“جولة أخرى”.. وهم السكارى الباحثين عن السعادة الكحولية

 

خالد عبد العزيز

“السعادة مثل الفراشة، وحين تلاحقها فلن تمسك بها، لكن إن كنت هادئا ستأتي وتحط على كتفك”. هكذا يقول الكاتب والروائي الأمريكي “ناثانيل هاوثرون” عن الإحساس بالسعادة، وما يصاحبه من ركض وراء ذلك الإحساس المبهم العصي على التفسير.

ولا شك أن السينما العالمية طرقت دروب ذلك الإحساس وغيره من الأفكار الفلسفية التي تؤرق العقل والنفس الإنسانية، رغم أن بعض هذه التجارب أصابها الجفاف الذهني، شأن الفلسفة وما يرافقها من ذهنية قد تؤثر على تلقي العمل الفني، لكن الفيلم الدانماركي “جولة أخرى” (Another Round) يبدو مختلفا عن السائد في هذه النوعية من الأفلام.

أنتج الفيلم عام 2020، ووقع اختياره في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي، ورُشح لجائزتي أوسكار عن فئة أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، وفئة أفضل إخراج.

يتناول الفيلم -الذي كتب له السيناريو وأخرجه الدنماركي الكبير “توماس فينتربرغ” بمشاركة في كتابة السيناريو من “توبيس ليندهولم”- أفكارا عدة تشترك جميعها بلمستها الفلسفية، وإن كان الطرح هنا بالغ الحساسية والرهافة.

تُرى ما الذي يجعل الإنسان فاقدا للشغف والرغبة في الحياة؟ يبدو وكأنه جثة تسير على قدمين، لا روح لها ولا قلب، ما الذي يجعل الإنسان تعيسا إلى هذا الحد؟

الفيلم يطرح أزمة وجودية طالما أرّقت عقول الكثيرين وهي البحث عن السعادة، وأين تكمن السعادة؟ هل تنبع من الداخل، أم تحتاج لمحفز ومثير خارجي يخرج من رحمه هذا الإحساس؟

أربعة أصدقاء يستقبلون خريف أعمارهم وهم يعانون من أزمة منتصف العمر، حياتهم تبدو على المحك بين ملل وتكرار يفرض سيطرته على نطاق وجودهم، وبين بحث عن شيء جديد يُظلل حياتهم، وحينها تبرق في ذهن أحدهم فكرة ما تساعدهم على شحذ نفوسهم بالسعادة، مستعينين بالمشروبات الكحولية كعامل مساعد لاستقبال بواعث الحياة المعطوبة لديهم.

يلقي الفيلم الضوء على هذه التجربة، تُرى هل سيحالفهم النجاح، أم سيظل الفشل والإخفاق يحيطان بهم؟

 

سباق إلى صندوق الجعة.. براعة الاستهلال

يُدخلنا الفيلم منذ مشاهده الأولى في قلب موضوعه وصلبه دون أدنى مواربة، فتظهر في المشهد الاستهلالي مجموعة من طلبة إحدى المدارس الثانوية أثناء ركضهم في سباق بجوار البحيرة، والفائز يحصد صندوق جعة كاملة، لينطلق بعدها الشباب نحو المواصلات العامة ويثيروا الشغب بعد غيابهم عن وعيهم، ثم يُقطع المشهد قطعا مونتاجيا حادا، لنتحول إلى مشهد آخر نرى فيه اجتماعا لهيئة التدريس وهي تتابع تداعيات تلك الأحداث.

اختار الفيلم من خلال المشهد السابق أن يعرض فكرته رأسا ليُقدمها للمتفرج على طبق من فضة، فبحث هؤلاء الشباب والمراهقين عن سبيل لإسعاد حياتهم ووسمها بالمرح، يُقابله رفض حاسم من إدارة المدرسة التي تُقرر منع تناول المشروبات الكحولية، ليعترض أحد المدرسين قائلا “هذا أشبه بإغلاق المدينة”.

يشير هذا المشهد إلى حالة الكبت التي سيُعاني منها الجميع، فالوسيلة المتاحة للمتعة بالنسبة لهم هي احتساء الكحول دون توقف، متناسيين أن الغياب التام لن يُقدم أو يؤخر شيئا، بل سيراكم أزماتهم التي ستظل تبحث عن حلول جذرية، ليأخذ الفيلم بُعدا آخر أكثر شمولية، وهو تأثير الكحوليات على أوروبا والبلاد الغربية بصفة عامة، ففي أحد المشاهد نجد زوجة أحد المدرسين تُخبره قائلة “لا يعنيني أحد، فالجميع يشرب بجنون في هذا البلد”.

وبالتالي يكشف لنا السيناريو عن البيئة المُحيطة بالأحداث، مُقدما شيئا فشيئا سمات وصفات ذلك العالم وشخوصه، فهو عالم يبدو هادئا ومستقرا بقدر ما يحوي بداخله بوادر زلزال على وشك زحزحة ركوده.

الممثل مادس ميكيلسن الذي قام بدور أستاذ التاريخ مارتن وهو يعطي حصة دراسية لطلابه

 

إزاحة الستار عن الشخصيات.. سيمفونية الفيلم

اعتمد السيناريو في بناء أحداثه على أسلوب المقطوعة الموسيقية، فالسيمفونية تتكون من مقدمة ويعقبها ثلاث حركات، ولكل حركة أسلوبها وإيقاعها الموسيقي المختلف عن الحركة التي تليها أو التي تسبقها، وهذا ما سعى السيناريو إليه طوال الفيلم، وبشكل يجعل الفيلم أكثر حساسية في عرض مضمونه، ويصل أكثر للمتفرج.

تأتي المقدمة مع المشاهد الأولى من الفيلم، حيث مجموعة الطلبة الفرحين من تأثير نشوة الخمر يقيدون ضابط المواصلات العامة داخل مترو الأنفاق، وينطلقون في سعادة، ثم قطع مفاجئ، إيقاع المشهد بالغ السرعة، ولقطات قصيرة المدى ذات تأثير أوصلت الحالة العامة للفيلم قبل بدايته، مثل المقطوعة الموسيقية التي تبدأ عادة بحركة سريعة مثل السوناتا.

ثم يأتي الدور على الحركة الأولى التي عادة ما تكون بطيئة، وهنا يُزيح السيناريو الستار عن شخصيات الفيلم، يُقدمها ويُفسح لها مساحة لا بأس بها للكشف عن هويتها وتفاصيل حياتها، والأهم أزماتها الشخصية، رغم بطء هذا الجزء من السرد الذي قد يبدو الأبطأ طوال مدة الفيلم، لكنه يُعد حجر الزاوية في بناء الأحداث التالية، وكأنه أرض صلبة تنطلق منها الأحداث وتتشعب نحو الذروة المنتظرة.

ففي هذا الجزء تتتبع الكاميرا حياة أربعة أصدقاء هم “مارتن” (الممثل مادس ميكيلسن) أستاذ التاريخ، و”تومي” (الممثل توماس بو لارسن) أستاذ التربية الرياضية، و”نيكولاي” (ماغنوس ميلنج) أستاذ علم النفس، و”بيتر” (لارس رانثي) أستاذ الموسيقى، وهم يعملون معا في إحدى المدارس الثانوية وأعمارهم متقاربة، وتقع في المنطقة الرمادية بين الشباب والكهولة، ولكل منهم حياته التي لا تخلو من أزمة ما، وإن اتفق الجميع على فقدان الرغبة في دفع مسار الحياة أكثر، لتبدو حياتهم مُسيّرة بقوة أكبر منهم لا يشوبها سوى الملل والتكرار.

 

حفل عيد الميلاد.. قذيفة السيناريو المدوية

يلتقي الأصدقاء الأربعة في حفل عشاء للاحتفال بعيد ميلاد “نيكولاي” الأربعين، وأثناء حديثهم معا يُطلق “نيكولاي” قذيفة مُدوّية، وهي اكتشافه لإحدى نظريات علم النفس للفيلسوف والطبيب النفسي النرويجي “فين سكارديرود”، وهي تتعلق بمستوى نسبة الكحول في جسد الإنسان التي لا تزيد عن نسبة 0.05 %، وبالتالي –حسب النظرية- يجب الحفاظ على هذا المستوى، كيف؟ عبر شرب الخمر باستمرار للحفاظ على هذه النسبة.

وعند هذا المشهد الطويل نسبياً، يُدخلنا السيناريو في الحركة الثانية، وهي مراحل تطبيق هذه التجربة على الأصدقاء الأربعة، وهنا يقع الإيقاع بين السرعة والبطء، البطء في سرد تجارب هؤلاء الأصدقاء مع الخمر، والسرعة في تلقي آثار هذه التجربة.

وعند الوصول للآثار الناتجة عن التجربة، نصل للحركة الأخيرة وهي الخاتمة، وبيان مدى فعالية كل ما جرى، والأهم هو استخلاص الحكمة أو النتيجة المرجوة المنتظرة من تلك الأحداث المتدفقة ذات الإيقاع السريع اللاهث كالمطرقة على السندان.

صورة تجمع الأصدقاء الأربعة مارتن وتومي ونيكولاي وبيتر الذين يبحثون عن السعادة في الكحول

 

عشاء الأصدقاء.. شرارة التحول الدرامي

إيقاع الفيلم هادئ يتسرب لنفس المتفرج بالتدريج، لكن هذا الثبات يسعى للانفلات من عُقاله، لذا فإنه طوال الأحداث يُطعم السيناريو ببعض المواقف التي تدفع السرد للأمام وتطور القصة، ففي أحد المشاهد نرى “مارتن” وهو يسأل زوجته “أنيكا” قائلا لها: هل أصبحت مُملا؟ لتأتي إجابتها كالآتي: ما عدت تشبه “مارتن” الذي التقيت به أول مرة.

بهذا المشهد يكشف السيناريو عن جزء أصيل من فكرة الفيلم، وهي أزمة منتصف العمر التي تُصيب بطل الفيلم الرئيسي “مارتن”، سؤال قد يبدو تلقائيا، لكنه يُخبئ بداخله وجعا وألما وإحساسا بعدم المبالاة.

تسير حياة “مارتن” وفق منوال ثابت لا يتغير، فحياته الأسرية مع أبنائه أو زوجته يصمها جدار ضخم من الجليد، ولم يسع “مارتن” أو “أنيكا” إلى محاولة ولو يسيرة لشق هذا الثلج المتراكم على حياتهما، فجريان الحياة دون إضافة أي من توابل السعادة عليها يجعل مذاقها ناقصا ويفتقد الطزاجة.

أثناء حفل العشاء يطرح “نيكولاي” رؤية الفيلسوف “فين سكارديرود” المتعلقة بنسب الكحول في دم الإنسان، وهنا يخلق السيناريو نقطة دافعة للأحداث ومُغيرة لمسار السرد، ويتحول فجأة “مارتن” من النقيض إلى عكسه، وتصيبه نوبة بكاء فجائية لا يدري سببها على وجه التحديد، فكل ما يشعر به هو فقدان السعادة، فهو يرى أن حياته تحولت إلى عدم، وأنها خاوية من المعنى، ليصبح هذا اللقاء بين الأصدقاء الأربعة شرارة التحول الدرامي، ومحركا أساسيا للأحداث التي تتجه دفتها نحو البحث عن السعادة، وهي جوهر الفيلم ومضمونه.

 

كسر العجز بكؤوس الخمر.. صراع درامي

يتحسس السيناريو طريقه في حياة الأصدقاء الأربعة، فلكل منهم أزمته التي تبحث عن حل وتجعل حياته ثقيلة يكتنفها الملل، وحينها يطرح “نيكولاي” رؤيته عن تناول المشروبات الكحولية باستمرار، ظنا منه أن الشراب يُحسّن من مزاج الفرد ويجعله شخصية أفضل.

لكن “مارتن” يرى في هذا الطرح حلا لأزمته، فالأزمة التي تضرب نفس “مارتن” وأصدقائه منبعها الداخل، فهو يُعاني من شعور تام بالعجز حيال حياته ويشعر الطلبة أمامه بالملل، وأما زوجته فهي لا تطيق رفقته، ويمتد هذا الإحساس لنفسه التي تسأم منه ومن شخصيته التي تبدلت عبر الزمن، وتحولت لشخصية أخرى فاقدة للشغف.

الصراع الدرامي في الفيلم يتعلق بالداخل الإنساني، أي ما يدور في أروقة النفس الإنسانية بتشعباتها ومكنونها الداخلي، وما تعانيه من عذابات وصراعات داخلية قد لا تطرأ على السطح، وإن ظهر منها ما بطن فإنه يكون انعكاسا للتفاعلات الدائرة في الداخل التي قد لا يدري عنها الإنسان شيئا.

مارتن يسعى لرأب الصدع بينه وبين زوجته التي لم تعد ترى فيه زوجا باعثا على الملل

 

ملامح الحياة الجديدة الناجحة.. ثمار الخطة

يبدأ الأصدقاء في تنفيذ خطوات التجربة، فيصطحبون معهم زجاجات الخمور داخل المدرسة، ويشربون كؤوس الخمر صباحا بدلا من تناول الإفطار، وأثناء العمل لا مانع من بعض الرشفات السرية، حيث يرون أن حياتهم تأخذ منحى أفضل بفضل تلك التجربة.

تتحسن علاقة “مارتن” بزوجته، إذ لم تعد ترى فيه ذلك الزوج الباعث على الملل، كما أن أداءه داخل الفصل يتبدل تماما فأصبح الطلاب يُقبلون على حصة التاريخ بعدما كانوا ينفرون منها ومن أساليب “مارتن” القديمة في التدريس.

يصبح الكحول شريكا أساسيا في الحياة، فهو إكسير السعادة بالنسبة للأصدقاء، وهنا يُبعث من رحم السيناريو ذلك السؤال المنتظر، ألا وهو هل منبع السعادة هو تلك المشروبات الروحية، أم تكمن في رغبة حقيقية من الداخل؟

هذا ما تكشف عنه مصائر الشخصيات بعد ذلك التحول الطارئ في حياتهم.

المخرج الدنماركي توماس فينتربرغ مع الممثل الكبير مادس ميكيلسن

 

مراحل الوهم الثلاث.. تجربة الركض وراء السراب

يرصد السيناريو التجربة بروية وحنكة، حيث تمر تجربتهم بثلاثة مراحل، الأولى بداية التجربة وملاحظة التغيرات الأولية على نفوسهم وشخصياتهم، والثانية حياتهم أثناء التجربة نفسها بعد الولوج إليها بأقدامهم، أما المرحلة الثالثة فهي آثار تلك التجربة عليهم. الملاحظ أن حياتهم قد يكون طرأ عليها بعد التغيرات بالفعل، لكن هل هذه التغيرات حقيقية، أي أنها نابعة من رغبة حقيقية لديهم؟

بالتأكيد لا، فالمؤثر خارجي، وإذا ابتعدوا للحظات عن تأثير الكحوليات فستعود حياتهم إلى ما كانت عليه، وبالتالي تصبح التجربة كأنها لم تكن. وهنا يرصد السيناريو بجلاء نقطة أخرى وهي تأثير الوهم على حياة الإنسان، وكيف يصبح الإنسان عبدا لهذا الوهم الذي خلقه لنفسه تحت دعوى البحث عن السعادة، لكنه في الحقيقة يركض وراء السراب.

يقول مخرج الفيلم فنان السينما الدنماركي الكبير “توماس فينتربرغ”: شعرت أن نسج قصة فيلم عن المشروبات الكحولية تحتاج إلى الضحك والكوميديا، لكن الفيلم يدور حول أكثر من شرب الخمور، إنه حول محاولة العيش بديلا عن فكرة الوجود فقط.

فقد اعتمد بناء الفيلم على الكوميديا كنهج أساسي في السرد، بجانب المواقف الدرامية التي طعّمت الفيلم، ولا شك أن أداء الممثل الدنماركي الكبير “مادس ميكلسن” بتعبيرات وجهه الآسيانة المعبرة قد أضفى على الفيلم بُعداً آخر من المتعة والجمال، مثل مشاهد الأصدقاء الأربعة وهم يحتسون الشراب على أنغام الجاز ويرقصون في ابتهاج، ثم ينقلب الموقف رأسا على عقب بعد وصولهم للذروة.

مارتن يرقص مبتهجا مُتناسيا ألم ظهره الذي كان يعوّقه عن الرقص سابقا، في إشارة إلى أن السعادة منبعها من الداخل

 

مرحلة الذروة.. صحوة تفسد نشوة الوهم

يصل الأصدقاء الأربعة لمرحلة جديدة من التجربة وهي الذروة، إذ يحتسون كميات لا تُحصر من الخمر، وهنا نصل لنتائج النظرية المزعومة عن السعادة وهي الإخفاق، فحياتهم توشك على الانهيار، فـ”مارتن” تبتعد عنه زوجته وتكاد حياته الزوجية أن تصل لحافة الانهيار، أما “تومي” فيُلقي بنفسه في البحر مُنهيا حياته باختياره، وذلك بعد اكتشافه أنه يبحث عن الوهم.

يلتقي “مارتن” بأصدقائه أثناء حفل تخرج طلاب المدرسة، ليبدأ في الرقص بحرّية وبهجة لا توصف، مُتغاضيا عن ألم ظهره الذي كان يعوقه عن الرقص سابقا، في إشارة إلى أن السعادة منبعها الداخل، فحينما بلغ “مارتن” السعادة الحقيقية تَخفف من وطأة ألمه، وهذا ما يُريد الفيلم توقيعه على قلب المتفرج بأسلوب فني مُعبر وبالغ الحساسية والرهافة، وهو أن السعادة لا تتحقق إلا برغبة من الإنسان، إذا رغب به تحقق له ما أراد، وإن لم يرغب ابتعد عن السبيل.


إعلان