“باري”.. زوجان من إيران يبحثان عن ابنهما المفقود في أثينا

محمد موسى

يصل الزوجان الإيرانيان بطلا فيلم “باري” (Pari) إلى عاصمة أوروبية لم يزوراها من قبل، ولا يعرفان طرقها وتشعباتها، وذلك ليبحثا عن ابنهما “باربك” الذي كان يدرس هناك، ثم انقطعت أخباره قبل أشهر عدة.

هكذا أرادت مقدمة الفيلم الروائي، بيد أن هذه الرحلة ستكون البداية فقط، إذ أنها ستتحول لكابوس أحيانا، وتشهد على موت غير متوقع، وتتحول في محطات منها لرحلة اكتشاف ذاتية تقود إلى نهايات فريدة، لتضيف الرحلة التي يقطعها بطلا الفيلم إلى نوع الرحلات التي يأخذها كثير من أبطال السينما الاجتماعية الإيرانية الحديثة بحيواتهم المضطربة التي تبدو دائما كما لو أنها تغلي وتوشك على الانفجار.

يؤسس الفيلم الذي أخرجه الإيراني المُقيم في اليونان “سياماك اعتمادي” منذ بدايته للعالم الخاص للوالدين، وهما من الطبقة المحافظة التي تتمسك -على الأقل من الخارج- بالقيم التي تدعو لها الجمهورية الإيرانية الإسلامية.

يرتدي البطلان ما يُصنّف في إيران بالملابس التقليدية التي لا تقترن بفئة سكانية خاصة، بقدر ارتباطها بهوية إيمانية تُعبر عن التصنيفات الاجتماعية والطبقية.

تشد البطلة “باري” حجابها وتُعدّله طيلة وقت الفيلم، بينما يطلق الأب لحيته، والأب نفسه هو من كان يُذكّر الأُم في مواضع عدة بالصورة الاجتماعية التي يجب أن يحافظا عليها، وفداحة ما قد يخسرانه من احترام الأهل والمعارف في إيران إذا لم يلتزما بقواعد مخصوصة، أو إذا لم ينجحا في العثور على ابنهما الذي يمثل انقطاعه عنهما إهانة لم يستطع الأب تقبلها أبدا.

 

“أتظنين أنه سيكون بانتظارنا في المطار؟”.. طائرة إلى المجهول

يبدأ الفيلم بمشهد من الطائرة التي تقل الوالدين إلى العاصمة اليونانية أثينا للبحث عن ابنهما الذي يدرس هناك، وانقطعت أخباره تماما منذ ستة أشهر. وكحال الكثير من الأفلام الإيرانية الاجتماعية، يبدو البطلان وكأن حياتهما قريبة كثيرا من انفجار مُدوٍّ، وأن الفيلم يصل إليهما وهما في أحلك لحظات حياتهما، وطرقهما مشتتة وغير واضحة، فالأم تجلس بجوار مقعد النافذة في الطائرة تُحدّق بعيدا عبر ظلام الليل، بينما الزوج غير واثق من حكمة الرحلة التي يقومان بها، ويوجه لها اللوم بين الحين والآخر.

يسأل الزوج زوجته: أتظنين أنه سيكون بانتظارنا في المطار؟

فترد بلهجة مكسورة: نعم سيكون هناك، لقد بعثتُ له رسالة فسوف يكون هناك، لا بد أن يكون هناك. ثم تدير بعدها رأسها إلى السماء المفتوحة التي كان يُمكن رؤيتها من النافذة.

لن يكون الابن بانتظار والديه، وسيجبرهما على خوض رحلة بحث طويلة في عاصمة أوروبية مشغولة بأسئلتها وتحدياتها الخاصة.

الأم الإيرانية باري وزوجها قطعا المسافات من إيران إلى اليونان بحثا عن ابنهما المفقود منذ ستة شهور

 

أحجيات سحرية في غرفة الابن.. محطة البحث الأولى

كانت أول محطات الوالدين الغرفة التي كان يعيش فيها ابنهما، وقد أخذا سيارة أجرة إليها، لكنه لم يكن في غرفته، فقد تركها قبل ستة أشهر تقريبا، أي في الزمن نفسه الذي انقطعت به أخباره عن أهله في إيران، وقد سمح المؤجر للوالدين في المبيت في الغرفة، بشرط دفع مبالغ الإيجار المتأخرة.

انقطع التيار الكهربائي في الغرفة سبب عدم دفع الفواتير، فكانت الأم الجزعة تُقلب أغراض ابنها المبعثرة على ضوء شمعة، وعندما عثرت على مفكرته جلست تُعيد قراءة الكلمات القليلة المكتوبة فيها ببطء، وكأنها أُحْجِيات سحرية، وحينها تكتشف اهتمام ابنها بالشعر والكلمة، وتحيرها رموز رسمها في مفكرته كانت تظهر في أجزاء أخرى من البيت، وأحيانا معلقة على حيطان الغرفة.

وبينما كانت الأُم تجتهد حتى تعثر على خيوط ربما تقودها إلى مصير ابنها، فإنها كانت في الوقت نفسه تُحاول أن تقنع الأب المتذمر من الوضع كله، بعدما بدأ يحمله اليأس على الشكّ بجدوى الرحلة التي قطعاها، ويظهر غضبه من ابنه الذي خذله بغيابه غير المبرر.

الأم الإيرانية باري مع إحدى عضوات الجمعية اليسارية اليونانية التي تعرفت على ابنها الذي تبحث عنه لكنها لا تعرف مكانه اليوم

 

فوضى العبوات الناسفة في الشارع.. أسرار أثينا

بعد الليلة التي قضاها الوالدان في غرفة ابنهما تبدأ الرحلة الفعلية التي ستكون صعبة ومُرهقة، فالأُم لا تُجيد إلا القليل من الإنجليزية، والمدينة اليونانية كانت مشغولة بوضعها ومشاكلها الخاصة، وستكون جامعة الابن المحطة الأولى للزوجين، وستقود إلى جماعة يسارية فنية خاصة لها الشعار ذاته الذي رسمه الابن في مفكرته وعلى جدران غرفته.

تتخلل رحلة البحث أحداث غير متوقعة مثل احتجاج الجمعية اليسارية الذي يتحول إلى عنف تطلب تدخل الشرطة اليونانية، وحينها تجد الأُمّ نفسها وحيدة وسط أحداث عنف قوية، ويضيف وجودها بعباءتها الإيرانية التقليدية وسط شوارع يونانية تشتعل بالعبوات الناسفة؛ صورا شاعرية غير متوقعة.

تُنقذ الأمَّ في خضم هذه الفوضى إحدى عضوات الجمعية اليسارية، وتأخذها إلى الأماكن التي يلتقي بها أعضاء الجمعية، وقد بدت “باري” حينها قريبة من إيجاد ابنها، لا سيما بعد أن تعرفت على صورته شابة يونانية من الجمعية ذاتها، بيد أن هذه الشابة لا تعرف مكان الابن اليوم، إذ انقطع أيضا عن الحضور إلى الأمكنة التي يلتقون بها.

يُعكّر العالم النفسي الخاص الذي تشكل في الفيلم، محاولات المخرج ربط القصة بواقع معاصر، مثل مشاهد الكنيسة اليونانية، حيث يعمد بعض اللاجئين المسلمين، فيتحولون إلى المسيحية سعيا لنيل حق اللجوء، وهي مشاهد بدت خارجة عن السياقات الرمزية للفيلم، وعن رحلة الأم الاكتشافية التي ركز عليها الفيلم تدريجيا.

الأم الإيرانية باري حزينة لفقدانها زوجها في وسط رحلتهما للبحث عن ابنهما المفقود في أثينا

 

شواطئ الجنوب.. رحلة حداد مخالفة للطقوس الإيرانية

في معمعان الأزمات التي تعصف بالأم يموت الأب بسكتة قلبية في منتصف الفيلم، فيزيد هذا الحدث تأزيم عالمها ويقربها بشدة من كسر قضبان السجن الخفي الذي كانت تعيش فيه، وتبدأ رحلة من اكتشاف الذات والاستقلال، حيث ترفض العودة مع جثمان زوجها إلى إيران رغم ضغوط العائلة، وتُصرّ على البقاء دون أموال كثيرة في اليونان، لمتابعة البحث عن ابنها.

تسير الأُمّ على خطوات ابنها غير المؤكدة، فتقودها إلى جنوب اليونان حيث البحر الأبيض، وهناك تعثر على ما يمكن أن يكون المكان الأخير الذي كان يعيش فيه الابن بعد أن ترك المدن وتعقيدها، واختار العيش بخيمة صغيرة في سفح أحد الجبال.

يأخذ الفيلم في رُبعه الأخير تحويلة مكانية ودرامية جديدة، فتجد الأُم نفسها بين عاهرات يعملن قريبا من ميناء في جنوب اليونان، ومن بينهن تتعرف على واحدة كانت تعرف ابنها الغائب، فتخبرها بحُبه لها وحديثه المتواصل عنها، وبأنه كان يتوقع أن تأتي للبحث عنه.

الأم الإيرانية “باري” التي تحولت رحلتها من البحث عن ابنها المفقود إلى امرأة تُعيد اكتشاف ذاتها

 

اكتشاف الذات.. تمرد يخدش محافظة السينما الإيرانية

يُشكل فيلم “باري” إضافة مهمة على صعيد الأفلام الإيرانية التي تُنتَج خارج حدود الجمهورية الإسلامية، إذ تعرف هذه الأفلام باختلاف قصصها ومناخاتها ومحاذيرها عن الأفلام التي تُنتج في إيران، لاعتبارات الرقابة المعروفة.

ذلك أن فيلم “باري” يتلاعب كثيرا بتوقعاتنا من الأفلام الإيرانية المنتجة خارج إيران، فقد كان في نصفه الأول يُحافظ على روح وشكل الأفلام المصنوعة بإيران، مثل الحجاب الذي لم تتخلَّ عنه البطلة، وسلوك الوالدين الذي لم يخالف المنظومة الأخلاقية السائدة في إيران.

وفي منتصف الفيلم يهز المخرج ما بدا بديهيا في بدايته من الرموز المعروفة للسينما الإيرانية، ويقلب الشكل الفني على رأسه، فيقدم مشهدا حميميا جريئا بين الزوجين في الفندق يتناغم مع بداية رحلة “باري” الاكتشافية التي كان من دوافعها غياب الابن، وما مثله غيابه من هزة عنيفة لحياة العائلة المحافظة في إيران.

ولئن كان ظاهر الرحلة التي يقوم بها الوالدان الإيرانيان في الفيلم هو البحث عن ابنهما المفقود، فإن الرحلة الحقيقية ستكون للأُم التي يتصاعد حضورها ببطء عبر زمن الفيلم، من الأم المستكينة المدفوعة برغبة إيجاد ابنها، إلى امرأة تُعيد اكتشاف ذاتها عبر طرح الأسئلة التي يبدو أنها شغلتها.

ولعل النقطة المفصلية لتحوّل بطلة الفيلم هي رفضها العودة مع جثمان زوجها إلى إيران، واختيارها البقاء في غرفة الفندق التي كانا يسكنانها في أثينا، رغم ضغوطات العائلة في إيران للعودة وعدم البقاء لوحدها.

الممثلة الإيرانية مليكا فروتان التي قامت بدور الأم الإيرانية باري تمشي وسط شارع في العاصمة اليونانية أثينا

 

فلسفة الشعر الفارسي.. رفيق رحلة التحرر في بلاد الإغريق

يكون الشعر الفلسفي الفارسي رفيق البطلة في رحلتها في مجاهل مدينة أثينا، وفي المدينة الصغيرة المطلة على البحر التي قدمت إليها، وسيشكل هذا الشعر الأمان والدافع للمضي خطوة أبعد في رحلتها.

يُبقي المخرج “سياماك اعتمادي” على جذوة القضايا الطارئة المعروفة في السينما الاجتماعية الإيرانية، في فيلمه الذي صُوّر بعيدا عن إيران، في حين مثّل التقاطع بين الشخصيات الإيرانية والأوروبية ما يشبه الجسر الذي ساعد البطلة على بدء رحلة الاكتشاف الذاتي.

وكما يُمكن البحث في فيلم “باري” عن تأثيرات السينما الشاعرية الإيرانية التي شكلت مع نظيرتها السينما الاجتماعية استجابة إبداعية مُتفردة للقيود الرقابية القوية في إيران.

يتردد صدى الحياة الصغيرة المغلقة لبطلة الفيلم في شوارع مدينة أثينا، حيث ستكون المدينة الخلفية المُحرّضة على انتقالات تبدو صعبة، لكنها ضرورات لا بد منها للبطلة التي لعبت دورها بتمكّن كبير الممثلة الإيرانية “مليكا فروتان”.