“أربعون عاما وليلة”.. زواج سري يفسد هدوء عائلة سعودية

عدنان حسين أحمد

لم تكن أم ناصر تتوقع من زوجها الذي اقترنت به قبل أربعة عقود وليلة، وأنجبت منه خمسة أشقّاء؛ أن يتزوج عليها في السرّ منذ ستة أشهر، ويقلب حياة الأسرة رأسا على عقب. ولولا حادث الاصطدام الذي تعرّض له أبو ناصر في تقاطع الملك فهد، ونُقل على أثره إلى المستشفى؛ لما عرف أحد بهذا الزواج التي سيثير زوبعة من التساؤلات المتباينة في أذهان أبنائه وبناته الذين صدمهم الخبر قبل أن يستوعبوه ويعرفوا الأسباب الحقيقية التي دفعت الأب للاقتران بامرأة ثانية.

تقع أحداث هذا الفيلم ليلة عيد الفطر المبارك، حيث يجتمع الأشقاء الخمسة وعوائلهم في بيت أبيهم استعدادا للاحتفال بهذه المناسبة الدينية الكبيرة، لكن حادث الاصطدام الذي وقع للأب سيربك الأسرة برمتها، ويجعلهم يتوافدون تباعا إلى المستشفى لزيارة والدهم والاطمئنان على صحته.

ورغم أن الحادث قد مرّ بسلام، فإنّ الطبيب الذي وضعه في الطوارئ أراد أن يتأكد من آلام العمود الفقري التي يعاني منها المريض عبد العزيز عبد الله، فطلب أن تُؤخذ له أشعة “أكس”، وأن تُجرى له بعض التحاليل المختبرية.

وبما أنّ تقنية المخرج الشاب محمد الهُليّل تتميز باعتمادها على النَفَس الدرامي العميق الممزوج بالسخرية السوداء، فلا غرابة أن نرى الزوجة المخدوعة أم ناصر وهي تقرأ المعوذَتين كي يتماثل زوجها للشفاء، وكانت تطلب من أبنائها الكفّ عن مضايقة أبيهم بالأسئلة عن كيفية وقوع الحادث ومكانه، ومن الذي أخطأ فيه؟

 

مصارحة الأبناء لآبائهم.. تعرية الجيل الجديد للمسكوت عنه

لا شكّ في أنّ القصة التي كتبها عبد الرحمن خوج محبوكة جيدا، وقد وضعنا في الدقائق العشر الأولى من الفيلم أمام المعضلة التي يجب أن تُحلّ بأي شكل من الأشكال، لكن الاحتكاكات التي ستحدث بين الأشقاء والشقيقات هي التي ستعرّي الأشياء المستورة، وتُفصح عن القضايا المسكوت عنها بسبب العادات والتقاليد المتعارف عليها.

فأبناء المجتمع السعودي في الوقت الحاضر لم يعد بإمكانهم تحمّل منظومة القيم الأخلاقية التي دأبوا عليها لعقود طويلة من الزمن، وصار الانفتاح على الأبوين وضرورة مصارحتهم بالآراء الصائبة والخاطئة أمرا لا بد منه في الأزمنة الحديثة. ومع أنّ الأبناء لم يصارحوا والديهم بحقيقة ما يشعرون به بصدد هذا الزواج السريّ، فإنهم على الأقل ناقشوا الأمر فيما بينهم، وتدارسوه من زوايا نظر مختلفة.

الأشقاء الخمسة يتناقشون في زيجة والدهم التي تهدد أركان الأسرة برمتها

 

مكتب الأب.. اسم مفاجئ في وثيقة الزواج

ثمة مفاجأة أخرى لم يتوقعها الأشقاء من أخيهم الأكبر ناصر (الممثل مشعل المطيري)، فبينما كانت الأختان مها (الممثلة رهف إبراهيم) ومودّة (الممثلة زارا البلوشي) تفتشان في مكتب والدهما عن بعض الوثائق؛ اكتشفتا عقد الزواج السري لوالدهما، لكن الأغرب في هذا العقد أن شقيقهم الأكبر ناصر كان الشاهد الأول على هذا الزواج، وأنه تكتّم على هذا الخبر طوال الستة الأشهر الماضية، ولم يُحِطهم علما بما حدث، الأمر الذي سيعرّض ميراثهم إلى مشاكل قانونية لا يستطيعون مجابهتها، وأن حصة معينة من ثروة الوالد ستذهب إلى أخيهم الجديد، فقد بيّنت التحاليل الطبية إثر الحادث بأن الزوجة الثانية حامل، وأن مسألة قدوم الوارث الجديد هي مسألة وقت لا غير.

يحاول المخرج محمد الهليل أن يسلّط الضوء على الجيل الثاني، وهم أبناء وبنات الوالد عبد العزيز عبد الله، وينقل لنا بأمانة كبيرة توجهات هذا الجيل الذي بدأ يتمرّد على بعض الأعراف الاجتماعية المتبّعة، فشقيقتهم مودّة -التي تزوجت من سعود وأنجبت منه غالية- لم تكن موفَّقة في زواجها، لأن الأسرة اكتشفت خروجها مع سعود وجلوسها إلى جانبه في السيارة، وهذا يعني أن الزواج قد وقع لدرء الفضيحة، فلا غرابة أن تعلن رغبتها في الانفصال عنه، فهو يخرج مع أصدقائه، ويسافر إلى البحرين بحثا عن “الفلة والوناسة”، بينما يتركها فريسة للانتظار، وضحيّة للأوهام والهواجس التي تدور في مُخيلتها المُتعَبة.

مها النسوية المُشاكسة هي من أول من استشعرت بزواج أبيها من امرأة ثانية

 

“مثنى وثلاث ورباع”.. معركة مها النسوية المشاكسة

ارتأى كاتب القصة السينمائية أن تكون مها هي الشخصية النسوية المشاكسة التي تتحدّى الأشقاء الثلاثة، ولا تجد ضيرا في التمرّد على الوالد الذي يبحث في جانب من حياته عن إشباع رغباته الجسدية المشروعة مع امرأة أخرى يتزوجها على سُنّة الله ورسوله، وإن كان هذا الزواج سرّيا، الأمر الذي يثير نقاشات طويلة متشابكة، فعادل يرى في الزواج الثاني أمرا جائزا، ولم يخالف فيه الأب شرع الله. بينما تقف مها ضده، وتعتقد أن أمها هي الضحية الأولى، رغم أن ارتدادات هذا الزواج السريّ سينعكس على الجميع ويؤثر عليهم ماديا ومعنويا، ويخلّف آثارا نفسية لن تتعافى منها الأم بسهولة.

تشتط مها في تصوراتها حين تطرح عليهم سؤالا مفاجئا: “أنا ودّي أشوف أشكالكم لو أنّ أمي كانت على علاقة بشخص آخر”، فيرد عليها عادل بأنّ هذه المقارنة مغلوطة بالأساس، وأنه يسمّيها خيانة زوجية، اللهم إلاّ إذا كان لديك اعتراضا على الدين الذي أباح الزواج بأكثر من امرأة للاشتراطات المعروفة بالزواج “مثنى وثلاث ورباع”، وهذا الرأي يؤيّده الأخ الثاني بدر حينما يقول “إن الشرع أباح الزواج من أربع نساء”.

على يمين الصورة الممثل خالد الصقر بدور الأخ الثاني بدر، وعلى يسارها الأخ الثالث عادل

 

تمزقات فروع العائلة الصغيرة.. أزمات السيناريو الجانبية

ربما تكون عائلة الأخ الأكبر ناصر هي الأكثر تفككا من ناحية التماسك الأسري، فابنته ريم التي كانت منشغلة بسماع الموسيقى ومنهمكة باهتماماتها الخاصة؛ قد هربت من المنزل ليلا نتيجة للضغوط الأبوية التي تتعرّض لها يوميا، الأمر الذي دفعها للهروب، ودفع الأشقاء الثلاثة للبحث عنها في شوارع المدينة، ومن حسن حظهم أنها ذهبت إلى منزل والدتها وعد، فأعادها الوالد من دون أن يُحدث مشكلة جديدة.

يعود سعود من المشفى الذي عالج فيه جرح ابنته البسيط غالية، ليأخذ زوجته مودّة، فيزجره ناصر ويطرده من المنزل بعد أن عرف الطريقة التي يتعامل بها مع شقيقته التي طلبت الانفصال عنه والبقاء في منزل والدها، إلى أن يُقيّض لها الزواج من رجل تحبه وتستكين إليه.

أمّا المفاجأة الأخيرة التي تصدم المتلقي، فتتمثل في إعلان ناصر بأنه منفصل عن زوجته وعد منذ ستة أشهر، وأنّ بقاءهما في البيت هو من أجل الحفاظ على الأطفال، ومنع تشتتهم بين أسرتين متباغضتين.

لم يشأ كاتب القصة أن يشتت انتباهنا في اتجاهات متعددة، لهذا فقد ظل الأخ الثاني بدر (الممثل خالد الصقر) حائرا بين مؤازرة الوالدة، أو الوقوف إلى جانب والده الذي لم يقترف ذنبا ولم يرتكب خطيئة كبرى، ولا يجد حرجا في البوح بصعوبة وضعه النفسي، وهو يرى أمه غدا جالسة على مائدة الإفطار، ويخشى أن تلتقي عيناه بعينيها، وتكتشف بحدْس الأم أن ابنها يخبئ عنها سرا شخصيا قد يقوّض عشّ الزوجية، ويُربك حياة الأسرة برمتها.

أمّا الأخ الثالث عادل فهو منشغل بالتواصل مع خطيبته، وينتظر بفارغ الصبر بدء حياته الزوجية بطريقة حضارية خالية من المنغِّصات.

ناصر الابن الأكبر، وهو الشاهد الأول على زيجة أبيه الثانية

 

“أبوي مو أحسن رجّال في العالم، ولا أمي أحسن زوجة”

تشكّل النقاشات حامية الوطيس نوعا من التأثيث السردي والبصري الذي يتضمّن آراء الأشقّاء الخمسة بنين وبنات، ورغم انهماك بعضهم بمشاكله الخاصة التي يفصح عنها بين آونة وأخرى، فإنّ القسم الأكبر من الجدل يدور على طبيعة الوالد والطريقة التي تصرّف بها في زواجه الثاني الذي لا يعرف به أحد سوى ناصر. كما كان القسم الأكبر من العائلة منغمسا في محنة الأم، وردود أفعالها في حال معرفتها بهذا الخبر الصادم.

وربما يكون الابن الأكبر ناصر هو الأكثر واقعية في التفكير، فقد اعترف بالفم الملآن بحقيقة جليّة حينما قال “أبوي مو أحسن رجّال في العالم، ولا أمي أحسن زوجة”. ويطلب من إخوته أن يتركوا القرار لأمهم، فهي صاحبة القول الفصل، وعليها أن تتخذ القرار المناسب لها، سواء بالبقاء في المنزل أو العودة إلى منزل أبويها بعد أربعين عاما من الزواج والحياة الأسرية التي قد تتقوّض ويحرم الجميع من هذه اللقاءات الجماعية في المناسبات المُفرحة.

يطلب ناصر من إخوته جميعا أن يمرِّروا هذه الليلة فقط ويتركوا الأمور تسير على وجهها، ويعِدهم جميعا -وهو الذي لم يخيّب ظنهم ولم يرفض لهم طلبا- أن يتركوا الليلة تمرّ بسلام، وأن لا يخبروها بشيء يكدّر مزاجها ويخرّب فرحة العيد.

من كواليس تصوير الفيلم السعودي “أربعون عاما وليلة”

 

“هلا أبو عبد الله”.. إفطار بنكهة الكوميديا السوداء

لا بدّ من الإشادة مرة ثانية بكاتب القصة السينمائية عبد الرحمن خوج، إذ زوّدنا ببعض المعلومات التي لا تخلو من نَفَس كوميدي، فقد عرفت مها بأنّ أباها على علاقة عاطفية بامرأة أخرى من خلال الرسائل القصيرة المتبادلة بينهما، وكلها تبدأ بكلمات مثل “حبيبي” و”عمري”، وهي موجّهة إلى شخص يحمل اسما مُستعارا و هو “أبو عبد الله”.

حينما يعود أبو ناصر (الممثل جعفر الغريب) مع زوجته أم ناصر (الممثلة سناء بكر يونس) في صبيحة العيد إلى البيت يستقبله الأبناء جميعا ويهنئونه بالصحة والسلامة، ثم يتحلقون على مائدة الإفطار وأعين الأبناء الشاخصة تتعاطف مع الأم المغلوبة على أمرها.

وفجأة يرن هاتف الوالد، ويردّ على الطرف المقابل بثقة كبيرة “ألو، هلا أبو عبد الله، مشغول شويّة، أكلمك بعدين، مع السلامة”، فتتقاطع نظرات الأبناء جميعها، وتتأكد بالدليل القاطع بأنّ “أبو عبد الله” هو الزوجة الثانية التي تفتح ذهن المتلقي على احتمالات متعددة بين الموافقة والقبول، أو الرفض ومغادرة المنزل إلى الأبد.

المخرج السعودي محمد الهليل الذي أنجز العديد من الأفلام القصيرة وأخرج فيلم “أربعون عاما وليلة”

 

محمد الهليل.. رحلة من الأفلام القصيرة إلى الروائيات الطويلة

من الجدير بالذكر أنّ المخرج السعودي محمد الهليل من مواليد الأحساء عام 1997، وقد أنجز عددا من الأفلام القصيرة، من بينها “ماطور” (2015)، و”300 كم” (2016)، و”غُبار” (2018)، و”أربعون عاما وليلة” هو فيلمه الروائي الطويل الأول الذي فاز بدعم “صندوق تمهيد” بقيمة نصف مليون دولار أمريكي مكّنهُ من إنجاز هذا الفيلم على أكمل وجه، ولذا فقد جاء التصوير الذي تبناه أمين السعدي احترافيا، ويتوفر على مستوى فني متميز.

وهذا الأمر ينطبق على مونتاج حسين المطلق الذي منح الفيلم سلاسة يُغبَط عليها حقا، علما بأن النهاية التنويرية سوف تظل عالقة في ذاكرة المُتلقين الذين استمتعوا بمشاهدة هذا الفيلم الجريء، إذ لا يخلو من حساسيّة في القضايا والأفكار التي لا يجرؤ على تناولها إلاّ مبدع لا يخشى الذهاب في المغامرة الفكرية إلى أقصاها.

ويبدو أنّ المخرج محمد الهليل سوف يسجّل فتوحات جديدة في هذا المضمار.


إعلان