“حروب الأسعار”.. ألعاب الأثرياء التي تدفع الشعوب الفقيرة ثمنها

قيس قاسم

يجد الوثائقي الألماني “حروب الأسعار” (Price Wars) رابطا بين الأحداث السياسية التي عصفت بالعالم خلال العقود الأخيرة من القرن الحالي، مثل الربيع العربي، وأزمة الهجرة وصعود اليمين الشَعبويّ، وغير ذلك من أحداث دراماتيكية؛ وبين ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطبيعية الخام في البورصات العالمية، وكيف تتحكم البورصات في تحديدها وفقا لمصالح المضاربين الأثرياء فيها، لا حسب سعرها الحقيقي.

وهذا التلاعب بالأرقام والمضاربات في أروقة البورصة يتسبب في فقر شعوب ودول كثيرة تعجز عن مجاراتها، وهذا العجز يخلق أزمات معيشية حادة وصراعات سياسية، لكن الخاسر الأكبر فيها هم بسطاء الناس في كل مكان.

نظرية “تأثيرات الفراشة” جوهرها يتلخص بعبارة: “إن حركة جناح فراشة صغيرة في كاليفورنيا، قد يسبب إعصارا في الصين”

“تأثيرات الفراشة”.. رحلة الأسعار من البورصة إلى المتجر

لفحص الترابط العضوي بين تلك الأحداث ومضاربات البورصة العالمية، يستعين المخرج “روبرت روسيل” بعالِم الرياضيات الأمريكي “جافير باريام” المعتمد في تحليلاته العِلمية على نظرية “تأثيرات الفراشة”، وجوهرها يتلخص بعبارة: “إن حركة جناح فراشة صغيرة في كاليفورنيا، قد يسبب إعصارا في الصين”.

ففي نتائج بحوثه التي تربط بين أسعار المواد الخام وبين الثورات والاضطرابات الجارية في العالم، يستند العالِم “باريام” على تحليل دقيق لأسعار المواد الخام التي تتقرر فعليا في بورصات شيكاغو ولندن وغيرها من المراكز المالية العملاقة، وهي التي تحدد لاحقا سعر البضائع المعروضة في المحلات والأسواق في كل أرجاء العالم من روما إلى الأرجنتين.

معادلات سوق المضاربات النقدية.. لعبة الأسعار المتحركة

إلى جانب عالِم الرياضيات “جافير باريام”، يستعين الوثائقي باقتصاديين وصحفيين ومحللين سياسيين يسهمون في تقديم تصوراتهم للمعادلة المعقدة بين مضاربات البورصة وسعر كل مادة خام يستفيد منها الإنسان.

وهم يتفقون على ثنائية طبيعة المواد الغذائية الخام، بين اعتبارها مواد ضرورية للحياة بما توفره من طاقة وعناصر غذائية ضرورية لجسم الإنسان تساعد على بقائه، وبين إمكانية المُتاجرة بها وتحويلها إلى بضاعة لها سعر متحرك، فسعرها لم يعد محصورا بقيمتها الحقيقية، بل بما تصل إليه في سوق المضاربات النقدية.

في بورصة المواد الغذائية تتحد أسعار المحاصيل

منظمة الغذاء العالمية.. تحذير يسبق إحراق البوعزيزي نفسه

يلاحظ أكثر المشاركين في الفيلم أن ارتفاع أسعار المواد الخام يؤدي في الغالب إلى خلق أزمات اقتصادية وسياسية عالمية، وحسب منظمة الغذاء العالمية فإن وصول أي مادة خام إلى “النقطة الحرجة” تصاحبه دوما قلاقل واضطرابات.

تذكّر المنظمة بالتحذير الوارد في تقريرها السنوي لعام ٢٠١٠، الذي جاء بعد بلوغ أسعار بعض المواد الغذائية في البورصات العالمية مستويات عالية بلغت أكثر من ٣٦٪ من سعرها الحقيقي، وبعد مرور أيام قليلة من نشر التقرير وصل خبر إحراق الشاب التونسي محمد بوعزيزي نفسه، بسبب عجزه عن توفير لقمة عيش لعائلته.

الفقر كان من أسباب انطلاق ثورات الربيع العربي

غذاء تراه العين ولا تمسكه اليد.. انفجار الربيع العربي

لا يُحيل الوثائقي أسباب انطلاق الربيع العربي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وصعوبة توفير الحد الأدنى منها فقط، بل يضيف إليها عوامل أخرى مثل الفساد السياسي وانعدام الحريات والقمع والبطالة وغير ذلك من الأسباب، لكنه يضع الغلاء كواحد من العوامل الرئيسة التي ساعدت على إشعال فتيل الحراك الجماهيري الذي امتد من تونس إلى مناطق عربية أخرى.

من دراسته للثورات العربية لاحظ الفيلم أن المشكلة لا تتمثل في شح المواد الغذائية أو قلتها، وإنما تكمن في ارتفاع أسعارها، وأن الغضب عادة يتفاقم أكثر عندما تكون متوفرة في الأسواق، ولكن عامة الناس تعجز عن شرائها.

اضطرابات المنابع.. تكهنات تشعل أسعار الخامات النفطية

في سياق بحثه في تطورات الأوضاع التي تزامنت مع الربيع العربي أو أعقبته، يتوقف الفيلم عند حقيقة أن أسعار خامات النفط مثلا، قد ارتفعت بما لا يتناسب مع سعرها الحقيقي في السوق، وهذا الارتفاع الجنوني إنما جاء بسبب التكهنات وحدّة المضاربات في سوق البورصة العالمية على الخام نفسه.

يقدم الوثائقي التجربة الليبية مثالا، فارتفاع أسعار النفط تلازم مع تقليص حجم الإنتاج الليبي بعد سقوط نظام القذافي وما رافقه من صراعات أثارت مخاوف الأسواق ودفعت المستهلكين لطلب المزيد منه لتخزينه، فارتفع سعره نتيجة لذلك، حتى بلغ مستويات قياسية.

هذا المثال لا ينطبق على العراق، فالمخاوف من سيطرة “الدولة الإسلامية” على منابع النفط في الموصل وشمال العراق، وبالتالي احتمال تقليص حجم تصديره؛ جاءت بناء على التكهنات لا الواقع، وقد شجعت التكهنات المضاربين في سوق البورصة عام ٢٠١٤، على رفع سعر الخامة النفطية، رغم أن الإنتاج النفطي العراقي ظل محافظا على مستوياته، ولم يتقلص بفعل بما جرى في الموصل.

ارتفاع سعر النفط يشجع روسيا على الحروب

روسيا وفنزويلا.. حروب ومجاعات تخنق المواطن العادي

يقدم الوثائقي عينات وأمثلة يعزز بها رؤيته للدور الذي تلعبه البورصات في تحديد أسعار المواد الخام، وكيف يمكن لبعض الدول استغلالها لبسط نفوذها وخلق بؤر توتر جديدة، كما حدث في روسيا حين دخلت جيوشها جزيرة القرم، بفعل القوة المالية التي أضافتها أسعار البترول والغاز إليها، فقد دفعتها مخاوفها من بروز أوكرانيا كمنافس لها في تصدير الغاز إلى أوروبا للاقتراب من حدودها وتهديدها عسكريا.

وفي فنزويلا تسبب انخفاض أسعار النفط في مجاعات واضطرابات سياسية تحمل أعباءها المواطن العادي، ودفعته إلى حافة المجاعة، إذ لم يتحسب قادتهم لاحتمال تخفيض أسعار خامة النفط في البورصة العالمية إلى المستوى الذي وصلت إليه، لهذا يواجهون اليوم اضطرابات سياسية واحتجاجات شعبية تهز مواقعهم بقوة.

وسط كل هذا يبرز سؤال عن دور الدول والحكومات في تنظيم قواعد العمل في البورصات، فما هي القيود الواجب فرضها على المضاربين بأسعار المواد الخام للحد من جشعهم ورغبتهم في جني المزيد من الأرباح دون مراعاة للنتائج الكارثية التي تحدثها تلاعباتهم بالأسعار؟

“بيل كلينتون”.. تحرير وحش البورصة من قيوده

يضع الخبراء الاقتصاديون مرحلة حكم الرئيس الأمريكي “بيل كلينتون” كعلامة على افتراق مرحلتين تاريخيتين، فمنذ ثلاثينيات القرن المنصرم وضعت الحكومة الأمريكية ضوابط صارمة للبورصة، وقيدت مساحة المضاربين في أسعار المواد الغذائية.

لكن مع مجيء “كلينتون” إلى دفة الحكم انتقلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى مرحلة ثانية رُفعت خلالها القيود، ومُنحت حرية مطلقة للمضاربين في البورصة.

وبالأرقام كانت نسبة تدخل البورصة وحسمها لسعر الخامات الغذائية والطبيعية لا يتجاوز ٢٠٪ من سعرها الحقيقي، ولكن بعد اتفاق الرئيس كلينتون مع البنك المركزي الأمريكي صار تدخلها يصل إلى أكثر من ٨٠٪.

بعبارة أخرى فإن سعر القمح اليوم تحدده فعليا أسواق “وول ستريت”، وهي من تتحكم به لا المزارعون.

أكثر من ٨٠ ٪ من سعر الغلة يقررها المضاربون

أسعار برعاية القمر الصناعي.. عصر السرعة

المفارقة الصارخة أن الأسعار في الماضي كانت تتغير بدرجات قليلة وخلال مدة زمنية طويلة نسبيا، أما الآن فقد أصبحت تتغير أسبوعيا وربما خلال أقل من ذلك، مما يتسبب في إحداث هزات هائلة في سعر المواد الخام، وتؤثر بشكل مباشر على مستهلكيها.

وللتوافق مع سياق حركة تغيرها السريع، يلجأ المضاربون إلى وسائل تقنية حديثة لمعرفة الطارئ فيها، وامتصاص الصدمة المحتملة من رفعهم القوي للأسعار.

يقدم المشاركون في الفيلم أمثلة على توجه المضاربين لشراء خدمات المعلومات الفضائية، لمعرفة المتغير المتوقع في كمية ونوعية كل خامة، إذ يمكن اليوم للأقمار الصناعية تحديد مواقع الكوارث الطبيعية المحتملة أو مواسم الجفاف المقبلة في كل مكان من العالم.

تُفيد تلك المعلومات في تحديد المتغيرات المتوقعة، وبالتالي يمكنهم وضع أسعار استباقية للخامات على ضوء المتغيرات.

يمكن اليوم للأقمار الصناعية تحديد مواقع الكوارث الطبيعية المحتملة أو مواسم الجفاف المقبلة في كل مكان من العالم

آثار الجفاف.. صراعات الريف وبؤس الهجرة إلى المدينة

لتقديم المزيد من الأمثلة الحيّة على ما تصنعه المضاربات من خراب، يذهب الوثائقي إلى منطقة توركانا في كينيا، لينقل الآثار المترتبة على الجفاف الذي مرت به، وعلى تأثيرات ارتفاع سعر الموارد الزراعية فيها.

بسبب الجفاف لم يبق أمام المزارعين البسطاء سوى رعي الماشية، وهي مهددة بسبب انتشار اللصوص في المنطقة، فهؤلاء اللصوص -بسبب الجوع أيضا- لم يجدوا وسيلة للنجاة إلا بسرقة هذه المواشي حال اقترابها من أراضيهم، وتتسبب الصراعات على البقع الخضراء القليلة الباقية للرعي، في صراعات مسلحة بين المزارعين وتدفع كثيرا منهم للهجرة إلى المدن.

يلاحق الوثائقي هجرة بعضهم إلى أطراف العاصمة وينقل البؤس الذي يعيشون فيه في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية التي لا يملكون ما يكفي من مال لشرائها. ما يجري هناك ترصده الأقمار الصناعية لتقوم بتزويد المضاربين بمعلومات دقيقة عنها. معطيات حساسة تصل إليهم قبل غيرهم بوقت طويل، وبناء عليها يحددون سعر المنتجات الزراعية في سوق البورصة.

ينبه الوثائقي إلى أن الهجرة والفقر وخسارة الأراضي كلها عوامل ممهدة بنشوب ثورات وانتفاضات.

الوثائقي ينتبه إلى أن الهجرة والفقر وخسارة الأراضي كلها عوامل ممهدة بنشوب ثورات وانتفاضات مثل الهجرة في كينيا

أمواج الهجرة إلى شواطئ الثراء.. انقلاب السحر على الساحر

لا تقتصر الأضرار الناجمة عن مضاربات البورصة الجشعة على البلدان النامية فحسب، بل يصل إلى الدول الغنية أيضا. ينقلب السحر على الساحر عندما يصبح الجشع لا حد له ولا أحد قادر على إيقاف مده، هذا ما أحس به الغربيون عند اقتراب موجات المهاجرين من حدودهم الجنوبية.

تواجه اليوم الدول الأوربية على وجه الخصوص مشاكل في استيعاب الحشود الكبيرة منهم بعد دخولهم أراضيها، وصار من الصعب عليها إرجاعهم من حيث أتوا، ويستغل اليمين الشعبوي الهجرة المدفوعة بالفقر وسوء الأحوال الاقتصادية والسياسي لتقوية مركزه، وتنشيط فكره العنصري والانعزالي.

يؤكد المشاركون في الوثائقي التحليلي أن “بريكست” هي واحدة من نتائج تلك السياسات اليمينية التي أفضت إلى انسحاب بريطانيا من الوحدة الأوروبية وتشديد قوانين الهجرة إليها.

مضاربات البورصة والمتغيرات البيئية أثرتا على المزارع الأمريكي اللاتيني، وأجبرته على ترك أرضه والتوجه نحو حدود الجار الغني

تغيرات البيئة والمضاربات.. موسم الهجرة إلى الشمال الغني

في أمريكا اللاتينية ثمة مشاكل مشابهة لتلك التي يواجهها الناس في أفريقيا والشرق الأوسط، ومردها الفقر الذي تحدثه اضطرابات الأسواق المالية، وتؤثر بشكل خاص على فقراء الفلاحين الذين يضطرون للتفكير بالهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بحثا عن فرص عيش أفضل.

مضاربات البورصة والمتغيرات البيئية أثرتا على المزارع الأمريكي اللاتيني، وأجبرته على ترك أرضه والتوجه نحو حدود الجار الغني. هذا ما تنقله تجربة صاحب مزرعة صغيرة لأشجار البُن، تقع في منطقة جبلية من شمال غواتيمالا.

لم يعد المزارع يجد في محصوله فائدة يرتجى منها في ظل انخفاض سعر غلته، بسبب التغييرات المناخية التي أثرت سلبا على كميتها ونوعيتها، وهذا ما يستشعر به المضاربون مبكرا بفضل مراقبتهم الدقيقة لمزارع البُن، وعلى ضوئه يحددون سعرا بخسا لها، وبعد حصولهم على المنتج يقومون برفع قيمته التسويقية من خلال مضارباتهم في سوق البورصة التي لا يعرف المزارع الفقير شيئا عنها.


إعلان