“ماكونغو”.. محاربة الأمية في غابات الأقزام الأفارقة

قيس قاسم

يدخل المخرج “ألفيس سابين نغايبينو” إلى عالم قبائل “أكا” الأفريقية ذوي القامات القصيرة، من خلال شابين وحيدين منها تمكنا من الحصول على فرصة نادرة للدراسة وتعلم القراءة والكتابة في مدارس رسمية، أما بقية أبنائها فما زالوا محرومين من نعمة التعليم.

تختلف أسباب الحرمان من التعليم مختلفة، من بينهما النظرة الدونية التي ينظر بها مجتمع جمهورية أفريقيا الوسطى إليهم، ويتعامل عامته معهم انطلاقا من تكوينهم الجسماني، فهم يصفونهم بأنهم أقزام متخلفون معزولون في الغابات ولا يعرفون معنى الحضارة.

يُضاف إلى ذلك الفقر كعنصر مُعوّق لتوصيل أبنائهم إلى المدارس الرسمية، فعجزهم عن تسديد تكاليف الدراسة في المدارس الحكومية دفع الشابين المُتعلمين “أندريه” و”ألبرت” لإطلاق مبادرة فردية تهدف إلى تعليم أبناء منطقة مونغومبا القراءة والكتابة، إذ تكفلا بدفع أجور تعليمهم الرسمي من بيع محصول يرقات أو ديدان الأشجار المسماة ماكونغو، وهي المصدر الاقتصادي الأساس لسكان المنطقة.

 

يرقات “ماكونغو” المتسلقة.. مصدر الغذاء ومنبع الاقتصاد

يحمل الوثائقي الرائع “ماكونغو” نفس اسم اليرقات البرية، في إشارة ضمنية من صانعه إلى أهميتها في حياة سكان قبائل المنطقة المعزولة، باعتبارها مصدرا غذائيا وماليا يُعوّل عليه في تعليم أبنائها.

تلك الإحالة تتضمن قراءة تحليلية لأسلوب حياة مجتمع الـ”أكا” من منظور سينمائي يعتمد على عرض الواقع، والغور في أعماقه بحثا عن معارفه وروحه الحيّة التواقة للتوافق مع الطبيعة، ومع مستلزمات الحياة العصرية.

تجلي رحلة الشابين اليومية إلى المدرسة جانبا من ذلك التوق، إذ يقطعان الغابة مشيا على الأقدام، ويحملان على أكتافهما حقائب مدرسية بسيطة مصنوعة يدويا من أغصان الأشجار، ويشربون مياه الأمطار المتجمعة في حفر صغيرة داخل الغابة، بينما يراقبان خلال رحلتهما حال اليرقات المُلونة وهي تتسلق ببطء سيقان الأشجار، ويضعان موعدا تقريبيا للبدء بجمعها ثم بيعها.

تعليم الأطفال.. تحرير قرى مونغومبا من براثن التخلف

في بناية المدرسة البسيطة يقابل مديرها المتعاطف “ألبرت” و”أندريه”، ويخبرهما بأن معدلاتهما تؤهل كل واحد منهما للاستمرار في الدراسة، بشرط دفع رسوماتها بانتظام.

ويضيف على ملاحظته الدراسية تعليقا يُلمح فيه إلى إهمال أبناء قبائل الـ”أكا” العناية بنظافتهم ومظهرهم الخارجي، ويوصيهما بضرورة العناية بذلك الجانب تجنبا لنعت الآخرين لهم بالتخلف.

يبطن مزاحه معهما أيضا جانبا آخر من العلاقات الاجتماعية السائدة بين قبائل المنطقة، ومن بينها الزواج المبكر. ملاحظات المدير ومن دون علمه ستحفر لديهما فكرة تعليم وتحسين أحوال أطفال قرى مونغومبا بشكل خاص، فهؤلاء هم مَنْ يُعتَمد عليهم مستقبلا لتحسين صورتها وواقعها البائس.

 

رشوة الأصهار.. هدايا مباركة الزواج

فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي للشابين فهما متزوجان ولديهما أطفال رغم صغر سنهما، وتبدو علاقتهما العائلية جيدة، لكن ثمة منغصات فيها تتمثل بطمع آباء الزوجات بمزيد من الهدايا والعطايا مقابل مباركة زواجهما.

في مَشاهِد يتكشف خلالها بؤس حياة سكان القبائل المعزولة والمُهملة من قبل السلطات الحكومية، يظهر “أندريه” وهو يقدم بعض المال والهدايا المُصنَعة يدويا لوالد زوجته الذي يعلن بعد استلامها مباركة زواجه من ابنته، وعادة ما يكون الإعلان عن الموافقة عبر الموسيقى والأغاني المتضمنة في ثنايا كلماتها أخبارا ومواقف.

بذخ الموسيقى.. ثروة ثقافية في مجتمع فقير

تظل الموسيقى حاضرة طيلة زمن الوثائقي، وذلك لشدة ارتباطها بحياة سكان قبائل الـ”أكا”، ولها آلات بسيطة تكون مصنوعة عادة من بقايا آلات قديمة مثل الغيتار وغيره، أو مبتكرة محليا، وأما خاماتها فهي أخشاب الغابات ومعادن الأرض الغنية بالخيرات.

بالنسبة إلى هؤلاء السكان فالموسيقى هي مصدر لفرح دائم، وعند قبائل الـ”أكا” تمتاز إيقاعاتها بحلاوة لافتة، فكلمات أغانيهم موجزة كثيرة المعاني والدلالات. ذلك ما ينتبه إليه الوثائقي ويعتني بإبرازه باعتبار الرقص والموسيقى من بين المظاهر الثقافية المهمة التي تتمتع بها المنطقة رغم فقرها وشدة انعزالها.

 

يوميات الـ”أكا”.. عفوية التعايش مع الكاميرا

في تفاصيل حياتهم اليومية كثير من ما يشير إلى عادات قبائل الـ”أكا” وأسلوب عيشهم، ويحيل توثيقها الوثائقي إلى منجز معرفي يحيط بجوانب من حياة بشر لا تصل إليهم الكاميرا إلا نادرا، ورغم ذلك فإن تعاملهم معها بسلاسة يوفر مناخا سويا للتوثيق، ويمنح العمل السينمائي مصداقية أكبر، ويعطي فرصا نادرة لالتقاط التفاصيل.

يصور الوثائقي مواسم جني العسل وأساليب تسلق السكان للأشجار العالية. مهارة تكشف عن معرفة متوارثة منذ أجيال.

تأتي طقوس دفن الموتى عبر حدث مفاجئ، إذ تنقل الكاميرا مراسيم دفن طفل رضيع بالقرب من جدار بيت أهله، ويسجل أثناء مكوثه الطويل معهم لحظات الفرح والحزن التي يعيشها سكان المنطقة المكتفين بعيشهم على ما تمنحه الطبيعة لهم.

السبورة المتنقلة التي تُحمل على الأكتاف مُتنقلة من مكان إلى آخر لغرض التعليم المجاني لأطفال قبيلة “أكا”

 

أوراق الشجر.. مدرسة متنقلة في العراء الطلق

ثمة علاقة بين مشروع الشابين لتعليم أبناء المنطقة وبين موسم حصاد يرقات ماكونغو، فذلك ما تبديه جليا مَشاهِد التعليم والحصاد سوية.

يوميا يحمل الشابان سبورة على أكتافهم، وينقلونها معهم أثناء تجوالهم على قرى المنطقة، حيث يجتمع الأطفال في العراء ليتلقوا تعليمهم المجاني، لكنهم بسبب فقرهم لا تتوفر لديهم إمكانية لشراء الدفاتر والأدوات المدرسية، لهذا يلجأ “أندريه” و”ألبرت” إلى صناعتها يدويا من أوراق شجر الغابة، كما يصنعون الطباشير أيضا بأيديهم.

هذا كل ما يتوفر لأطفال قبائل الـ”أكا” في مدارسهم، ولتشجيعهم على مواصلة تعليمهم يتعهد الشابان بدفع أقساط الراغبين في مواصلة دراستهم في مدارس حكومية من مداخيلهم الخاصة المتأتية من بيع اليرقات بعد جنيها في الأسواق.

“الصيد جيد، السمك لذيذ، لكن المدرسة أروع”

تتوق روح التلاميذ من قبائل الـ”أكا” للعلم والمعرفة، فرغم الفقر يُقبل الأطفال بحماس على حضور دروس تعليم القراءة والكتابة، ولا يهمهم الوسائل البدائية المقدمة بها.

يستغل المعلمان “ألبرت” و”أندريه” الفرصة لتوعية سكان كل القرى التي يمرون بها بأهمية التعليم ودوره في تغيير نظرة الناس الدونية للـ”بيجمي” (أي القزم باللغة المحلية)، ويقدمان نفسيهما كمثال للقزم الجيد القادر على تجاوز الظروف الحياتية الصعبة والاستمرار في التعلم والدراسة.

يشعر أهالي الأطفال بالامتنان للمعلمين، والحرج أيضا من عجزهم عن تقديم مقابل مادي لجهدهما المبذول في تعليم أبنائهم، وهم أكثر الناس معرفة بأحوالهم الاقتصادية، وحاجة عوائلهم إلى دخل بسيط يُعين على مواصلة العيش.

الملفت أن المدرسة المتنقلة كل مرة تصل فيها إلى القرى، يستقبلها أطفالها بنشيد صباحي جميل يقول ما معناه: “الصيد جيد، السمك لذيذ، لكن المدرسة أروع”.

خلال موسم حصاد اليرقات الذي يُعتبر مصدرا اقتصاديا قويا لقبائل الـ”أكا”

 

موسم الحصاد.. تعاون عائلي في المياه الباردة

يعتبر التضامن الاجتماعي علامة بارزة في مجتمع قبائل الـ”أكا”، ويظهر بوضوح خلال موسم حصاد اليرقات، ولأهمية هذا الجانب يعمل الوثائقي على نقل مظاهره بكل دقة.

ففي موسم حصاد اليرقات يتعاون كل أفراد القبيلة نساء ورجالا وأطفالا، فيتوغلون في أعماق الغابة، ويخوضون في مياهها الباردة التي تكاد أن تغرق أجسادهم، وصولا إلى الأشجار التي تعيش اليرقات على أغصانها الخضراء.

خلال موسم الحصاد تتوقف الدراسة، لأن جميع التلاميذ يشاركون أهاليهم عملية جني اليرقات وتجفيفها.

أحد أفراد العائلة يتوغل في أعماق الغابة ويخوض في مياهها الباردة حتى يصل إلى الأشجار التي تعيش اليرقات على أغصانها

 

سهام العابرين الجارحة.. قساوة التمييز العرقي في العاصمة

مَشاهِد ذهاب الشابين لبيع اليرقات المجففة التي يقبل عليها سكان جمهورية أفريقيا الوسطى ويعتبرونها من بين الأكلات الفاخرة النوعية والمذاق؛ تظهر قساوتها بوضوح التمييز العرقي الممارس ضد الأقزام.

بعد بيعهما جزءا من المحصول في القرى الواقعة ضمن الحدود الجغرافية لمناطقهم والجوار القريب منها، ومقايضة قسم آخر منها ببضائع بسيطة، يقرر الشابان النزول إلى العاصمة بانغي لبيع الباقي منه في أسواقها العامرة، وفي الطريق يتحدثان عن أحلامهما بالسكن في العاصمة من أجل الدراسة في إحدى جامعاتها مستقبلا.

في كل مكان يحلان فيه وهما يحملان كيسا من اليرقات يسمعان من المارة كلاما جارحا يشير إلى أصولهم واختلاف أحجامهم عن بقية السكان، لكنهما يتجنبان التصادم بحكمة، ويعلقان باقتضاب على تهجمات العابرين.

نظرة الناس لهما مؤلمة، فهم يعاملونهما وكأنهما ليسا بشرا مثلهم، مما يدفعهما للهروب بسرعة من الشوارع بحثا عن مكان يأويهما إلى حين بيع كل البضاعة التي بحوزتهما، وعليها يعولان لتنفيذ وعدهما بدفع أقساط دراسة طلابهم.

أطفال قبلية الـ”أكا” الذين يحلمون بالحصول على فرصة دراسية تحقق لهم أمنياتهم بالحق في التعليم

 

ضيق الموارد.. بكاء المحرومين من حق الدراسة

يبيت الشابان في الشارع ليلتهما، لأنهما لا يملكان إمكانية دفع أجور المبيت في الفندق، وفي الصباح يدخلان سوقا ويجدان نفسيهما في معمعة لا يحسنان التعامل معها، فحذاقة التجار تربكهم، مما يضطرهم لبيع اليرقات بنفسيهما، وبعد بيعها يعودان بمال قليل لا يكفي لضمان دخول كل طلابهما لمدارس رسمية كما وعدا، فيُجبرهما العوز على تقليص عدد الطلاب المختارين لتكملة دراستهم.

مشهد بكاء المحرومين من الحصول على فرصة دراسية مؤلم، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن رغبة الإنسان -مهما كان شكله أو في أي ظروف يعيش- بتحسين مستواه، وزيادة وعيه والمطالبة بحقه في الحصول على تعليم مجاني.

يتفهم سكان القرية أسباب التقليص، لكن حزنهم على حرمان أطفالهم من فرص التعليم يُعبر ضمنا عن احتجاج سلمي على رهان إهمال الدولة ومؤسساتها التعليمية لفئة من أبناء البلد تتعرض للتمييز والإقصاء.

وثائقي المخرج “الفيس سابين نغايبينو” درس سينمائي يشرح معنى أن يكون الفيلم صوتا لمن لا صوت لهم، وأن يتوفر أيضا رغم بحثه وعرضه العميقين على اشتغال جمالي مبهر يجعله واحدا من بين أجمل وأعمق الوثائقيات المقدمة في دورة عام 2020 لمهرجان “إدفا” للفيلم الوثائقي في أمستردام.


إعلان