“عُبادة”.. يوتيوبر وحيد رغم ملايين المتابعين

محمد موسى

بعيدا جدا عن قاعدة معجبيه ومتابعيه الجغرافية، يعيش اليوتيوبر السوري الشاب عبادة خير الدين في هولندا، وهو البلد الأوروبي الذي لجأت إليه عائلته قبل سنوات، والذي لا يعرفه فيه أحد، حيث إن عبادة ينجز فيديوهاته باللغة العربية، فيما يعيش جُلّ من يشاهد أعماله في الدول العربية.

ما بين شهرته الجارفة على الإنترنت وغربته في البيئة التي يعيش فيها، يدور الفيلم التسجيلي الهولندي “عبادة” الذي أخرجه الهولندي صقر خادري، وعُرض مؤخرا على إحدى قنوات التلفزيون الهولندي الرسمي.

“عندي أكثر من مليوني متابع على يوتيوب”، هذا ما يخبر به عبادة مجموعة من الشباب الهولنديين الذين كانوا ينتظرون -مثله- دورهم أمام عربة لبيع الطعام، فالشاب السوري يحتاج أن يشرح بأنه على الرغم من عدد المتابعين الكبير هذا، فإنه ما زال غير معروف بالمرة في هولندا، فما ينجزه على صفحته على يوتيوب من محتوى متنوع هو باللغة العربية، ولا يُناسب لغة البلاد التي يسكنها.

جذبت محادثة عبادة مع الشباب الهولنديين اهتمام صاحب عربة الطعام الذي وجد صعوبة كبيرة في نطق اسم الشاب السوري، وذلك في حادثة تكشف عن أحد جوانب الأزمة التي يعيشها عبادة ويركز عليها الفيلم، أي حياته المجزأة بين عالمين: شهرته في العالم العربي الذي تركه، ووحدته في البلد الغربي الذي يعيش فيه.

 

عبادة وأبوه.. رسالة شجن وتوتر

إلى جانب عبادة يهتم الفيلم التسجيلي الهولندي بوالده، حتى يمكن القول إن الفيلم مُقسّم بالتساوي بين الشخصيتين، حيث الصراع بين الأب والابن أمثولة عن التحديات التي يواجهها الآباء والأبناء المهاجرون معا في بلاد تسير أحيانا وفق قواعد اجتماعية تختلف عن الأماكن التي ولدوا ونشؤوا فيها.

وإذا كان التوليف السريع يميز معظم المشاهد التي تهتم بعبادة، فإن الفيلم التسجيلي يبتكر أسلوبا مختلفا في معالجته لقصة الأب، إذ يطلب منه أن يكتب رسالة طويلة إلى ابنه يلقيها هو نفسه باللغة العربية الفصحى.

يبدأ الفيلم بمشاهد سريعة لعبادة تلخص حياته اليومية التي يُهيمن عليها بالكامل نشاطه على الإنترنت، فهو يصوّر الكثير من تفاصيل اليوم، ويقترب ما يعمله من مخرجي الأفلام التسجيلية الذين يوثّقون الحياة اليومية لشخصياتهم.

يشتغل عبادة أيضا بشكل دوري على الأفلام الكوميدية التي يعملها لقناته، فهو يمتلك الموهبة الخاصة بإضحاك الملايين، والتي جعلته يحقق شهرة جارفة على يوتيوب، الأمر الذي دفع إدارة الموقع الشهير لمنحه الدرع الخاص بالقنوات الشعبية، وهو الدرع الذي يحمله السوري الشاب بفخر كبير في أحد مشاهد الفيلم.

يفرد الفيلم مساحة لرسالة الأب الطويلة التي تكشف عن هواجسه وعلاقته المتوترة مع ابنه، وبالتأكيد حبه الشديد له، فهو وإخوته كانوا السبب الذي دفع بالأب والأم لترك سوريا أثناء الحرب، والتوجه رغم المخاطر إلى هولندا التي يعيشون فيها اليوم في قرية صغيرة.

والد عُبادة المُستاء من ابنه اليوتيوبر، فهو يرى أن ما يقوم به ابنه هو عمل بلا منفعة

 

“أريد أن أصبح ممثلا أو مغنيا”.. صراع الابن مع أبيه

في مسارين متوازيين يرصد الفيلم يوميات الأب والابن، وعندما يتقاطع المساران تتصادم الشخصيتان، فالأب ما زال يرى فيما يقوم به ابنه عملا بلا منفعة، ويريد له أن يدرس في هولندا، إذ إن الدراسة الأكاديمية وحدها كفيلة ببناء مستقبل جيّد حسب الأب، فيما الابن يرغب بمواصلة ما يقوم به على يوتيوب، ليطوره ويصبح شخصية عامة.

“أريد أن أصبح ممثلا في هولندا”، هذا ما يكشفه عبادة الذي ما زال يتعثر كثيرا في حديثه باللغة الهولندية، فعبادة ما زال ينتج مادة لقناته على يوتيوب، والتي تتمثل أحيانا بكونه ممثلا في مقاطع كوميدية، ويحاول منذ فترة أن يجرب نفسه في الغناء، فيرافقه الفيلم عندما كان يسجل أغنية تمزج بين العربية والهولندية مع شاب سوري لاجئ هو الآخر.

وستكون المادة الأرشيفية أساسية في الجزء الذي يختص بوالد عبادة، فهو كان قد سجل مشاهد عديدة لابنه منذ ولادته إلى أن ترك سوريا، وسجلت تلك المقاطع مشاهد عامة لبيت العائلة في دمشق، وأخرى تجمع العائلة الكبيرة التي كانت مترابطة كما يصفها الأب.

تغلب الدموع والد عبادة عندما يتذكر والده الذي توفي قبل أعوام بينما كان هو في هولندا، حيث يشعر والد عبادة بالذنب لتركه والده، ويحاول أن يعوض عن ذلك بالتقرب أكثر من ابنه، فيما الأخير يكاد يختنق من قيود العائلة.

عُبادة يظهر وحيدا حزينا بعد أن رفضت عائلته خياره العاطفي بالارتباط بفتاة عراقية

 

علاقة عاطفية.. رفض قاطع ينذر بتفكك الأسرة

تتكشف تدريجيا عبر زمن الفيلم أزمة تتعلق بعلاقة حب بين عبادة وفتاة عراقية تعيش في هولندا، إلا أن عائلة الفتى السوري غير راضية عن خيار ابنها العاطفي، وتعتبر أن الفتاة لا تليق بالعائلة.

لا يكشف الفيلم كل ما يخص هذه الفتاة، كما أن المخرج لا يُظهر وجهها حين كانت مع عبادة، ربما بسبب رغبة الفتاة ذاتها بذلك، والتي اختارت أن تُبقي حياتها العاطفية بعيدا عن الكاميرا، بيد أن هذا سيترك فراغات في القصة، إذ تتجنب العائلة ذكر السبب الأساسي لرفض الفتاة، فيما كانت بعض الإشارات تتعلق بمعاملتها وعدم احترامها لهم، وأنها من طبقة اجتماعية غير مناسبة لطبقتهم.

تصل الأزمة بين عبادة وعائلته بخصوص علاقته مع الفتاة العراقية إلى طريق مسدود، وتدفع الشجارات الفتى السوري إلى حزم حقائبه ومغادرة بيت العائلة والتوجه الى مدينة قريبة، حيث سيقابل حبيبته بشكل يومي.

لن تتوقف العائلة عن محاولاتها إرجاع ابنها إلى حضنها ومنعه من الزواج ممن يحب، فنراه مثلا في مشهد طويل يسمع تقريعات أخيه الأكبر الذي يذكره بتضحيات الأهل من أجله، ويُعيد عليه الأسباب التي دفعت عائلته لرفض الفتاة.

وفي مشهد آخر يتلقى عبادة اتصالا هاتفيا من جده لأمه في سوريا، حيث يُعاتبه هو الآخر على ترك عائلته، ويضغط عليه بتذكيره بأن صحته –أي الجد– تمرّ بأزمة، وأن أي أخبار سيئة يمكن أن تزيد من حدّة هذه الأزمة.

وفي أقوى مشهد على صعيد محاولات عائلة عبادة إرجاعه إلى حضنها، تُعنّف الأم ابنها بقسوة ظاهرة، وتنذره بأن زواجه من الفتاة التي يُحب تعني نهاية علاقته بأهله، وأن عليه أن ينسى إذا تمّ الأمر أن له أمّا.

اللاجئ السوري عُبادة يعيش حالة من الانهيار النفسي بعد الضغوط العائلية التي فُرضت عليه ليقطع علاقته بحبيبته العراقية

 

التضحية بالحب.. على حافة الانهيار النفسي

تدفع الضغوط العائلية والأزمة في علاقته العاطفية عبادة إلى حافة الانهيار النفسي، فيظهر في مشاهد ضائع تماما، منها واحد يسأل الكاميرا عما جناه ليكون وحيدا هكذا دون أهل، ولماذا لم تخفف الشهرة التي يملكها وعدد الأتباع الكثر على يوتيوب من هذه العزلة والوحدة؟

في النهاية يرضخ عبادة لضغط أهله، ويقرر قطع علاقته بحبيبته، ويعود إلى بيت الأهل مكسورا، فيما يتركه الفيلم وعلاقته المتوترة مع أبيه على حالها من الخصام وعدم التفاهم.

ينقسم زمن الفيلم واهتمامه بين عبادة وأبيه والعلاقة المتأزمة بينهما، حيث يكرس المخرج الاختلاف بين عالمي شخصيته بالمشاهد التي اختارها لكلا العالمين، فانتقى مثلا في حالة الأب مشاهد أرشيفية صُورت في سوريا، وذلك لتمثل ماضي الشخصية، والتي ما زالت تعيش فيه حتى اليوم، وينعكس في علاقتها بابنها.

أما مشاهد الابن عبادة فهي من حاضر الشخصية في هولندا، من حياته المزدحمة بالتصوير لقناته، أو تصوير نفسه على طوال اليوم، وهو الأمر الذي يقترب من الهوس، فكل شيء يحدث يمكن أن يَصلح كمادة تُعرض على قناته.

يحلم عبادة بالنجاح في هولندا، حيث البلد الذي أصبح بلده رغم أنه عانى قليلا في المدرسة مما وصفها عنصرية كانت موجهة ضده من طلبة هولنديين، لكن هذا لم يوقف أحلامه، فهو يكشف أنه يتمنى أن ينتقل بموهبته إلى اللغة الهولندية ليصبح أحد مشاهير هولندا نفسها، ولا تقتصر شهرته على الناطقين بالعربية.

واحدة من الصور الأرشيفية التي يحتفظ بها والد عٌبادة له ولابنه في منزلهما في سوريا قبل لجوئهما إلى هولندا

 

أرشيف العائلة.. حنين إلى سوريا

ينتفع الفيلم من مادة أرشيفية ضخمة من حياة العائلة عندما كانت تعيش في سوريا، فوالد عبادة كان يمتلك كاميرا فيديو صوّر فيها الكثير من مقاطع الفيديو المنزلية، والتي حَفظت الكثير من أزمان حياة العائلة. ففي أحد مشاهد الفيلم كان والد عبادة يستذكر صور أفراد عائلته الكبيرة، والذين كانوا يظهرون في مادته الأرشيفية، ويتساءل إذا كانت الحياة ستسمح له بمقابلتهم مجددا.

وعلى الرغم من أن الفيلم يقترب بحميمية من عالم عبادة وأزماته مع أهله وقصة حبه، فإن الكثير من الأسئلة ظلت من دون إجابات، وبدا الفيلم وكأنه يتجنب كشف كل المستور أو المحظور مجتمعيا ليقترب -أي الفيلم- من تقاليد الطبقة الشرقية التي يقدمها، والتي يطبع تصرفاتها الحذر والخشية من وجهات نظر الآخرين عنها.

بدت نهاية الفيلم قاتمة قليلا، خصوصا على صعيد العلاقة الجدلية بين جيل المهاجرين الأول وأبنائهم. فعبادة بتخليه عن الفتاة التي يرغب في الزواج منها أقرّ بسلطة الأهل الكبيرة عليه، وهو ما يراه البعض أحد الأسباب التي تعرقل اندماج المهاجرين ببلدانهم الجديدة، ويبقيهم ضمن نفوذ وتأثير العائلة والمجتمعات التي أتوا منها، وهذا يقود إلى أن حياتهم القادمة ستدور غالبا في فلك الماضي.


إعلان