“المرأة التي هربت”.. بائعة ورد تفر إلى عالمها القديم بحثا عن السكينة

عبد الكريم قادري
مرّ على زواجها خمس سنوات كاملة لم تفارق فيها بيتها، ولم تنم بعيدا عن زوجها يوما واحدا، لكنها في الأخير قرّرت قطع عزلتها، وزيارة صديقاتها القديمات بعد أن انقطعت عنهن زمنا، فما هو سبب هذا التغيير المفاجئ، وهل كان الزواج سببا في انقطاعها عن عالمها القديم؟
ينطلق الفيلم الكوري الجنوبي “المرأة التي هربت” (2020) (The Woman Who Ran) لمخرجه “هونغ سانغ سو” من خاصية محاولة فهم المرأة ومعرفة ما تفكر فيه، وذلك لتعبيد طريق المشاهد حتى يصل إلى أعماق قلبها، ليقف على نبضاتها عن قُرب، وفي الوقت نفسه يفتح مسلكا لعقلها، ليرى نظرتها وفهمها للأشياء، وكأنّ هونغ سانغ سو يقدم خارطة طريق لفهم عوالم المرأة، حتى ينتصر لها ولخياراتها النفسية والجسدية.
يقدّم هونغ كل هذه المعطيات والإشارات بدون أسلوب سينمائي مُعقّد، فقط يعوّل على الممثلين وفهمهم الجيّد لأدوارهم، مع استيعاب مطالب الشخصية ومآلاتها الفلسفية، وهو الأمر الذي يُركز عليه بشدة دون أن يهتم بالتفاصيل الأخرى، لاعتقاده بأن القصة الجيّدة ذات البُعد الإنساني والممثلين المتوحدين معها؛ أهم شيء لصنع فيلم جيد.
“غام”.. تعود إلى عوالم صديقاتها الثلاث
هذا ما حدث بالضبط في فيلم “المرأة التي هربت”، حيث عوّل هونغ على الأداء الاستثنائي للممثلة “كيم مين هي” التي لعبت دور بائعة الورد “غام” (الشخصية التي تدور حولها القصة) ضامنة الانسجام بين الشخصيات الأخرى ومُحرّك ثيمة الفيلم الأساسية.
يحكي الفيلم قصة “غام” التي قرّرت أن تترك بيتها لتزور صديقاتها المقيمات في ضواحي مدينة سول الكورية الجنوبية، حتى تحيط بالحياة التي فاتتها، وتتعرف على عوالم صديقاتها الثلاث اللواتي افتقدتهن بعد قطيعة طويلة، وقد نامت عند كل واحدة منهن ليلة واحدة، استطاعت من خلالها أن تسترجع ما فاتها من حكايا وقصص، وتقف على ما حققن في عوالمهن المهنية والشخصية، وفي الوقت نفسه تعقد صفقة صُلح مع الماضي الغامض الذي عاشته.
“غام” البسيطة المُعقّدة.. هل هربت لتتصالح مع الماضي؟
ليست هذه المرة الأولى التي يتعامل فيها المخرج مع الممثلة كيم مين هي، فقد سبق وأن شاركت معه في الكثير من الأفلام التي نالت نجاحا عالميا، وتحوّلت بالنسبة له إلى ورقة الحظ الرابحة، لهذا واصل الرهان عليها.
وفي المقابل هي الأخرى لم تخيّب ظنه في أي عمل، وأدت في فيلم “المرأة التي هربت” شخصية غام بكل تعقيداتها، هذه التعقيدات التي يمكن أن تتجلى في البساطة التي ظهرت فيها، إذ لا يمكن للمشاهد أن يَخرج برأي نهائي حول ما إذا كانت ساذجة أم مجروحة، باردة أم قوية، لا تُظهر سقطاتها للغير حتى لصديقاتها القريبات، تتألم بصمت وتنكر هذا لتستمر في الحياة، تتلاعب بحقيقة أنها فقدت الحب والدفء والأحلام في مشروع زواجها الذي استمر خمس سنوات كاملات، لم تبِتْ فيه يوما خارج بيتها أو بعيدا عن زوجها، وكانت تردد جملة ذكرتها الكثير من المرات لصديقاتها عندما تسوق مسببات هذه العزلة بقولها: إن زوجها يقول لها دائما “العُشّاق يجب أن يبقوا دائما متلازمين”، ومن خلال هذا التلازم ابتعدت غام عن عالمها القديم تماما، وأحدثت معه قطيعة كلية، لكنها تعود إلى هذا العالم من جديد حتى تكون في الصورة، وتتصالح مع الماضي، وتضع بعض النقاط على الحروف.
يترك المخرج من خلال هذه المعالجة البسيطة والعميقة في الوقت نفسه باب التأويل مشرعا، من خلال جملة من الأسئلة يمكن للمتلقي أن يطرحها بعد مشاهدة الفيلم، وهي: هل فعلا غام تعيش حياة مثالية؟ وما الذي حدث لها بالضبط حتى رحلت وانقطعت؟ وهل هربت من عالمها بعد أن اكتشفت أن صديقها القديم الروائي “جونغ” (قام بالدور الممثل كون هاي هيو) على علاقة مع صديقتها “ووجين” (قام بالدور الممثلة ساي بيوك كيم)؟
أما السؤال المهم الذي سيُطرح بقوة فهو: هل غام هي “المرأة التي هربت” في هذا الفيلم؛ هربت من عالمها القديم ومن حياتها وصنعت لنفسها حياة جديدة؟ ربما تكون قد اختارت قصتها بعناية فائقة.

عالم المثقفين.. صرخة تُعرّي عوالم المزيفين
صنع المخرج هونغ سانغ سو جماليات فيلمه من التفاصيل الصغيرة التي ربما يغفل عنها آخرون، انطلاقا ووفاء لأسلوبه السينمائي القديم الذي اعتمده تقريبا في الـ25 فيلما التي أنجزها، حيث خلق في الكثير من أفلامه شعريات صنعها من التفاصيل الصغيرة التي ابتعد فيها عن الديكور الضخم الذي عادة ما يكون في أفلام السينما الاستهلاكية، أو الأعمال ذات الميزانيات المرتفعة، وبالتالي حدد للمشاهد ما يمكن أن يقف عليه في عمله.
وفي الوقت نفسه حتى لا يقع في فخ التكرار رغم اقتراب قصص أعماله من بعضها بعضا، لينتصر في كل هذا للمرأة والإنسان بطريقة ذكية، خاصة حين يستغلها ليفكك عن طريقها العلاقات البشرية، ويُعيد تركيبها انطلاقا من صوابيته وفقا لسياق مُجتمعي يراعي فيه خصوصية كل علاقة استنادا لمرجعيتها.
في فيلم “المرأة التي هربت” فإن هونغ يستدعي الجماليات البصرية والفنون، إذ إن شخصيات العمل لها علاقة مباشرة بعالم المثقفين وتنطلق منه، مثل زوج “ووجين” الروائي الكبير، و”ووجين” هي الأخرى تعمل في إدارة قاعة سينما، و”سو يانغ” (قامت بالدور سونغ سيو مي) مصممة الرقص المهتمة بالفنون التشكيلية، والتي جمعتها علاقة عابرة مع شاعر يصغرها سنا، وفي الوقت نفسه هي مُعجبة بمصمم ديكور، كما أن صاحب المبنى الذي تسكن فيه خفّض لها سعر شقتها لأنه يحب الفنون، وحديثها عن المقهى الذي يرتاده الشعراء والكتاب والمخرجون، حتى إن زوج غام تقول بأنه مؤرخ ومترجم روايات.
كل هذا يعني أن عالم هذا الفيلم هو الطبقة المثقفة، لهذا جاء الحوار في معظمه انتقادا صارخا لهذا العالم، مع تقديم رؤيا فلسفية لبعض الأشياء، مثل الحديث الذي جرى بين غام وووجين عن الروائي جونغ الذي يتحدث بشكل دائم في نفس الموضوع عند ظهوره في الإعلام، حيث تقول ووجين في نقاشها مع صديقتها بأن تكرار الكلام نفسه يصبح مملا، لأنه يفقد خاصية الخروج من القلب، وبالتالي تسقط مصداقيته.

النافذة.. إطار على جدار يكشف مكنونات النفس
قدّم المخرج بعض اللوحات الفنية عن طريق تثبيت الكادر السينمائي وتأثيثه بخلفية مُشبعة بالجماليات، مثل ما حدث في بيت سو يانغ عندما ركّز الكاميرا على إطار النافذة المُطلة على منظر خارجي، فقد أصبح الأمر وكأنه إطار فني مُعلق على جدار، وهو المعادل الموضوعي لحالة سو وعالمها.
هذا إضافة إلى حوار المرأة في بيت “يانغ جين” (قامت بالدور الممثلة يو مي لي) مع الجار، والذي جاء يشتكي لأنها تطعم القطط الضالة، وهو يريدها أن تكفّ عن هذا حتى ترحل القطط، وكأن هذا الجار يريد أن يسلب حياة القطط حتى تعيش عائلته.
وفي الوقت نفسه الحديث الداخلي الذي جرى بحماسة بينهم عن ديك الجارة الذي ينتف ريش رقاب الدجاحات دون أي سبب، فقط حتى يُثبت ذكوريته ووجوده بينهن، وهو إسقاط ذكي عن ظروف المرأة وما تعيشه في عوالم الرجل.
حوارات مكثفة وصور متقشفة
اعتمد الفيلم بشكل أساسي على الحوارات الكثيرة والكثيفة والهادئة، دون أن يضيف إليها الموسيقى التصويرية التي عادة ما تشحن وتوجّه عاطفة المشاهد لمسار معين، ومن خلالها فقط تم تفسير وفهم بعض خيوط القصة، كما جاءت الصور متقشفة جدا ومحصورة ضمن نطاق ضيّق تعكسه بعض الفضاءات الداخلية وأخرى خارجية، رغم انحصارها في غرفة ضيوف أو مطبخ ورواق، وهي المشاهد التي يجمعها هونغ سانغ سو في مشاهد مُطوّلة، وكأنه يُريح بها عوالم المونتاج المرهقة والمعقدة.
وقد نجح هونغ في هذا الرهان الذي يتخذه أسلوب عمل، خاصة وأنه يقوم -إضافة إلى الإخراج- بالعديد من الوظائف في أفلامه، ففي فيلمه هذا قام هونغ بالإخراج وكتابة السيناريو وتأليف الموسيقى والإنتاج، وذلك انطلاقا من مقولة “إذا أردت أن تُنجز عملا كما ينبغي فأنجزه بنفسك”، وهو المبدأ الذي يتمسك به هونغ في معظم أفلامه.

“هونغ سانغ سو”.. المخرج الذي تعشق المهرجانات أعماله
يعتبر المخرج هونغ سانغ سو (60 سنة) من أكثر مخرجي آسيا مشاركة في المهرجانات السينمائية العالمية، خاصة المُصنفة في الفئة “أ”، ففي السنوات الأخيرة فقط شارك بفيلمه “وحيدة على الشاطئ ليلا” 2017 في مهرجان برلين السينمائي في دورته الـ67، وفازت بطلته الممثلة “كيم مين هي” بجائزة أفضل ممثلة. يحكي الفيلم قصة ممثلة مشهورة ارتبطت برجل متزوج، بعدها دخلت في مرحلة تأنيب الضمير، لترحل عنه وترى إن كان سيتصل بها أم لا.
أما في عمله “اليوم التالي” سنة 2017 فقد أخرجه باللون الأبيض والأسود فقط، وشارك به في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي، وقد لعبت فيه أيضا الممثلة كيم مين هي البطولة. ويروي الفيلم قصة موظف في دار نشر تقع بينه وبين زوجته العديد من المشاكل، وذلك بعد أن تشتبه في دخوله علاقة غرامية مع عشيقة سرية، لتبدأ بعدها سلسلة من المشاكل حين تقع رسالة غرامية في يدها مرسَلة لزوجها من طرف حبيبته.
وفي سنة 2015 أخرج هونغ فيلم “الحقيقة الآن ثم الخطأ” الذي شارك في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي، وفاز بطله “جونغ جاي يون” بجائزة أحسن ممثل. كما أخرج العديد من الأفلام التي شاركت في هذه المهرجانات، مثل فيلم “الليل والنهار” سنة 2008، وفيلم “ابنة لا أحد” سنة 2013، وفيلم “يوم وصوله” سنة 2011.
إن نجاح أفلام المخرج هونغ سانغ سو دليل واضح على قوة موهبته السينمائية ورسوخ أسلوبه السينمائي، وهذا ما يجعله المخرج الذي تُحبه المهرجانات وتعشق أعماله، لهذا لا تتخلف عنها منذ سنوات.