الوأد والمنع والسرقة الفنية.. سوسة تنخر محصول الدراما المصرية

الفنان المصري هشام عبد الحميد

لا شك أن دراما مسلسلات التلفزيون الملقبة عالميا بـ(Soap Opera) قد ثبتت ثباتا عاليا في الآونة الأخيرة، فقد أصبحت هذه الدراما تتمتع بجودة عالية في التقنيات البصرية والسمعية، حتى أصبحت جودتها تقترب كثيرا -رغم بعض الفوارق- في طبيعتها وتوجهاتها من جودة أفلام السينما الساحرة.

منذ سنوات طويلة مضت كانت مسلسلات التلفزيون تعاني من سوء ورداءة الصورة والصوت معا، لكن من ناحية أخرى كان هناك اهتمام لافت من حيث المحتوى الدرامي، سواء في طبيعة الشخصيات أو البناء الدرامي، وأرى أيضا أنه كان هناك عمق في الصراع وتواتر الحبكة وتطور الحدث، وكل ذلك كان يشكل عناصر جاذبة.

هذا العنصر الجاذب تحديدا هو ما تفتقده معظم مسلسلات الدراما هذا العام، فقد شهدنا تطورا لا مثيل له من حيث الصوت والصورة، ولكن شهدنا أيضا تخبطا دراميا ولخبطة في الأحداث وغير ذلك، مما لم نكن نألفه سابقا.

بالطبع لن نستطع التعرض لـ27 مسلسلا التي هي نتاج الحصاد التلفزيوني في رمضان هذا العام، ولكننا سنسوق ثلاثة أمثلة فقط، وذلك نظرا لما أُثير حولها من ضجة كبيرة وردود فعل متباينة.

 

ملصق “الملك”.. أخطاء تاريخية تقتل المسلسل قبل عرضه

لعلها في تاريخ الدراما التلفزيونية المصرية المرة الأولى التي يُمنع فيها عرض مسلسل قبل أن يرى النور، لمجرد ملصق إعلاني كشف عن عوار واضح وفاضح تمثل في عدم دراية القائمين على العمل بأبجديات العملية الفنية.

مسلسل “الملك” هو مقتبس من رواية “كفاح طيبة” لأديبنا الكبير نجيب محفوظ، وكتب له السيناريو والحوار الثلاثي محمد وخالد وشيرين دياب، وقام بإخراجه حسين المنباوي، وأدى دور البطولة فيه عمرو يوسف وماجد المصري وصبا مبارك ومحمد فراج وريم مصطفى ومحمد لطفي ومحمد علاء ومحمد نصار وباسل الزارو.

أدى ظهور الملصق الإعلاني للمسلسل بحالته التي ظهر بها إلى استفزاز الكثيرين، نتيجة لظهور أخطاء تاريخية قاتلة فيه، ولعل العلامة الظاهرة وضوح الشمس هي لحية عمرو يوسف، فالمعروف أنه لا وجود للحية في التكوين الشكلي للملك أحمس، فقد ذكر “كتاب الموتى” بمصر القديمة أن المصريين القدماء كانوا يظهرون بالمواكب الرسمية بذقون وشعر مستعارين، تشبها بالآلهة الإغريقية، ولكنهم في حياتهم اليومية كانوا يعتبرون الذقن والشعر من علامات القذارة.

الخطأ الثاني ظهور الخنجر مطعما بالأحجار الكريمة ذات الطابع العربي، وهذا بالطبع أمر غير دقيق، فقد أوضح عالم الآثار د. سليم حسن في “موسوعة مصر القديمة” طبيعة خنجر الملك أحمس، إذ يقول: نُقش على أحد وجهي خنجر أحمس المعلق في خيط من الذهب اسم الملك، وكل حرف من حروفه قد غطي بصفيحة من الذهب الجميل الصنع، ثم نجد بعد ذلك أنه قد صيغ على نفس الوجه أسد يقتفي أثر ثور ثم أربع جرادات.

الخطأ الثالث تناقض شكل الراية الموجودة في الملصق الإعلاني مع شكل رايات مصر القديمة، ففي ذلك الزمن كانت ألوان رايات الملك أحمس حمراء وبيضاء، ولم تعرف مصر الرايات على الصواري، إلا في عهد الدولة الحديثة.

هذا مجمل الأخطاء التي أُثيرت على الملصق الإعلاني لمسلسل “الملك”، لكن هل من حقنا منع عرضه ومصادرته؟

 

سيل السخرية الجارف.. سابقة خطيرة في ميدان الصناعة

كان مُلصق مسلسل “الملك” -كما ذكرت سابقا- مثار جدل واسع بين أطياف المجتمع، وأطياف فئة النخبة المثقفة المصرية، فقد انقسموا بين رافض ومرحب لفكرة إلغاء العرض، لكن هل من الممكن أن يصدر أمر بإعدام مسلسل، فقط لمجرد أن ملصقه جاءت فيه أخطاء، حتى لو كانت تلك الأخطاء قاتلة؟

أُصدر قرار المنع دون مشاهدة المسلسل والتعرف على رؤية مخرجه، فلم نحاول التحاور معه ولا التعرف على كيفية طرح رؤيته الفنية والفكرية، إذ لعل المخرج أراد أن يعرض عرضا فانتازيا، أو ربما يقصد إسقاط مظهر الذقن على مناخ آني معين أو حدث ما، أو يريد إلباسه ثوبا تاريخيا لفترة يريد تسليط الضوء عليها.

ألم يكن من الحكمة وقف نزيف الهجوم والسخرية التي وصلت إلى حد التجاوز في الألفاظ بحق صناع العمل؟

كان من الأنسب أن نرى تفاصيل الحلقات ثم نرحب بها أو نختلف حولها، لكن أن نضغط بإلغاء عرض مسلسل بالكامل قبل عرضه فهذه تشكل سابقة خطيرة، وأظن أنها ستلقي بظلالها القاتمة على القائمين بالمهنة جميعا.

 

“نجيب زاهي زركش”.. جدلية السرقات الفنية تحرق المسلسل

مسلسل “نجيب زاهي زركش” هو من تأليف عبد الرحيم كمال، وإخراج شادي الفخراني، وقام ببطولته يحيى الفخراني وهالة فاخر وأنوشكا ورامز أمير وإسلام إبراهيم.

وقد أثار هذا المسلسل ما أثار من مأساة السرقات الفنية، إذ لا يذكر المؤلف أصل النص المأخوذ عنه أو المستوحى منه المسلسل، سواء أكان مسلسلا عرض سابقا أم فيلما، وقد يتذرع البعض بالذريعة التقليدية، فيقولون إنه نوع من الاقتباس، لكن هناك فرق كبير بين الاقتباس والسرقة الفنية.

فالاقتباس ليس بالضرورة أن يلتزم بأحداث ومشاهد العمل المُستقى منه، إذ قد نأخذ فكرة بعينها وننسج عليها بناء دراميا مختلفا، وأما السرقة الفنية فهي نقل كل أحداث العمل بقليل من التصرف، مع عدم الإشارة في مقدمة المسلسل إلى أنه منقول أو مقتبس عن العمل الفني الفلاني.

 

اقتباسات الدراما.. تاريخ من القفز على الأمانة المهنية

لم يكن مسلسل “نجيب زاهي زركش” سابقة في الأعمال الفنية التي وردت فيها سرقات فنية، بل هناك أعمال كثيرة وقع فيها ذلك، ولم يذكر صناعها أي شيء عن الأعمال الأصلية، وتحضرني هنا أمثلة كثيرة على هذه التجاوزات.

فعلى سبيل المثال لم يذكر أسامة أنور عكاشة أن الأصل في مسلسله “الراية البيضاء” هو العمل الأدبي “قصر الزيتون”، ولم يُذكر يوسف معاطي أن مسلسل “عباس الأبيض في اليوم الأسود” مأخوذ عن فيلم “سومرسبي” (Sommersby) الذي قامت ببطولته “جودي فوستر” و”ريتشارد جير”، وهو بالأصل مأخوذ عن الفيلم الفرنسي “عودة مارتين غير” (Le Retour de Martin Guerre).

كذلك لم يذكر داوود عبد السيد أن مشهد الميكروفون في فيلم “الكيت كات” مأخوذ بالكامل من مشهد من الفيلم الأمريكي الشهير “ماش” (Mash) من إخراج روبرت ألتمان، ولم يذكر وحيد حامد أن مسلسل “أحلام الفتى الطائر” مأخوذ من مسلسل “الهارب” (Fugitive)، وهو مسلسل أمريكي شاهدناه في الستينيات، ثم تحول بعد ذلك إلى فيلم من بطولة “هاريسون فورد”، وهو مقتبس كذلك من فيلم “طار فوق عش الوقواق” (One Flew Over the Cuckoo’s Nest)، ورغم ذلك فإن وحيد حامد لم يذكر هذين المصدرين كنوع من الأمانة المهنية.

 

يحيى الفخراني.. بطل المسرحية والمسلسل المسروق

مسرحية “فيلومينا مارتورانو” (Filumena Marturano) هي من تأليف الممثل والشاعر الإيطالي “إدوارد دي فيليبو”، وقد تحولت إلى فيلم إيطالي بعنوان “الزواج على الطريقة الإيطالية” (Matrimonio all’italiana) من إخراج العظيم “فيتوريو دي سيكا”، كما تُرجمت وقدمها المسرح القومي ببطولة يحيي الفخراني.

تدور الأحداث حول رجل ثري عابث له محظية تتولى شؤونه وتُمرّض أمه، وعندما يُقرر ذلك الرجل اللاهي الزواج بفتاة صغيرة، تبدأ المحظية بإيهامه بأنها مريضة مرضا خطيرا وستموت، ولكن لها وصية ترجوه أن يحققها لها.

بعد أن يُنفذ الثري العابث للمحظية ما أرادت، يتكشف له أن أمنيتها كانت مجرد لعبة لتحصل منه على ما تريد، ويكتشف أيضا أن لها ثلاثة أطفال، أحدهم هو طفل أنجبته منه لكنها لم تخبره عنه من قبل، وحينها تبدأ المفارقات الشديدة الكوميديا، حيث يبدأ الثري يحاول معرفة أي الأطفال الثلاثة.

أما في مسلسل “نجيب زاهي زركش” فنرى نفس الأحداث مع اختلاف بسيط في حياة المحظية، إذ أنها تموت وتتركه أسيرا لبراثن الحيرة بين أبنائه الثلاثة، وحينها تحدث المفارقات في رحلة معرفة ابنه.

المستغرب أن ممثلا بحجم يحيي الفخراني كان يعلم أن المسلسل مأخوذ عن مسرحية “زواج فيلومينا” دون الإشارة لهذا الاقتباس المنقول نقلا شبه حرفي، لكنه لم يتدخل بل تجاهل المسألة برمتها، إضافة إلى أن يحيى الفخراني كان قد قدم المسرحية الأصل، مترجمة بعنوان “جوازة طلياني” على المسرح القومي. إذن فهو يعلم ويعرف جيدا الأصل المأخوذ أو المسروق منه المسلسل، ومع ذلك فإنه لم يحرك ساكنا، ولا نعلم لماذا صمت في وقت وجب فيه الكلام والفعل.

 

“الطاووس”.. جريمة اغتصاب في الفندق

مسلسل “الطاووس” هو من سيناريو وحوار كريم الديلي تحت إشراف محمد كثير، وإخراج رؤوف عبد العزيز، ومونتاج أحمد حلمي، وقام ببطولته جمال سليمان وسميحة أيوب وسهر الصائغ وأحمد فؤاد سليم ونهال عنبر وجمال عبد الناصر ورانيا محمود ياسين وفرح الزاهد.

تدور الأحداث حول فتاة تخدم مجموعة من الشباب الأثرياء يخدرونها ويغتصبونها بأحد الفنادق الشهيرة، لتلجأ الفتاة إلى المحامي كمال (الممثل جمال سليمان) الذي وافق على الوقوف بجانب الحق، إلا أن هذا يُعرضه لكثير من المشاكل والأخطار، فقد تعرض مثلا للضرب المبرح والتحذير من الخوض في تلك القضية، لأنها قضية خاسرة، ولأنهم أبناء لأصحاب نفوذ ولهم اليد الطولى في البلد، على حد قول أحدهم “إحنا مابنتحبسش”.

قامت الدنيا ولم تقعد بسبب تشابه أحداث المسلسل مع أحداث قضية الفندق الشهير التي كان أبطالها أبناء شخصيات نافذة في البلد، وقد ثبت تورطهم في أحداث اغتصاب لفتيات، ورغم أن القضية تعقدت بسبب أحداثها الفضائحية، فإن الجديد هو تحرك ما يسمى المجلس الأعلى للإعلام الذي قرر -باسم الدفاع عن الأخلاق وتقاليد الأسرة المصرية- التحقيق مع صانعي المسلسل والقنوات التي سمحت بعرضه، وقد تضمنت لائحة العقوبات مخالفة المعايير والخطوط الإعلامية التي وضعها المجلس، وتبدأ عقوبات المخالفة أولا بلفت الانتباه والإنذار، مرورا بتوقيع غرامة ومنع العرض.

بالطبع احتقن الجو العام، وانبرى المثقفون والفنانون للدفاع عن حقهم في حرية التعبير والتفرد الإبداعي والجمالي، ورغم تراجع المجلس عما ما كان ينويه، فإن هذه الواقعة تحديدا كشفت عن عوار حقيقي في نظرتنا للفن وحرية التعبير، وموقفنا العام من الإعلام والفكر والفن.

ملصق مسلسل “الطاووس” الذي تدور أحداثه حول فتاة تخدم مجموعة من الشباب الأثرياء يخدرونها ويغتصبونها بأحد الفنادق الشهيرة

 

سياط الفضيلة.. ذريعة السلطان لكبح جماح الفن

قبل الحديث عن طريقة عرض الفن والتساؤل عن حرية الإنتاج التلفزيوني؛ لا بد من إبراز الفرق بين الإعلام والفن، فالإعلام هو فن إيصال معلومة ما للناس، لهذا فهو توجيهي في شكله، تعليمي في معناه، فهو إذن يختلف عن الفن الذي يُفترض أن يحمل قيما جمالية وفكرية قد تأخذ شكلا أقل تعقيدا وأبسط تركيبا، سواء أكان بالتلفزيون أم في السينما، ولكن الفن ليس مجرد إخبار وتوجيه مباشر على أي حال.

ولعل هذا السؤال حول كيفية عرض الفن ذي الفكر الحر بالتلفزيون، قد تجاوزه المجتمع المتقدم منذ زمن بنمو النزعات الديمقراطية، فهناك نهج مُتبع يعتمد طريق تقسيم الشرائح العمرية، إذ إن العمل التلفزيوني مثلا يصنف تصنيفات مختلفة، فإما أن يكون موجها للأطفال والمراهقين أو أن يكون موجها للكبار، وفي العمل الموجه للأسرة مثلا يوجد تحذير للأهالي بأن بعض مشاهده لا تُناسب الأطفال.

في بلادنا قد يكون هناك تصنيف، ولكن قد يفشل الأهل في منع الطفل من مشاهدة الكثير من الأعمال، إذن فهل من المقبول أن نُكبّل ونُقيد بل ونقمع الفن باسم الفضيلة وحدود الأدب؟

بالطبع نحن مع الأخلاق والآداب عموما، وذلك أمر بدهي، ولكننا أيضا ضد استخدامها في قادم الأعمال لمعاقبة من تراه الرقابة خارج السرب، حتى لا تأخذ السلطات موضوع القيم كذريعة للبطش، إما بدافع الغيرة والحسد من نجاح أو تميز عمل مختلف، أو بسبب تعارض العمل مع التوجهات السياسية للسلطة.

 

عودة المكارثية.. وحش الاتهامات العبثية يخرج من مرقده

وصفت هذه قرارات المجلس الأعلى للإعلام بالمكارثية والفاشية بالطبع، وكلنا نعرف أن تعبير المكارثية تعبير دارج منسوب إلى اسم عضو مجلس الشيوخ الأمريكي “جوزيف مكارثي” الذي تولى رئاسة إحدى اللجان في المجلس في عقد الخمسينيات، وقد هدفت المكارثية لتطهير المجتمع من الشيوعيين، لكن نتجت عنها حركة تقتفي الجميع وتعطي لنفسها الحق في التفتيش حتى في ضمائر الآخرين.

شكلت المكارثية قوائم سوداء لمعاقبة كثيرين وفصلهم من العمل ومحاسبتهم في أرزاقهم، ويكفي أن نعلم أنها قامت باتهام العظيم “تشارلي تشابلن” بأنه شيوعي رغم أنه ليس بشيوعي، حتى أنه طُرد من أمريكا وسافر إلى سويسرا، كما ظلم كثيرون أيضا مثل “تشارلي”، وفقدت الحياة الفنية والفكرية الأمريكية خيرة شبابها ومفكريها، وقد انتهت المكارثية بنتائج كارثية كما حدث للفاشية، فأصبحوا رمز القبح الذي تخلص العالم منه.

وها أنا الآن أرى أن هناك محاولات مستميته للرجوع للمكارثية، ولكن مازلت آمل أن حراس الحق والخير والجمال هم بالمرصاد لها.


إعلان