كان السلطان يستمع إلى تقارير الجواسيس الذين عينهم بكثرة في أنحاء الدولة، وهذا ما أضعف الثقة بين الناس والحكومة. ثم إن الدولة تخلفت عن الركب العالمي المتقدم، سواء في مجال السياسة والحريات، أو في مجال التكنولوجيا والعلوم.

ولذا فقد اجتمع بعض الشباب الأتراك في سيلانيك اليونانية، وشكّلوا جمعية سرية أطلقوا عليها “الاتحاد والترقي”، وصار جلّ اهتمامها جلب قادة الجيش إلى صفها من أجل خلع السلطان، وقد حصلت انشقاقات كبيرة في الجيش شجعت الاتحاد والترقي على إعلان الدستور الجديد، وتجمّع فيلقان من الجيش في صفها، ثم توجها إلى الأستانة بقيادة شوكت باشا.

لم يبدِ السلطان أي مقاومة، وانضم سبعة آلاف من حرس قصر يلدز إلى شوكت باشا، وقرر مجلس الأمة عزل السلطان عبد الحميد في 26 نيسان/أبريل 1909، ونودي بمحمد الخامس أخي السلطان المخلوع سلطانا وخليفة.

أنور بيك الملحق العسكري الليبي في برلين يشكل في بنغازي قوات خاصة لدعم ثوار ليبيا

غزو طرابلس.. صرخة شرقية في وجه الاحتلال الإيطالي

عندما هاجمت إيطاليا طرابلس الغرب في 1911 كان شكيب أرسلان في لبنان يتابع الأحداث ويحض العرب في تونس ومصر على مساندة إخوانهم الليبيين، بل إنه أرسل برقية إلى حسين حلمي باشا في الأستانة ليرسل مددا إلى الليبيين في مواجهة الإيطاليين، وخاطب ناظر الحربية شوكت باشا لإرسال ضباط متنكرين في ثياب البدو ومعهم المال لمساندة السادة السنوسيين.

وبالفعل استجاب أنور بيك الملحق العسكري في برلين، فعاد إلى الأستانة واصطحب معه المال وبعض الضباط، وسبقه أرسلان إلى غزة ليكون في انتظار العساكر المتوجهين إلى ليبيا، وقام أنور فور وصوله إلى بنغازي بتشكيل قوات خاصة قوامها رجال استخبارات عثمانيون لتقديم الدعم المعلوماتي لثوار ليبيا.

 

الأمير شكيب أرسلان: “إن لم ندافع عن صحاري طرابلس الغرب فلن نستطيع الحفاظ على جنائن طرابلس الشام”

جيش المجاهدين.. نجدة لبنان للشعب الليبي

وقام شكيب أرسلان بنفسه بتجميع عدد من المجاهدين بلغوا 500 مقاتل جمعهم في بيته بمدينة صوفر في لبنان، وتوجه بهم عبر الساحل الفلسطيني إلى مصر، ومن الإسكندرية بالقطار إلى آخر نقطة للسكة الحديد في ليبيا، ثم بدأوا الانتقال بواسطة الخيل، وكانت جمعية الهلال الأحمر قد أرسلت معه 600 جمل محملة بالطعام والمعونات الطبية لأهل طرابلس.

وكانت نصيحته لأهل طرابلس الغرب، أنهم لا يستطيعون هزيمة إيطاليا بسرعة وسهولة، ولكنهم يستطيعون كسر استراتيجية إيطاليا المبنية على إنهاء المقاومة في ثلاثة أشهر، وذلك بإطالة أمد الحرب، وبالفعل فقد استمرت الحرب بفضل نصائح شكيب أكثر من 20 عاما، وأبلى العثمانيون بلاء حسنا بقيادة أنور باشا الذي استحكم في درنة.

وفي ليبيا قال الأمير شكيب أرسلان قولته المشهورة: “إن لم ندافع عن صحاري طرابلس الغرب فلن نستطيع الحفاظ على جنائن طرابلس الشام”، فالمعركة واحدة، وهذا يدل على بعد نظر الرجل وسعة إدراكه وعلمه بمآلات الأمور.

معركة طرابلس فتحت معارك أخرى في البلقان، وكانت شرارة الحرب العالمية الأولى

“نار أوروبا من شرارة البلقان”.. نبوءة الحرب العالمية

فتحت معركة طرابلس معارك أخرى في البلقان، وكانت هذه شرارة الحرب العالمية الأولى، وقد كتب أرسلان في جريدة الشعب المصرية قبل الحرب العالمية بعام ونيف تحت عنوان “نار أوروبا من شرارة البلقان”، وذكر أن حربا عامة بين كبار أوروبا لا بد أن تشب، وتكون حرب البلقان بالنسبة لها مزحة، وستكون نواتها بين النمسا وصربيا، وقد حصل ذلك بالفعل.

والواقع أن الإمبراطورية العثمانية الشاسعة لم تكن على مستوى التقدم العلمي والتقني والحضاري الذي حدث في أوروبا ولم تستطع مواكبته، وأن بداية انكسارها كانت بالتقوقع حول القومية التركية الضيقة وترك الامتداد العربي الإستراتيجي، وقد تنبأ بذلك جمال الدين الأفغاني عندما قال: ترك اللغة العربية في أواخر القرن 19 هو أول مسمار يدق في نعش السلطنة العثمانية.

وقد دبت الفرقة والانقسام تمزقان الصفوف، ليس بين قوميات السلطنة فقط، بل بين أجنحة الجيش ذاته، وأدت الهزائم المنكرة في حرب روسيا وحروب البلقان إلى إنهاك الجيش العثماني وانهيار معنوياته.

في الحرب العالمية أرادت تركيا أن تقف على الحياد، أو أن تقف بجانب إنجلترا وفرنسا أو حتى روسيا، ولكنهم رفضوها، ودفعوها دفعا إلى أن تقف بجانب ألمانيا. وكانت فرنسا وبريطانيا قد اتفقتا سرا قبل الحرب على تقاسم سوريا وفلسطين، وهذا عامل رئيسي في رفض التحالف مع تركيا.

جمال باشا يستعرض الجيش المتطوع في غابة الصنوبر في بيروت ويخطب فيهم

“مستعد أن أفدي الوطن بحياتي”.. مؤسس جيش المتطوعين

طلب جمال باشا من أرسلان تشكيل كتيبة لبنانية من 1500 رجل لتكون جاهزة عند الطلب، واستجاب أرسلان لهذا الطلب حتى يجنّب عامة السكان عقبة التجنيد العام، وانبرى أرسلان يطوف القرى والمدن ويقنع الناس بحضوره الشخصي الطاغي، حتى استجاب الشباب له طوعا، وقيَّد في سجلاته خلال شهر ونصف فقط تسعة آلاف متطوع.

استعرض جمال باشا الجيش المتطوع في غابة الصنوبر في بيروت وخطب فيهم، وتوجه بكلامه إلى الأمير شكيب أرسلان، وأثنى عليه بأكرم الصفات، وطمأنه أن الدولة لن تنسى له وقفته الشجاعة هذه، فرد عليه أرسلان: لم أقدم شيئا بعد، ومستعد أن أفدي الوطن بحياتي، وأرى ذلك فرضا على الجميع.

جمال باشا

جمال باشا.. يد الخلافة الباطشة في بلاد الشام

شنت الاستخبارات التركية غارتين على القنصليات في دمشق وبيروت، واكتشفت أنهم كانوا يراسلون الإنجليز والفرنسيين، وقبض جمال باشا على بعض رجالات العرب مثل رضا الصلح وعبد الكريم الخليل وغيرهم، وأعدم الكثير من أعضاء المنتدى الأدبي في دمشق وبيروت لصلتهم بالفرنسيين والإنجليز، وحاول أرسلان التوسط لدى جمال باشا ليثنيه عن إعدام الاستقلاليين، ولكنه لم يفلح.

كانت الإعدامات صحيحة من الناحية القانونية، ولكن جمال باشا المتسرع النزق لم يحسبها سياسيا، ودليل ذلك أن هذه الإعدامات لم تخمد جذوة الاحتجاجات العربية ضد سياسات الأتراك، ولم يطل الأمر حتى قامت الثورة العربية الكبرى، وكانت وجهة نظر أرسلان أن جمال باشا بسياسته في سوريا قد جرَّ على العثمانيين والأمة الإسلامية جمعاء الويلات والمصائب كلها.

وقد دفع أرسلان ثمن هذا الولاء المزدوج غاليا، فهو من جهة كان يوالي الدولة العثمانية بقوة، ومن جهة أخرى كان يعارض بشدة سياسة رجلها القوي ضد الاستقلاليين العرب في سوريا ولبنان.

سقوط القدس.. حين يكون المنفى أخف الضررين

غادر شكيب أرسلان إلى برلين وبقي فيها إلى أواخر 1918، وشهد من هناك سقوط القدس الشريف في يد الجيش الإنجليزي، وقد أصابه من الغم ما أصابه على سقوط هذا البلد المقدس الذي دافع عنه المسلمون بدمائهم منذ الفتح العمري، وزاد من غمه أن المستعمرين الجدد صاروا يشيعون في أوساط اللبنانيين أن أرسلان كان ضد الموارنة، وكان يمنع إمداد لبنانيي المهجر إلى إخوانهم أثناء المجاعة.

ولقد دافع عن الأمير كتّاب من الموارنة أنفسهم، وأوضحوا أن الذي كان يفرض الحصار على موانئ لبنان هم الحلفاء أنفسهم، ولولا تصدّي هؤلاء الكتّاب وبعض الوطنيين المخلصين لكان مصير أرسلان الإعدام المحتم.

قبل توجهه إلى برلين، استقر مؤقتا في مرسين التركية، وحاول هناك أن يشكل جبهة من بقايا العثمانيين لمواجهة المشروع الاستعماري الغربي، ولكن تركيا كانت قد انطوت على نفسها وطوت صفحة الخلافة الإسلامية إلى الأبد، فغادر إلى برلين، وهناك أقنعه أنور باشا بالتوجه معه إلى موسكو، فتردد كثيرا ثم وافقه، ومكث في موسكو شهرا واحدا، ثم تركها في يوليو/تموز 1921، وكان ذلك آخر عهده بأنور.

ألغى أتاتورك الخلافة، ومنع الكتابة بالعربية، وفرض على الناس لبس القبعة الغربية بدل العمامة والطربوش والكوفية العربية، وأغلق كثيرا من المساجد

معركة الجامعة الإسلامية المنفتحة.. حقبة ما بعد الخلافة

وقف أرسلان مع تركيا العثمانية في مواقفها وحروبها ضد الأعداء، وخالفها جدا عندما توجهت إلى القومية الضيقة وانطوعت على نفسها وتنكرت لرسالتها الإسلامية العالمية، فقد ألغى أتاتورك الخلافة، ومنع الكتابة بالعربية، وفرض على الناس لبس القبعة الغربية بدل العمامة والطربوش والكوفية العربية، وأغلق كثيرا من المساجد.

دعا أرسلان إلى الجامعة الإسلامية المنفتحة على القوميات والعصبيات والأقليات الأخرى، فقد كان لا يحب التعصب القومي الضيق، وكان لا يرى أن القومية العربية يجب أن تتصادم مع الدين، وكان يرى في الإسلام الإطار العام الحامي للأقليات والقوميات المختلفة.

ترك شكيب برلين عام 1925 عندما طلب منه سلطان باشا الأطرش وأخوه عادل أرسلان التوجه إلى جنيف لتمثيل الثورة السورية الكبرى في عصبة الأمم، ولم يزل هنالك حتى 1927، وكانت لديه توكيلات من قوى عربية أخرى كثيرة لتمثيلها في هذا المحفل الدولي، بل وتراسل مع الحركة الوطنية الغربية من أجل إيصال صوتها للأحزاب الأوروبية المناهضة للاستعمار.

حاول شكيب إيجاد هوية للثورات ضد المستعمر في المغرب العربي، وبدل أن تكون ماركسية أو عصبية فإنه حاول توجيهها نحو الهوية الإسلامية، ونجح إلى حد كبير، ولذلك حاولت قوى الاستعمار الغربي توظيف المسألة البربرية في تأليب المغاربة ضده.

قبيل موته، عاد شكيب أرسلان إلى لبنان ليموت فيها عام 1946 وأوصى بفلسطين

“أوصيكم بفلسطين”.. وصية أخيرة للمسلمين والمسيحيين الشرقيين

لقد حاول هذا المفكر الإسلامي أن يجمع العرب والقوميات المسلمة تحت راية الإسلام، وكان يرى أن المسيحيين الشرقيين يمكن أن يكونوا ضمن هذا الجسم الإسلامي الكبير في وجه الهجمة الغربية، وكان يدعو للوحدة العربية في ظل راية مسلمة، وكتب في هذا كثيرا أثناء رحلاته المتعددة، سواء إلى ليبيا أو المغرب أو اليمن، وقبلها في سوريا وفلسطين مصر.

في أواخر أيامه رجع إلى بلدته ليموت فيها عام 1946، بعد حياة زاخرة بالعطاء والفكر والأدب، مليئة بالسياسة والإدارة والقتال، مفعمة بالولاء لأمة الإسلام الجامعة ومقدسات المسلمين وجمع كلمة العرب. وكان مما كتب في وصيته كلمتان هامتان: “أوصيكم بفلسطين”.


إعلان