الكاميرا الخفية العربية.. مضاحك الماضي البسيط ورعب الحاضر السادي

يامن محمد
ينزلون الضحية إلى ما تحت مستوى الأرض، يصطحبونها عبر نفق إلى غرفة الدفن الفرعونية، ثم تنظر حولها لترى مومياءات فرعونية وهياكل عظمية. في هذا المدفن البعيد وسط الصحراء تبدأ الضحية بالشعور بالريبة والخوف في المكان المظلم والرطب، ثم يدخلونها عبر باب ضيق ومنخفض إلى غرفة الدفن، ثم يغلق الباب الحجري فجأة وتبقى الضحية وحيدة في الغرفة التي تشبه القبر، بل هي القبر حرفيا.
لحظة ويبدأ خفاش بالطيران حول الضحية امرأة كانت أو رجلا، وسرعان ما تدخل أفعى كوبرا من كوة في الجدار، ليبدأ الشخص الضحية يصرخ ويستولي عليه الذعر، فيشتم ويسب في أحسن حالاته، ومن الضحايا من بكى بحرقة.
ثم يفتح له باب في الجدار المقابل ليدلف منه إلى غرفة صغيرة أخرى فيها تابوت حجري بداخله مومياء، ويُغلق الباب عليه معها في ذلك الوضع المرعب، لكن يزداد الذعر والهلع عندما تبدأ المومياء بالحركة في العتمة، وبعد كثير من الصراخ تضحك المومياء وتكشف عن وجهها، فيكتشف المغدور أنه أمام رامز جلال صاحب برامج الكاميرا الخفية الأشهر في العالم العربي.
لكن فرحة اكتشاف المقلب لم تُنجِ الممثل أحمد بدير من ألم جعله يضع يده على صدره جهة القلب، مجبرا إياه على الاستلقاء على ظهرة ليسترد أنفاسه كالطريح من ضربة قاضية.
حفلات التعذيب.. سادية تفرض نفسها على الجمهور العربي
ربما ظن من قرأ السطور الأولى أننا نتحدث عن فلم رعب، أو عن طقس تعذيب يطبقه مرضى ساديون على ضحاياهم خارج أطر القانون، كقصص قرأنا عنها في التاريخ، فما ينقصنا هنا ليكتمل المشهد هو أن تسيل الدماء أو تبتر الأعضاء.
ورغم أن ذلك لا يحدث فإن السؤال يبقى مطروحا، فهل تنجو الضحايا من الرعب ذاته وهم يشعرون أن حياتهم على شفير النهاية، ومن جهة أخرى ألا يتورط منفذ المقلب عينه بالانغماس في لذته السادية -التي قد تكون مرَضية- والتنفيس عنها تجاه كائن إنساني مشلول بجهله حول ما يجري؟
تثير برامج الكاميرا الخفية في عالمنا العربي وأشكالها الراهنة جدلا واسعا منذ سنوات، بعد أن احتلت حيزا كبيرا على قنوات البث التلفزيونية، وفرضت نفسها أيضا كحدث إعلامي رمضاني، شأنها في ذلك شأن أي مسلسل تلفزيوني مرتقب، يدعمها الإنتاج الكبير وتقنيات محكمة تبدو خارقة للعادة في بعض الأحيان.
ولكن قبل أن نكمل، لنتساءل قليلا عن جوهر الكاميرا الخفية، ولنحاول تحديد هويتها.

ابنة التكنولوجيا.. فن راق وقهقهة وبكاء
تشبه الكاميرا الخفية لعبة أو مقلبا تجريه مجموعة على شخص ما، لكن ما يميزها عن المقلب العادي هو وجود جمهور واسع حيادي، أو بعبارة أدق له الحرية في أن يتخذ موقفا وسطا بين شعور الضحية وشعور الجلاد، أو يتخذ له موقعا إلى جانب أحدهما، ومن هنا قد يتورط المشاهد بدوره في مشاعر السادية المشار إليها أعلاه، أو على العكس قد ينجرف في شعوره إلى موقع الضحية، وتستولي عليه أحاسيس مازوشية (عكس السادية) وهو الاحتمال الأضعف على كل الأحوال، لمعرفة المشاهد مسبقاً بسر اللعبة.
الكاميرا الخفية هي ابنة التكنولوجيا، ولا سيما الكاميرا والتلفزيون بشكل أدق، وقد استخدمت بداية في الغرب لكشف التجاوزات والفساد في المجتمع ومؤسساته وهيئاته، أي أن لها وظيفة أو سمة الكشف أيضا، بل إن هذه هي السمة الغالبة.
ومن ثم دخلت مجال الترفيه والصناعة التلفزيونية وتعددت أشكالها وأنواعها وطولها، ما بين تلك الأنواع التي تنتهي خلال ثوان، أو التي تستغرق حلقة تلفزيونية كاملة.
قد ترتقي الكاميرا الخفية إلى مستوى الفن أحيانا، وقد تضحك من الأعماق وقد تبكي أيضا إذا ما فاجأتنا الضحية -على سبيل المثال- بردة فعل إنسانية مؤثرة أو غير متوقعة.
ما يهمنا هنا هو سمة الكشف التي تمثل جوهر الكاميرا الخفية، الكشف الذي أصبح هدفه الإنسان العادي أو المشهور، ولكن أيضا الكشف بالمعنى الواسع للكلمة، فقد تكشف حال المجتمع، وقد تكشف ذاتها وحال القائمين عليها كما ألمحنا في مقدمة المقال، وإنما يعتمد كل ذلك على قراءتنا لها، أي على دور المتلقي/ المشاهد وموقفه منها.
فؤاد المهندس.. متطفل يأكل من وجبة المواطن البسيط
في إحدى حلقات الكاميرا الخفية المصرية الشهيرة التي كان يعدها ويخطط لها الفنان فؤاد المهندس في الثمانينيات، نقع على واحدة من الأفكار الذكية والمعبرة تتجاوز في دلالاتها الكشف المباشر، حيث يجلس زبون إلى طاولة في مطعم وأمامه وجبة، ثم يجلس إلى جواره منفذ المقلب وأمامه وجبته أيضا، ثم يبدأ الزبون المزيف بتناول طعام الزبون الحقيقي.
هنا نشاهد ردات فعل متعددة بحسب طبع الزبون الذي يمر تحت عين الكاميرا الخفية، فنلاحظ -كما يلاحظ فؤاد المهندس- أن القاسم المشترك في ردود الفعل هو السماح للزبون المزيف بالأكل، حيث لم يقم أي زبون برد فعل غاضب، أو منع المتطفل من تناول ما في صحنه، بل هناك من مازحه وسايره في لعبته بأن بدأ هو الآخر بالأكل من صحن جاره، الزبون المزيف.
يعبر فؤاد المهندس عن ذلك بما معناه: هذا يدل على طبيعة شعبنا الطيب، ولكن هناك من قد يقرأ في ذلك أيضا دلالة على سهولة تخلي هذا الشعب عن حقوقه.
على سبيل المثال بإمكاننا أن نتخيل لو أن هذا المقلب جرى تنفيذه في بلد آخر وحضارة أخرى، كألمانيا مثلا أو أمريكا، فما هي ردود الفعل التي من الممكن أن نراها في هذه الحالة؟
بل لنا أن لا نذهب بعيدا ونتخيل لو جرى تنفيذه الآن في نفس المكان في مصر، ولكن بعد أربعين عاما من تجربة فؤاد المهندس، فهل سيتصرف الزبائن بطريقة مختلفة؟ وبالتالي هل سنقرأ من ذلك أن طبيعة الشعب المصري قد تغيرت؟ من هذا المثال نلاحظ ما للكاميرا الخفية من أهمية خاصة، تتقاطع مع أهمية الفعل التوثيقي السينمائي عينه، وذلك لعلاقتها الخاصة والحقيقية مع الواقع.
زياد سحتوت.. لعبة الغوص في الطبائع البشرية
مع تزايد عدد الفضائيات والمحطات التلفزيونية، وبالتالي مع تزايد الطلب في سوق الترفيه للبرامج والمسلسلات، تعددت برامج الكاميرا الخفية، ففي سوريا بدأ زياد سحتوت مع زميله جمال شقدوحة برامجهما للكاميرا الخفية في التسعينات، وكانا يقومان بتأدية ما يشبه أدوارا مسرحية في مقالبهما التي يورطون فيها الفنانين المشهورين بشكل خاص.
وإذا كان فؤاد المهندس يركز على الإنسان العادي -كما يؤكد ذلك هو بنفسه مرارا في برنامجه القديم-، فإن التجارب اللاحقة ستركز أكثر على المشاهير من الفنانين تحديدا أو الإعلاميين، وهذا له أيضا دلالته مع تغير طبيعة المجتمع والسوق.
مع ذلك قدمت هذه الحقبة أفكارا ذكية وممتعة، خصوصا إذا تعلق الأمر بزياد سحتوت وموهبته الفطرية في ابتكار المفارقات، ففي إحدى مقالب زياد يقوم أحدهم بإقناع الممثل السوري عصام عبه جي بتنفيذ مقلب كاميرا خفية ضد زياد سحتوت نفسه.
الفكرة أن يقوم الممثل المشهور بإقناع زياد بشراء لوحات فنية لأغراض خيرية بسعر مرتفع، وينخدع زياد ويشتري اللوحات من المعرض، ولكن يدخل حينها زبون مزيف، ويقنع زياد ببيعه اللوحات التي اشتراها للتو بسعر خيالي، فيقبل زياد الصفقة، وسرعان ما تظهر مشاعر الغيرة والحسد على الممثل الذي يحاول إيقاف الصفقة بأي وسيلة.
في هذا المثال قد تكون الكاميرا الخفية وسيلة هامة للكشف عن طبيعة الكائن الإنساني ذاته، كما يجري في فنون عدة كالمسرح بشكل خاص والسينما بأنواعها، والأهم أن المتلقي قد يضع نفسه مكان الشخصية بطلة المقلب ويحاكم ذاته ومشاعره، ففي أي اتجاه كان سيسير لو كان هو في موقع الضحية، وما هي الخيارات، وما هي أبعادها الأخلاقية؟
“ضحكتك لنا”.. اختراق الخصوصية ومعايير اللباقة
في العقد الأخير على وجه الخصوص، نجد أن الكاميرا الخفية السورية قد تغيرت بشدة، وزاد التركيز على الفنانين الممثلين تحديدا، ولكن ستشي لنا برامج هذه الفترة عن حال المجتمع من خلال تعابير الوجوه المتعبة والقلقة، وضيق صدر ضحايا الكاميرا الخفية وقلة صبرهم وغضبهم واشمئزازهم من فكرة الكاميرا الخفية ذاتها التي باتت تلاحقهم كضيق إضافي فوق ما يعانونه في حياتهم الواقعية.
يقوم أشهر منفذي هذه البرامج وهو رضوان قنطار، بملاحقة بعض الممثلين مرارا وتكرارا، وفي كل مرة يطلب منه الممثل أن لا يعيد الكرة.
في برنامج آخر لمقدم آخر بعنوان “ضحكتك لنا” نلاحظ فقرا هائلا في الفكرة والموهبة لدى القائمين على البرنامج، فيقومون بتعويض هذا النقص باختراق خصوصية الضحية واستفزازها إلى أبعد حد، وهو ما حمل الممثل نزار أبو حجر -على سبيل المثال- على ضرب منفذ المقلب.
تتمحور الفكرة في أن يأتي الممثل إلى ما يظنه شركة إنتاج، بعد الاتصال به مسبقا للعمل في مشروع مسلسل جديد، وفي إحدى الحلقات يستقبل منفذ المقلب إحدى الممثلات ويقوم بما يشبه الإغواء أو التحرش، ثم يخرج وتبقى وحيدة لمدة طويلة في المكتب والكاميرا لا تزال تصورها، وهو ما يعد اختراقا صريحا للخصوصية، وقد يعاقب عليه القانون في بلدان أخرى.
في مرحلة متقدمة من المقلب تضطر الممثلة وقد اعتراها الغضب إلى أن تصرخ في وجهه “لا تلمسني” بعد أن لمسها مرات عدة. وفي حلقة أخرى يسخر هذا الشخص من زيادة وزن إحدى الممثلات المشهورات وجها لوجه.
رامز جلال.. تجاوزات في السماء والماء تؤدي إلى القضاء
في مصر يتكرر التجاوز ذاته في برنامج رامز جلال الشهير عربيا، مع مقلب الطائرة الخطير للغاية، إذ تصرخ الضحية في وجهه رغم اعتقادها أنها تواجه خطر الموت المحتم: “لا تلمسني”، وأما الممثلة لوسي فقد أغمي عليها بعد هبوط الطائرة ونعتت رامز جلال بالكلب والفاشل مرارا.
وقد قامت الممثلة آثار الحكيم برفع قضية ضد رامز وشرحت في المحكمة مقلب أسماك القرش، وأنه ليس من حقهم أن يصوروا بكاميراتهم من تحت الماء أجساد الممثلات، خصوصا في حال ارتدائهن فساتين، وأنها حذرتهم مسبقا قبل التصوير أنها ترفض المشاركة في أي نوع من أنواع برامج الكاميرا الخفية هذه، لكن في المقابل تسخر المحكمة المصرية منها، ويواجهها إعلاميون في حرب إعلامية مفتوحة كهالة سرحان، من اشتهرت بدفاعها عن حقوق المرأة! وترد عليها آثار الحكيم، ويجري ما يشبه معركة اجتماعية حول الحقوق.
وفي برنامجه الرمضاني المنصرم قام رامز بإطلاق طلقات بندقية اللعب على أجساد الممثلين والممثلات من الخلف بشكل محرج، مما دفع فيفي عبده للصراخ والاعتراض أن ذلك لا يجوز، قبل أن تعرف بأمر المقلب، لأنها بعد أن تعرف يتغير الأمر فتصبح العبارة: يجوز.
الأمثلة لا تنتهي في برامج رامز، وفي الجزائر أيضا أثارت بعض حلقات الكاميرا الخفية غضبا في المجتمع الجزائري.
بوتقة الأمن والإعلام والسياسة.. دوافع الإنتاج الخفية
في النهاية يبقى لنا أن نتساءل ماذا تكشف الكاميرا الخفية لأيامنا الراهنة غير خيبة ضحاياها وتفاجئهم عند رؤية الكاميرا؟ لماذا لا يعترض الفنانون؟ كيف تعرّض حياة مواطن للخطر دون موافقته المسبقة، وهل موافقته اللاحقة عند اكتشافه للكاميرا التي لم تعد خفية، ورضوخه للمغريات الإعلامية والمادية، تسقط حقا عاما لجمهور يراد له أن يتورط في المشاعر السادية والإسفاف، بما ينافي أدنى معايير الحس السليم؟
من يقرر ومن يدفع التكلفة الإنتاجية ومن يربح؟ ومن يفرض هذه البرامج من فوق على مجتمعات لا حول لها، ولا تزال ترزح تحت حكم أنظمة تندمج فيها السلطات الأمنية والإعلامية والسياسية في وحدة عضوية؟
ربما أكثر ما تكشفه الكاميرا الخفية -إضافة إلى الأسئلة السابقة- أن حال المواطن العربي العادي الذي أصبح غائبا حرفيا عن الكاميرا الخفية، لا تتطابق في شيء مع حال النجم المهان والراضي عن إهانته أمام الكاميرات، تماما مثل رضاه عن نظام حكم بلده، وإلا لما كان من داع للبذخ على هذه البرامج وإنتاجها أصلا.