“مفاتيح مكسورة”.. معركة آلة الموسيقى ضد آلة الحرب

عبد الكريم قادري
حين وجّه فوهة البندقية إلى رأسه ترجّاه وهو راكع بأن لا يفعل هذا أمام الطفلين، واستعطفه بقوله إنهما وحيدان ولا يملكان معيلا، لكنه اتبع هواه وأطلق العنان لغضبه، وحين سمع كريم أزيز الرصاص أدرك أنهم أفرغوا الرشاش عليه، والتهمة أنه آواه في بيته مع امرأة مطاردة في مدينة أنهكتها الحرب، جاءها باحثا عن أشياء يصلح بها البيانو الذي كُسرت مفاتيحه بنيران التطرف والتعصب، فما قصة هذا الشاب الذي يعزف الموسيقى في زمن الحرب، وما حكاية المفاتيح المكسورة؟
اقترب المخرج اللبناني جيمي كيروز في فيلمه الروائي الطويل “مفاتيح مكسورة” (2020) من الإنسان السوري الذي أنهكته الحرب، وجعلته فردا مكسور الجناح والقلب والخاطر، تتقاذفه أرجل المليشيات والتنظيمات المتطرفة التي بسطت سيطرتها على مدن كثيرة من أراضي سورية بقوة السلاح، وأبرزها تنظيم داعش الذي بسط نفوذه على مساحات واسعة، وبالتالي فرض قانونه الخاص على كل منطقة سيطر عليها.
تحت رحمة السياط المتطرفة.. مناطق داعش
أصبح الفرد في مناطق داعش قابعا تحت رحمة قوانينهم وتطرفهم ومحاكمهم الشرعية التي باتت تجلد وتعدم وتحرم وتحلل وتنفذ أحكامها في الساحات العمومية أمام أنظار الجميع، لكي ترهبهم بمناظر الدم حتى يبقوا دائما تحت سيطرتها.
وقد نقل المخرج كيروز في “مفاتيح مكسورة” جزءا من هذه المعاناة التي عاشها السوريون لسنوات، عن طريق بطله الشاب كريم (الممثل طارق يعقوب)، وهو عازف بيانو يحلم مثل غيره بالهجرة إلى دولة أوروبية بعد أن أنهكته الحرب وشردته، إذ فقد في أتون نيرانها المستعرة عائلته وأقاربه وأصدقائه، ولم يعد له في سوريا سوى الذكريات الحزينة والأحلام الضائعة، لهذا فقد رغبة البقاء في مدينة تحكمها آلة التطرف بالحديد والنار، وتذكره دائما بمن فقدهم.
بيانو تحت وابل الرصاص.. تحريم الموسيقى
قرر كريم أن يبيع البيانو الذي ورثه عن أمه، ليتسنى له جمع مبلغ من المال كي يدفعه للمهربين، لكن أفراد داعش عن طريق جواسيسهم الذين زرعوهم في كل مكان تفطنوا له، وقاموا بتحطيم هذه البيانو بوابل من الرصاص، بحجة أن الموسيقى حرام ولا يجوز عزفها، لكن إرادة كريم كانت أقوى، وقرر إصلاح المفاتيح المكسورة.
سافر كريم من أجل إصلاح البيانو إلى مدينة بعيدة ليجمع أجزائها المتناثرة، وفي رحلته تلك اكتشف الكثير من الأشياء في طريقه، لكنه وصل أخيرا لتلك المدينة، وبدأ بحثه عن بيت أم جوزيف التي تملك المفاتيح، وفي المقابل وقف على خراب المدن السورية عن قرب، وتعرف وسط ذلك الدمار على المقاتلة سمر (الممثلة رولا بقسماتي) التي أصبحت وحيدة في تلك الشوارع المدمّرة.

تدريبات المتفجرات.. هروب زياد من عرين التطرف
قامت سمر بمساعدة كريم على إيجاد ما كان يبحث عنه مقابل مساعدتها، لكن الثمن كان غاليا، إذ أُعدم مضيفهم جوزيف (بديع أبو شقرا) أمام طفلين صغيرين تبناهما بعد أن عثر عليهما وحيدين، رغم أنه ترجى جلاديه من أجلهما، بحكم أنهما لا يملكان معيلا في هذه المدينة.
يعود كريم محمّلا بالمفاتيح التي يريد أن يستبدلها بتلك المكسورة، لكن العودة لم تكن كما كان ينتظر، فقد وجد بأن الدواعش أخذوا قريبه الطفل زياد (الممثل إبراهيم الكردي) وبدؤوا تدريبه على المتفجرات، كما أحرقوا أمامه الكتب المدرسية التي كان يعتمد عليها سابقا، حتى يزرعوا فيه بذور التطرف والقتل.
استطاع الطفل زياد أن يلوذ بالفرار من داعش، لكنه أصبح مطلوبا لديهم، إضافة إلى كريم الذي سمعوا بأنه أصلح المفاتيح المكسورة، وصار البيانو يعمل من جديد، وهذا أمر ممنوع يستوجب عقابه، والعقوبة هي الإعدام في الساحة العمومية.
من عازف “بولانسكي” إلى عازف كيروز.. اقتباسات السينما العالمية
حاول المخرج جيمي كيروز في فيلمه “مفاتيح مكسورة” أن يستعيد أجواء الفيلم الخالد “عازف البيانو” (The Pianist) الذي أخرجه البولندي “رومان بولانسكي” عام 2002، وحصد به عددا من الجوائز العالمية، أهمها ثلاث أوسكارات وسعفة ذهبية.
وقد عمد هذا المخرج في فيلمه لخلق مواجهة مباشرة بين الموسيقى والدمار الكبير الذي أحدثه جيش هتلر النازي، بحكم أن العمل يتناول فترة تاريخية مهمة من أحداث الحرب العالمية الثانية، ورغم أن السياق والمعالجة مختلفان، فإن المخرجين يتفقان على قيمة حضارية مهمة، وهي قوة الفن في مواجهة الدمار والخراب، وهذا ما حدث مع كريم بطل “مفاتيح مكسورة” الذي واجه العالم المتطرف ممثلا في داعش التي تقف في وجه الجمال والفن.
قرر كريم أن يكون طعما ليقضي عليهم، بعد أن اتفق مع إحدى الميلشيات يتزعمها طارق (الممثل عادل كرم)، وأخذ يعزف في الساحة التي كانت فضاء إعدام، ليستفزهم ويلتفوا حوله كالنحل، وهذا ما حدث معهم بالضبط، لهذا هاجمهم الثوار وقضوا على معظمهم، ليكون خيار المواجهة هو الحل الأمثل بالنسبة لكريم، والدليل أنه تخلى عن حلم الهجرة وأرسل مكانه الطفل زياد ليكبر ويعيش في بيئة غير بيئة القتل والدم، لتكون الموسيقى خيار مواجهة للروح البشرية التي انكسرت تحت ظلال القمع المتواصل والضغط المستمر على الإنسان، حتى صيّرته مجرد شبح أو جسد بلا روح.

مشهد الافتتاح.. لقطة مؤثثة تختصر فيلما كاملا
استغل المخرج جيمي في مفتتح الفيلم العناصر البصرية المؤثثة بالحس البشري، وملامحهم المكسورة والحزينة ليمهد لما هو آت، كما نقل واختصر عن طريق المصور جو سعادة أجواء الفيلم وإفرازاته في صورة بانورامية متحركة غنية بالرموز والإشارات الدالة.
تجوّلت الكاميرا في أحد الأقبية الواسعة بين مجموعة من الأشخاص يمثلون حساسيات وأعمارا مختلفة، فكريم يعزف البيانو، والعجوز أبو موسى (الممثل منير معاصري) يلعب الطاولة مع صديقه، ومايا (الممثلة سارة أبي كنعان) تدخن سيجارتها بشراهة، وبسام (الممثل فادي أبي سمرة) مهتم بشؤونه، فكل فرد في المجموعة يصنع عالما خاصا به في هذه المساحة الضيقة.
كان المخرج كأنما يختصر لنا مسافة الفيلم المقدرة بساعة وخمسين دقيقة في مشهد واحد متكامل، يخترقه خيط ألحان البيانو الذي يعزف عليه كريم مقاطع موسيقية، لتحدث مواجهة روحية غير مباشرة بينها وبين قلوب هذه الشخصيات المنكسرة، وبصورة أشمل تواجه الحرب وتقف ندا لها، في محاولة منها لمنع أو لصد جزء من الخراب الذي امتد من جغرافيا المدينة ووجودها الحسي، إلى روح الفرد ومعنوياته، ليمتزج لحن “بولانسكي” مع لحن كيروز، وعازف الأول مع عازف الثاني، تجمعهما آلة واحدة تكتنز داخلها مفاتيح نابضة توزع سر الحياة، تحاول أن تخترق شغاف القلب لتوقف سيل الشر والقتل الذي لا يريد أن يجف أو ينتهي.
نار الموقد ونار الفؤاد.. عبثية الحرائق الحسية والنفسية
وظّف الفيلم عددا من المشاهد العبثية والصادمة، صور يصعب على المتلقي تجاوزها، أو أن يتركها تمر دون أن يفتح أبواب الأسئلة عن العالم الذي سمح بخلق هذه الحروب وتركها تستمر لسنوات، مثل صورة كريم الذي رمى بمفاتيح البيانو المكسورة في قلب موقد النار ليذكيها، وكأن المخرج من خلال هذا المشهد يفتح مقارنة بين النار التي تحرق قلب كريم والأخرى التي تحرق المفاتيح، ويؤكد بأن الزمن يفرض على المرء ممارسة أشياء لا يقبلها.
إضافة إلى ذلك صنع المخرج مشهدا آخر أكثر عبثية، أطفال يسبحون في بركة ماء بين البنايات المهدمة، وقد صنعوا هذا المسبح من خلال قذيفة أو متفجرات سقطت وصنعت حفرة كبيرة، وقد قاموا باستغلالها لتكون مسبحا لهم.

آثار الرصاص والقنابل على الجدران.. جماليات الخراب الممتد
كانت في الفيلم مشاهد بالغة الإيلام والحزن والعبثية، وهي التي صنع بها المخرج وكاتب السيناريو جيمي كيروز درامية العمل، فاحتفى فيها بعدد من المتناقضات، وفتح الكثير من المقارنات المهمة، حتى يستطيع أن يوصل شعور الحرب والقتل للمتلقي.
كما استطاع أن يستخرج جماليات من مشاهد الخراب الممتد، تعكسه البنايات المتداعية والبيوت المتساقطة والشوارع المقصوفة، وآثار الرصاص والقنابل على الجدران، خاصة أنه التقط بعض المشاهد من الأعلى عن طريق الكاميرا الطائرة (الدرون)، مما جعل المتلقي يلتحم أكثر بالعمل، لأنه استقبل وشعر بالفضاء الذي دارت فيه أحداث الفيلم، وأحس بتلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفرجة لديه عندما تجمع في سياق أو حدث معين.
مهرجان “كان”.. كورونا يفسد تحليق الفيلم في سماء العالمية
اكتسب فيلم “مفاتيح مكسورة” حسّه الواقعي من الفضاء المتطابق مع أحداث الفيلم ومساراته، فقد جرى تصويره في مدينة الموصل العراقية بعد تحريرها من يد داعش، وبالتالي كانت مشاهد الخراب تحاكي بشكل شبه كلي مشاهد الخراب والدمار السوري.
من هنا هدم المخرج الهوة التي يمكن أن تحدث بين المتلقي والفيلم، لأن هذه المشاهد ساهمت بشكل كبير في نقل شعور القهر والحزن والفقد الذي يولد من الحرب، لهذا وجد منفذا له في المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” السينمائي.
لم يكتمل شعور فرحة اختيار هذا العمل في هذا المهرجان العريق، بعد أن ألغيت الدورة بسبب انتشار فيروس كورونا وظروف الإغلاق الكلي التي اتخذها العالم في بداية انتشاره، لكن هذا لم يمنع الفيلم من أن يكتسب صفة المشارك في “كان”، ليحلق في المهرجان بدون أجنحة، كما اختارته لبنان ليمثلها في الأوسكار في مسابقة أفضل فيلم أجنبي، لكن الحظ لم يحالفه ولم يحالف كثيرا من الأفلام الأخرى.

جائزة الأوسكار.. تجربة جديدة لمخرج صاعد
اكتسب المخرج جيمي كيروز في فيلم “مفاتيح مكسورة” تجربة جديدة في الإخراج، فأثّث بها مساره الذي ابتدأ في عمر صغير، فقد حصل سنة 2016 على جائزة الأوسكار المخصصة للطلاب عن فيلمه “موسيقى هادئة بالأسود”، وكان عمره وقتها 28 سنة. إضافة إلى جائزة مهمة تلقاها من جامعة كولومبيا وقتها.
وعن فكرة فيلم “مفاتيح مكسورة” يقول جيمي: راودتني الفكرة عندما كنت أتابع أخبار داعش في عام 2014، وكنت يومها أدرس في إحدى جامعات مدينة نيويورك، وصدمت عندما علمت أن التنظيم يمنع عزف الموسيقى أو سماعها، ورحت أعمل بحثا دقيقا عن كيفية مقاومة بعض الموسيقيين لهذا القرار، كلٌ على طريقته، فقررت أن أترجم هذه المعاناة بفيلم سينمائي كتبت قصته وأخرجته كي يكون بمثابة رسالة تحمل التفاؤل في زمن قاتم تجتاحه الحروب.