“بنات العساس”.. هجرة من بؤس البادية إلى قسوة الدار البيضاء

المصطفى الصوفي
باللهجة العامية المغربية تستهل المطربة أسماء لمنور أغنيتها الجديدة بهذا الاستهلال الحزين: “وقتاش نولي تانا كيفي كيف الناس؟ رجعات حياتي لور نشالله نولي لاباس”، وتعني باللغة العربية الفصحى “متى أصبح أنا أيضا مثل باقي الناس؟ إن حياتي عادت إلى الخلف، إن شاء الله في المستقبل سأصبح بخير”.
وتسترسل الأغنية حرقتها ودراميتها مع باقي الكلمات، حيث البطلة المكلومة تحلم بالفرح، وبإحساس يحيا فيها من جديد، بعد ملل طويل وقهر زمان لم يوصلها إلا إلى طريق مهجور.
كما تعبر الأغنية الحزينة -التي كتبها محمد أمير، ولحنها محمد فارسي- عن أن حظها في الحياة عاثر ومفقود، والدنيا لم ترحمها، وليس لها من يواسي غربتها، وحدها الدموع تكون دواءها، ثم تتساءل بحرقة عميقة “أين تقودني يا قلبي؟ إلى أي طريق تسير؟”.
مسحة الدراما الحزينة.. مواجع تختزلها كلمات المقدمة
كانت أسماء لمنور بارعة في أداء أغنية مقدمة مسلسل “بنات العساس” (30 حلقة) لمخرجه إدريس الروخ، وقد لقي المسلسل متابعة قياسية خلال شهر رمضان، حتى تجاوزت نسبة مشاهدته في بعض الأحيان أكثر من ثمانية ملايين مشاهد، أي بنسبة أكثر من 52% من مجموع مشاهدات القناة المغربية الأولى في رمضان.
يمكن القول إن كلمات الأغنية بما لها من مواجع دفينة ومسحة درامية حزينة؛ تختزل البنية الحكائية والقصصية العامة لسلسلة “بنات العساس”، التي تنبني حبكتها المتشابكة على قضايا اجتماعية موغلة في تمثلات الألم والهموم والانكسارات والحب والأحلام.
مسلسل “بنات العساس” هو نتاج أحلام مجهضة في مهدها لفئات من المجتمع، وتطلعات شخوص تعيش هلوسات الحرمان والعذاب النفسي والعائلي، وهم يعيشون بالعالم السفلي، بما فيه من أحقاد ومكائد وضغائن، لكنهم يبحثون عن كوة ضوء من أجل الحياة.
فريق العمل.. تميز في بستان الدراما المزدحم
قامت بإنتاج المسلسل شركة “ديسكونوكتيد”، وهو من فكرة إبراهيم علي بوبكدي، وسيناريو بشرى ملاك وهشام الغفولي، وأداء عدد من النجوم، لعل أبرزهم منى فتو وسعاد خويي ودنيا بوطازوت وعزيز الحطاب ومحسن مالزي وعبد الرحيم التميمي وفاطمة حركات وساندية تاج الدين وسارة فارس ومنصور بدري وهاجر مصدوقي وأمينة شفشاوني وعبد القادر عيزون وكاميليا راك وغيرهم.
برع المخرج إدريس الروخ من الناحية الفنية والرؤية الإخراجية، من تجسيد مختلف مشاهد السيناريو المحكم والمشوق على أرض الواقع، إلى اختيار الممثلين، كل حسب مهمته في الزمان والمكان للقيام بواجبه كما ينبغي، بحثا عن فرجة درامية فيها كثير من الصمت والأحزان والأحلام والدموع.
لم يكن إدريس الروخ يتوقع أن يحقق مسلسله كل هذا التفاعل والتجاوب مع الجمهور، وذلك بالنظر إلى تنوع الباقات التلفزيونية وكثرة الإنتاجات الدرامية المغربية، وتنافسها على احتلال المراتب الأولى في المشاهدة.
“أفضل مسلسل في المغرب العربي”.. أوسمة النجاح الجماهيري
استطاع المسلسل بفيض من المشاعر المتدفقة أن يحظى بكثير من الاهتمام والاحتفاء، حيث توج بالجائزة الكبرى لمهرجان مكناس للدراما التلفزية في دورته العاشرة، كما جرى تكريمه قبل مجلة سلطانة المغربية مؤخرا، فضلا عن تتويجه بلقب “أفضل مسلسل في المغرب العربي”، حسب تصنيف “موقع إي تي بالعربي” (etbilarabi.com)، وهو المرجع العربي الأول للأخبار الفنية وأخبار النجوم في عالم الفن والترفيه والمشاهير في العالم العربي وفي هوليود وبوليود.
ترى ما السر في اهتمام الجمهور بمسلسل “بنات العساس”، مقارنة بأعمال تلفزيونية أخرى ربما تتشابه معه في طرح قضايا اجتماعية مختلفة، وكيف استطاع المخرج أن يوفق بين الموضوع واختيار الممثلين واحترام السيناريو؟
لعل اهتمام الجمهور بالمسلسل يعود بالأساس إلى حبكة السيناريو القوية التي استمدت أولى حبكاتها من الواقع الاجتماعي المغربي المعاش، فكلما كانت الأعمال مستلهمة من قصص واقعية معاشة، وكان تصويرها منفذا بطريقة فنية جميلة دون السقوط في الارتجال السردي النمطي؛ كانت أقرب الى الناس وتعاطفوا معها بشكل كبير، وهو ما حصل مع “بنات العساس”.

بنات الحارس القادمات من البدو.. تحديات الدار البيضاء
في قراءة لعنوان المسلسل “بنات العساس” يتضح أن الأمر يتعلق ببنات ورجل يمتهن حرفة يمكن ان تكون وضيعة وقدحية، ألا وهي الحراسة بما لها وما عليها، وبما للحارس من بلية القمار والإدمان، وما تتملك بناته من أحاسيس تجاه أبيهم الخارج عن طاعة الله.
تتكون العائلة الفقيرة والمحتاجة من عدد من الإناث دون الذكور، لما للذكور من دور في مساعدة الأب، وأهمية في مجتمع لا يرحم، وفي المقابل لما للإناث والحريم من ضعف، وعدم قدرتهن على مجابهة صروف الزمان ومصاعب الحياة.
يقدر للعائلة الفقيرة -التي تعيش ظروفا صعبة في البادية- أن تحل بمدينة عملاقة هي الدار البيضاء، رغبة في تحسين ظروفها الاجتماعية والمالية، ونسيان مرارة الحرمان والذل والهوان والحياة البئيسة التي عاشتها العائلة في البادية.
حين تحل العائلة الفقيرة بالمدينة يعمل الأب المعيل الوحيد للبنات حارسا، بينما تعمل الأم خادمة ومنظفة لدى إحدى العائلات الميسورة، ويستمران بصبر في عملهما رغم الصعوبات، بسبب تكاليف الحياة في المدينة وتصرفات أهلها والفوارق الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء.

سجن وموت وميلاد وزواج.. تشابك الأحداث
مع توالي أحداث المسلسل تطفو على السطح أحداث متشابكة، لعل أبرزها وفاة الوالدة، وطرد الابنتين من منزل المشغل، وإدخال أبيهما للسجن في قضية جائرة، فضلا عن ولادة البنت الثالثة، وزواج الأخت الكبرى، وترعرع البنت الصغرى، وتوالي باقي المشاهد بكثير من التشويق والصدمات والآلام والدموع.
في خضم هذه الأحداث المتشابكة والوقائع المؤثرة، يصنع المخرج الروخ من الصورة التلفزيونية حدثا فرجويا بامتياز يرسخ في العمق، لكشف النقاب عن واقع مرير تعيشه أسر مغربية كثيرة، وفي أحلامها الانتقال إلى المدينة لتحسين وضعها، لكنها تصطدم بواقع أمر.
مسلسل “بنات العساس” في هذا السياق هو منظومة فرجوية على كثير من المواضيع والقضايا الاجتماعية، ولعل من أبرزها استعباد الإنسان، والنظرة الدونية إلى الطبقة الفقيرة، واستئساد الطبقة الغنية على الطبقة المحتاجة.

فخ المدينة لأبناء الريف.. ملامح الصراع الطبقي
يعالج المسلسل بحس إنساني قضايا أخرى، مثل الحرمان والتفكك الأسري والهجرة من القرية إلى المدينة، حيث تعد الهجرة من أسباب المشاكل الكبيرة التي نجدها مثلا في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وأغادير وسلا والقنيطرة.
فهجرة كثير من العائلات من الريف إلى المدينة، يكون رهانا كبيرا على تحسين الأوضاع الاجتماعية، ومحاولة تحقيق الربح السريع، لتسلق درجات السلك الاجتماعي، لكن ذلك لن يكون سهلا أمام جبروت الطبقة الغنية وسلطتها ونفوذها.
أمام صعوبة تحسين الأوضاع الاجتماعية واستحالة تحقيقها في بعض الأحيان، يكون من السهل على المرء الانغماس في حياة أخرى تتعلق بالمخدرات والسرقة والاعتداءات، وغالبا ما تقود إلى نهايات غير محسوبة، وترمي بأصحابها في غياهب السجون.
في هذا الصدد يقدم مسلسل “بنات العساس” صورة قاتمة في قالب فرجوي مشوق ومثير، لواقع يحكمه الصراع بين الطبقات، كما يسلط الضوء على واقع آخر متعلق بمجال المخدرات والكحول والخيانة الزوجية والقمار والتشرد والحقد والأخلاق الفاضلة والحب الجميل.

صراع الخير والشر.. معركة تحقيق العدالة الفرجوية
إن قضية الدراما التلفزيونية في بنات العساس محكومة بنسق فلسفي ووجودي وإنساني يتجلى بوضوح في صراع الخير والشر، وهما قيمتان تتصارعان من خلال كثير من الشخوص، إذ يحاول كل واحد منهما الانتصار على الآخر، وتحقيق ما يسمى العدالة الاجتماعية في الحياة.
هنا يمكن طرح السؤال، هل تحققت العدالة الاجتماعية والوجودية في مسلسل بنات العساس؟ وهل استطاعت الشخوص الشريرة أن تحتكم إلى ضميرها الإنساني، وتعترف بأخطائها تجاه من تراهم أقل منها مستوى في المال والسلطة والنسب والحسب؟
استنادا إلى البنية العامة لهذا العمل الدرامي المتشعب بأفكاره، استطاع إدريس الروخ أن يرسخ لهذا النسق في تحقيق العدالة الفرجوية، وذلك من خلال التركيز على تناغم وتماسك ثلاثي فني مهم، ويتعلق الأمر بسيناريو قوي، وممثلين بارعين، وقضايا اجتماعية قريبة من الحقيقة.

توليفة المحترفين والمبتدئين.. مزيج الاحتراف والحماس
اختار الروخ لتجسيد أدوار السلسلة نخبة من نجوم السينما والمسرح والتلفزيون، لعل أبرزهم منى فتو الممثلة البارعة التي تألقت في أعمال سينمائية كثيرة، خاصة مع المخرج سعد الشرايبي، فضلا عن سعاد خويي خريجة الدفعة الأولى للمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط في التسعينيات من القرن الماضي.
ولتحقيق توليفة تشخيصية متجانسة استعان المخرج بالكوميدية الشهيرة دنيا بوتازوت، والممثل المقتدر عزيز الحطاب، والنجمة المتألقة ساندة تاج الدين، فضلا عن وجوه جديدة لعل أبرزها ملكة جمال المغرب سابقا الممثلة سارة فارس والنجمة كاميليا راك وعبد الرحيم التميمي ومريم لكرع وغيرهم.
شكلت هذه النخبة من النجوم خليطا بين المحترفين وبين الجيل الجديد، ولعل ذلك هو ما أعطى للسلسلة نوعا من التناسق والانسجام، وقد تميز العمل بإفساح المجال للوجوه الجديدة لإبراز قدراتها التشخيصية، وقد تأتى لها فكانت علامة جديدة في عالم التمثيل، مما قد يقودها إلى معانقة النجومية في أعمال قادمة، خاصة في السينما.
بهذا الحماس الذي أبدته الوجوه الجديدة في التعامل مع روح العمل الدرامي، واحترافية الوجوه البارزة؛ استطاع فريق العمل أن يقدم نموذجا حقيقيا لعمل درامي يصور المشاعر والانفعالات في لحظات الفرح والترح والهجر والخسران.

استخلاص العبرة من الواقع.. انتصار المسلسل لقيم الجمال والحب
لا شك أن تفاني كل فريق العمل بما فيهم شركة الإنتاج -التي سعت إلى توفير كل شروط نجاح العمل، وتحقيق الدعم والتشجيع المشرك، بعيدا عن كل حزازات أو انفعالات أو احتكاكات-؛ ساهم بشكل كبير في جعل بنات العساس يخرجن من قمقم الحرمان والنظرة الدونية، إلى شط الشهرة والنجاح.
كما لا ننسى في هذا الجانب أن الرؤية الإخراجية التي اعتمدت على مستوى تطريز صورة تلفزيونية أكثر جمالية وشاعرية، خاصة على مستوى التركيز على الزاوية الكبيرة، لإبراز قوة الأحاسيس؛ ساعد هو الآخر في تفاعل الجمهور مع باقي مكونات العمل، مما قاد في النهاية إلى استخلاص العبر من الواقع، عبر قصص خيالية تكون قريبة من الواقع.
بهذا السلسلة تنتصر بنات العساس لقيم التحدي والجمال، بعد محطات مثيرة من هروب الجنس اللطيف المعذب من القرية إلى مدينة الدار البيضاء، وسط أحداث يتسارع فيها تدفق المشاعر، بين أب مدمن مقامر، وجيران قاسين، وأخوات طموحات وحالمات، ومجتمع شرس لا يرحم.
من هنا يكون “بنات العساس” العمل التلفزيوني المتكامل الذي حقق أفقا انتظر الجمهور، وجمع حوله فيضا من الأسر والعائلات بعد ساعة الإفطار، فكان نقلة درامية نوعية، رفعت من قيمة الأعمال الدرامية المغربية مقابل نظريتها العربية والتركية، وهو ما يفتح آفاقا رحبة لمزيد من الاجتهاد والتشويق والتصوير المحكم، والأداء الجيد في قادم الأعمال.