“السير أليكس فيرغسون”.. غيبوبة أعظم أساطير كرة القدم الإنجليزية

عبد الكريم قادري
لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، ولم يتخرج من المدارس العريقة، بل انحدر من أسرة فقيرة عاشت في إحدى المدن الهامشية التي عمل فيها والده كحرفي في صناعة السفن، لهذا أدخله معهد تدريب ليتعلم حرفة يواجه بها الحياة، لكن كان للابن رأي مختلف، فسار على نهج آخر سعيا منه لتحقيق حلم مختلف وإن كان بعيد المنال في نظر الجميع. فهل حقق شيئا من أحلام الصبي، أو تعدّاها لمراتب المجد والخلود؟
“جايسون فيرغسون”.. مخرج يوثق أمجاد أبيه الأسطورية
أُنتجت في السنوات الأخيرة أفلام وثائقية كثيرة تتبعت سير المميزين والمختلفين ممن حوّلتهم التجارب الرياضية التي برعوا فيها إلى مصدر إلهام للملايين، أولئك الذين ساروا على طرق مليئة بالأشواك والحصى، لكنهم في الأخير تحوّلوا لنجوم في سماء الخلود.
وتعد لعبة كرة القدم من أكثر هذه الرياضات تتبعا لدى الجماهير، فقد أصبحت مع الوقت شيئا أشبه بالسحر في طرق تلقيها ولعبها والتعاطي معها، فلديها متابعون وعشاق في كل أنحاء المعمورة، لهذا بات كل من يساهم فيها وفي تطورها نجما في نظرهم، خاصة اللاعبين المميزين أو المدربين الذين انتشلوا فرقا من الحضيض ووضعوها في مصافّ الكبار، كحال المدرب “أليكس فيرغسون” (79 سنة) الذي تحوّل مع الوقت إلى أسطورة في نظر البريطانيين والأسكتلنديين وكل عشاق الساحرة المستديرة، لهذا وجب تخليده وتوثيق تجاربه من طرف صنّاع السينما لتتبع كل المحطات التي وقف عليها.
وفي هذا السياق أنتجت العشرات من الأفلام السينمائية، وأُعد ما لا يُحصى من التقارير التلفزيونية التي حاول أصحابها أن يلامسوا جانبا مضيئا من حياته، لكن الأعمال التي تناولت سيرته عن قُرب كإنسان وأب ومدرب وزوج قليلة جدا، إن لم نقل إنها تكاد تكون منعدمة.
فيلم “السير أليكس فيرغسون.. لا تستسلم أبدا” (Sir Alex Ferguson: Never Give In) الذي أنتج عام 2021؛ خرج عن هذه القاعدة، لأن مخرجه “جايسون فيرغسون” هو ابن “أليكس”، وبالتالي تحوّل الأمر إلى معادلة الابن الذي يوثق محطات أبيه سينمائيا، لهذا كان الفيلم في مجمله بمثابة خيط من الفيض الروحي الذي لا ينتهي، باح من خلاله الأب “أليكس” بكثير من الأسرار لابنه المخرج، وبالتالي سيعرف كثير من متتبعي هذا المدرب الأسطوري خبايا وأسرارا كثيرة ميّزت حياته.

“لا أعلم”.. سبت أسود يهز الصحافة البريطانية
بدأ المخرج “جايسون فيرغسون” فيلمه الوثائقي بامتحان سريع مع والده جعله كمفتتح لعمله، اختبر فيه ذاكرته ليعرف ما إن كانت لا تزال تعمل بطريقة جيدة بعد الصدمة الكبيرة التي تعرض لها، وقد تمحورت الأسئلة حول اسمه واسم أولاده وتاريخ ولادتهم وتاريخ زواجه ومسجل أول هدف في فريقه كمدرب، وقد كانت الإجابات كلها صحيحة، لكنه قال في سؤال واحد فقط “لا أعلم”، بعد أن سأله المخرج: ماذا يعني لك هذا التاريخ الموافق للخامس من مايو/أيار عام 2018؟
يعود بعدها في مشهد بانورامي صوّره من علو يتتبع فيه سيارة إسعاف تلتهم الطريق المشجر بأصواتها المرتفعة وسرعتها الكبيرة، وقد نقل فيه حوارا دار بينه وبين مستقبلة المكالمات في المستشفى، شرح من خلاله حالة والده الخطيرة بعد نزيف المخ التي تعرض له، وبعد أن شرح هذه الحالة ووضع المتلقي في الصورة الشاملة تركه ورحل به مرة أخرى إلى الماضي في رحلة سريعة إلى المكان الذي كبر ونشأ فيه والده “أليكس”، ويرجع لصورة بانورامية ليلية أكثر شمولية لملعب كرة القدم، مصحوبا بتعليق الإعلام عن الحالة الصحية الحرجة التي وقع فيها المدرب السابق “أليكس فيرغسون”، وأضافوا بأنه كان أسطورة كرة القدم.
تعمّد المخرج توزيع هذا الكم الكبير من الإثارة والمعلومات لضمان استمرار فعل المشاهدة لمدة ساعة ونصف (المدة الزمنية للفيلم)، ولن يكون هذا إلا من خلال ابتداع طرق سردية مختلفة وإصباغها بهالة من الأرقام والإنجازات التي يُشحن بها الجمهور، ويُحيي ذكرياتهم مع هذا المدرب، وأكثر من هذا فقد ظهر المخرج “جايسون” كضيف يسرد حالة أبيه الصحية بعد أن أفاق من الغيبوبة، حيث بدأ يسرد عليه قصصا عشوائية من الماضي، وكأنه يحاول من خلالها الإثبات بأن ذاكرته لا تزال بخير، وقد استغل المخرج (الابن) هذا الأمر ليعود من خلاله إلى الماضي.
غوفان.. المدينة التي تقبر أحلام الشباب
اكتسب المدرب “أليكس” فلسفته في التدريب من خلال الحياة القاسية التي عاشها في مدينة غوفان التي عاش فيها، حيث كان يعمل والده لحّاما في السفن، وقد رأى بأن هذا الأمر أكسبه هوية ومنطلق فهم عرف به الأشياء، لهذا عند تعامله مع لاعبيه فهو يذهب مباشرة إلى ماضيهم، يسألهم عن عمل آبائهم وأجدادهم، ليكوّن معهم علاقة يفهم من خلالها أعماقهم ويستخرج أفضل ما لديهم.
في إحدى المرات عندما كانت لديه مباراة في فرنسا، جلس بجانبه أحد المدربين ونصحه باللاعب الفرنسي “أريك كانتونا”، وكان في ذلك الوقت يثير الشغب والمشاكل في أي فريق يلعب معه، وبسرعة تعاقد معه. يقول “أليكس” إنه لم يحاسبه على ماضيه، بل تعامل معه بطريقة مختلفة، لهذا أصبح “كانتونا” نجم “مانشستر يونايتد” دون منازع، حتى أنه قال إنه شعر بأنه مع عائلته، وأحس بأن المدرب فهمه بطريقة جيدة.
كانت مدينة غوفان مقبرة الأحلام لكل الشباب والمراهقين في تلك الحقبة، فكان حلمهم الوحيد هو الخروج منها، مثل “أليكس فيرغسون” الذي أدخله والده إلى أحد المعاهد حتى يتعلم حرفة ما تنفعه في مساره المهني، لكن أحلام الطفل كانت أكبر من تلك الحرف ومن المدينة، لهذا اتبع قلبه وأخذ يمارس لعبة كرة القدم، وعلى إثر ذلك قاطعه والده لمدة سنتين، ولم يتحدث معه إلا بعد أن أثبت وجوده كلاعب محترم، ومن ثمة بدأت حياته المهنية في عالم كرة القدم الذي لا يعترف سوى بالموهبة والتميز، لكنه اصطدم في بداية مشواره بالطائفية الدينية التي كادت أن تعصف به.

زواج مدني من طائفة أخرى.. طرد من الفريق
عاش “أليكس” في مدينة تطحنها العنصرية والتفرقة الدينية لدرجة كبيرة جدا بين الطائفتين البروتستانت والكاثوليك، وقد حدثت عدة أعمال انتقامية بينهما، وقد صادف أن تزوج سنة 1966 بـ”كاثي” التي تختلف عنه في الطائفة، لهذا قررا الزواج مدنيا بعيدا عن تعقيدات الكنيسة، وقتها كان “أليكس” يلعب في أحد أندية كرة القدم، وقد خسر، لهذا كان كبش الفداء وطرد من الفريق، ليعلم فيما بعد بأن السبب الحقيقي هو اختلاف ديانة زوجته وليس لسوء لعبه.
من هنا عرف أشياء كثيرة عن البيئة التي يعيش فيها، فقد أُصيب بالإحباط الشديد، وكاد أن يوقف مساره الكروي، خاصة وأن هذا الاختلاف والتطاحن الكبير بات بين الفريقين العريقين “رينجرز” و”ستيتك”، وكل فريق ينتمي لطائفة معينة، مما ساهم في اتساع الهوة بين الجماهير وإدارة الفريقين.
رغم كل شيء استمر “أليكس” في عالم كرة القدم، وتخطّى المطبات حتى أصبح مدرب كرة قدم معروف عنه الذكاء الخارق في مجاله، ليعود بعد سنوات ويواجه فريق “رينجرز” صاحب البطولات السكوتلندية العديدة، ويهزمهم شر هزيمة، بعد أن واجهه كمدرب لنادي “أبردين” الذي لم يكن شيئا مذكورا وقتها، لدرجة أنه لم يجد حتى ملعبا يتدرب فيها، وكان يفعل هذا في الحدائق العامة ومواقف السيارات، لينتصر على الفريق الذي طرده بسبب الانتماء الديني لزوجته.
تأثيث المراحل الزمنية بشروطها.. سلاسة الخطة السردية
استطاع المخرج “جايسون فيرغسون” أن يقدم بدائل سردية متعددة مقسمة زمنيا إلى عدة مراحل مهمة، الحاضر والماضي القريب والماضي البعيد، حيث نقل في كل مرحلة جوانب مهمة براحة وسلاسة لا يمكن للمتلقي أن يحس بوقعها وتغيرها المفاجئ، خاصة وأنه أثّث كل مرحلة بشروطها السردية التاريخية المواتية والمناسبة، من إحاطة بالفضاء الشامل، والتشخيص الجيد، وربط كل هذا بالشخصية العمرية لـ”أليكس فيرغسون”.
كانت البداية من مرحلة المراهقة، حين كان “أليكس” يعمل ويتدرب على الحرف اليدوية، ومرورا بانطلاق مساره الكروي كلاعب، ووصولا لمرحلة مُدرب كرة قدم لنادي “مانشستر يونايتد” طوال 27 عاما أحرز فيها 38 لقبا، منهم ثلاثية تاريخية هي الأولى للأندية الإنجليزية، وحقق بطولة الدوري 13 مرة، ونال كأس إنجلترا خمس مرات، وكأس الدرع الخيرية عشر مرات، وكأس الرابطة الإنجليزية أربع مرات، بينما حقق بطولة دوري أبطال أوروبا مرتين، ثم السوبر الأوروبي مرة، وكأس العالم للأندية مرة.
ينتهي التقسيم الزمني بالمرحلة الأخيرة عندما أصيب بنزيف في المخ كاد أن يودي بحياته، وهي أهم مفصل في الفيلم، لأنه أظهر الجانب المُغيب في حياة هذا الرجل، بعد أن اقترب من الموت أو عاد منه، وكأن الصدمة المرضية أعطته تجارب جديدة جعلته يعود إلى الماضي كسارد لتجربته التي تمتد لأكثر من 78 سنة كاملة، عاصر فيها العديد من المراحل الاجتماعية والسياسية والرياضية التي شهدت تطورا رهيبا ومختلفا.

إبراز الجانب الإنساني.. حفريات عميقة في الروح
أكثر ما يشد في فيلم “السير أليكس فيرغسون: لا تستسلم أبدا” هو الجانب الإنساني، فقد ابتعد المخرج عن الكليشيهات المعتادة التي يقع التركيز عليها أثناء تقديم شخصيات رياضية، وعادة ما يجري إغراقها بالوثائق السمعية البصرية الموجودة بكثرة، أما بخصوص هذا الفيلم، فقد جرى استعمالها بتقشف واضح، وذهب المخرج في اتجاه الأرشيف غير المطروق، والوثائق التي تبعث الدفء في التلقي، وتضع الجمهور في الصورة الشاملة للشخصية.
وأكثر من هذا، فقد قدم الجانب المغيب الذي لم يتناول من قبل، أما الموجودات الأخرى فيجري ذكرها على سبيل الاستئناس وإثبات وجهة نظر معينة، لهذا فإنه قدّم حفريات عميقة في الروح.