“المسبح” و”الكاتب”.. تسلق أسوار الخصوصية في سبيل الكتابة الروائية

إسراء إمام
الواقع زاد الكاتب، وهو القماشة التي يُفَصّل منها قصته، فيستقي منها خبراته وملاحظاته وتحليلاته وطبائع شخصياته ومسارات أحداثه. هذه حقيقة شائعة ومشروعة ليست مشروطة، فثمة من يشط خيالهم فيخلقوا أحدوثة سيريالية تتجاوز حدود الواقع، فتهزمه وتتفوق عليه في آن، وفي آن آخر تخفق أمامه، لكنها تظل -وإن لم تكن مطابقة له- مخلوقة من ضلعه، حتى وهي غريبة عنه لا تشبهه ستبقى سيرياليتها تلك مستوحاة منه.
لكن لأي مدى، لأي مدى يحق للكاتب أن يستمد من الواقع المحيط به، وما هي الخطوط الفاصلة بين استلهامه من هذا الواقع وبين نقله له؟
لدينا فيلمان تطرقا إلى هذه القضية، لكن كلا منهما تناولها بطريقته، بدأ من عندها ثم ذهب بها لنهاية تخصه، والجميل أن الفيلمين بنهايتهما المغايرة يُؤكدان على المعنى ذاته، معنى أن هناك فرقا جليا بين استفادة الكتابة من الواقع وبين سرقتها له.
“المسبح”.. عزلة باريسية للبحث عن الإلهام
أنتج الفيلم الفرنسي “المَسبح” (Swimming Pool) عام 2003، وهو من بطولة “شارلوت رامبلين”، وإخراج “فرانسوا أوزون”، ويحكي عن كاتبة أدب بوليسي مشهورة وناجحة، لكنها تواجه فترة كساد في إنتاجها، فينصحها ناشرها بالسفر لمنزله الباريسي الخلّاب الذي يطل على حمام سباحة جميل وريف واسع، لكي يعاودها الإلهام من جديد.
تذهب الكاتبة إلى هناك بالفعل، وما إن تبدأ في كتابة قصة بوليسية معتادة حتى تظهر ابنة الناشر، وتعكر صفو انعزالها المحرض على الكتابة في البداية، لكنها تجعل من الفتاة مشروع كتاب آخر، فتبدأ في مراقبتها، وتتبع تفاصيلها لكي تتم هذا المشروع بنجاح.
“الكاتب”.. خيانة زوجية تمهد الطريق إلى الأحلام
أما الفيلم الأحدث فهو الإسباني “الكاتب” (El Autor) الذي أنتج عام 2017 من بطولة “خافيير غوتييريث”، وإخراج “مانويل مارتين كوينكا”، ويحكي لنا قصة البطل الذي يخوض تغييرا جذريا في حياته، حيث يقرر أن يتفرغ لتحقيق حلمه في كتابة رواية، بعدما اكتشف خيانة زوجته الكاتبة المشهورة.
يأخذ البطل إجازة طويلة من عمله، ويستأجر شقة مستقلة في عقار سكني حيوي لكي يكتب روايته المزعومة، لكن مع تعثره في إيجاد فكرة ملائمة، يبدأ في مراقبة سكان العقار الذي يسكنه، فيجعلهم أبطال روايته، ويبلغ درجة التلصص عليهم لكي يستطيع كتابتهم بنجاح.

أسرى النجاح والنجاح الموازي.. تشابه ملامح الأبطال
لكل من بطلي الفيلمين أزمته النفسية المستقلة، لكنهما يتشابهان في نقاط منها، فكلاهما محبوس، أما “سارة مولتون” بطلة الفيلم الفرنسي فهي محبوسة داخل نجاحها الذي حققته بكتابتها البوليسية، لكن نجاحها ذلك لم يترك لها فرصة لكي تتجرأ وتحاول أن تجد متنفسا لبقية ما تملكه من موهبة في نوعية كتابة أخرى، كتابة إنسانية يمكنها أن تعبر عنها بشكل أفضل، لذلك نجد “سارة” في مشاهد الفيلم الأولى وهي تُنكر هويتها أمام واحدة من المعجبات، وكأنها تلفظ هذا النجاح وتتنصل منه.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل نلمس تلك القسوة التي تتحدث بها “سارة” مع الجميع، ويتجلى ذلك في نبرة العنف الدائمة في صوتها، ومحاولتها التهرب من أي فعل اجتماعي، إن موهبتها الحقيقية حبيسة بداخلها، تحملها معها في كل مكان، فتُثقِل صدرها وتجعلها تظهر على هذا النحو من ضيق الصبر والاستعلاء على مخالطة الواقع المحيط بها والآخرين الموجودين فيه.
أما “ألفارو” بطل الفيلم الإسباني فهو حبيس هو الآخر أيضا، حبيس تلك الحياة التي كان يلتحق فيها بوظيفة روتينية، وكان مُلزما فيها بمشاهدة النجاح غير المسبوق لرواية زوجته، رغم أنها لم تحاول كتابتها إلا من فترة قريبة، بخلافه هو الذي يؤجل دوما كتابة رواية تحوّله من مجرد موظف لكاتب حقيقي، لأنه خائف مرعوب.

ألاعيب القدر.. رحلة إلى مفاجآت المجهول
لم يسع “سارة” و”ألفارو” كلاهما للتحرر من سجنهما، بينما دفعتهما الظروف دفعا للخروج، لكي يبدأ كل منهما في اكتشاف نفسه من جديد، فـ”سارة” لم تسع للخلوة بنفسها في المنزل الباريسي الخلّاب الذي حمل لها مفاجآت عدة غيّرت مصيرها ككاتبة، لكن ناشرها هو الذي نصحها بذلك، ثم أهداها القدر مجيء “جولي” ابنة الناشر لتقضي إجازتها في نفس التوقيت، وقد عافرت “سارة” فعلة القدر هذه مرارا، لم تقبلها بسهولة، ولم تفهم مغزاها بسرعة.
“ألفارو” أيضا رغم معاناته في وظيفته المملة، وتدهور حالته النفسية إثر نجاح زوجته فيما هو غير قادر على تحقيقه؛ لم يفكر أبدا في مغادرة تلك الحياة والثورة عليها من تلقاء نفسه، فلم يهجر زوجته التي لم يعد يكن لها أي مشاعر منذ وقت طويل إلا حينما اكتشف أنها تخونه، ولم يتحرر من عبء وظيفته إلا حينما أعطاه مديره إجازة مفتوحة بحجة أنه لا يعمل بكفاءة.
حينها فقط قرر “ألفارو” أن يستأجر شقته المستقلة، ويفعل ما كان يخشاه منذ زمن، وهو تحويل روايته لواقع حقيقي. فهل يا ترى لو كان علم بأن مديره نصحه بالإجازة لكي يفصله نهائيا من عمله كان سيجرؤ على استكمال ما نواه، أم سيتراجع ويستمر في الحرص على الاحتفاظ بهذا العمل، حتى وإن كان يغتال حلمه الوحيد؟

صناعة الأحداث.. تلصص الكاتب الفضولي على جيرانه
لم يستلهم “ألفارو” بطل فيلم “الكاتب” روايته من جيرانه، بل سرقهم هم بذات أنفسهم ليضعهم في روايته، متلصصا على تفاصيل حياتهم الشخصية، فوضع هاتفه بجانب نافذة حمّامه التي تطل على شقة زوجين مهاجرين من المكسيك، ليصبح مُطلعا على تفاصيل حوارهما اليومي مع صغيرهما، وينقله نقلا في مشاهد روايته.
هذا إضافة لاستمالته مشرفة العقار وجعلها تقع في غرامه، لكي تعطيه مفتاح القرب لكل من هؤلاء السكان، فتخبره أن ثمة عجوزا وحيدا في الطابق الأسفل يهوى اللعب بالشطرنج، وتساعده للتقرب من ذلك الرجل حتى يدخل منزله، وأن يتعرف على الزوجين المكسيكيين باعتباره محاميا يمكنه مساعدتهما في مسألة تخص تسريح الزوج من العمل بطريقة غير قانونية.
لم يكتفِ “ألفارو” بسرقة قصص هؤلاء الناس بل تدخل فيها، لكي يخلق بداخلها صراعات أقوى تخدم الإثارة في روايته، فلم يهمه أبدا أن يعبث بحياتهم في مقابل كتابته لرواية عظيمة في وجهة نظره، رواية تشبه روايات الأدب الحقيقي الملحمي، وليست مجرد رواية رخيصة مكتوبة لكي تُرضي الجموع مثلما كان يصف دوما رواية زوجته، سارقا ذلك التوصيف أيضا من مدرس الورشة التي يواظب على حضورها.

ابنة الناشر.. نسخة منقحة من فريسة الكتابة
فعلت “سارة” بطلة فيلم “المَسبَح” مع “جوليا” ابنة الناشر شيئا شبيها بما فعل “ألفارو” بجيرانه، فلم تكتفِ بأن تستوحي من حضورها وتفاصيلها لكي تكتب رواية تحمل اسمها وتدور عنها، لكنها باتت تُثقِل عليها بأسئلتها، وتستغل ارتياح “جولي” وميلها في التقرب منها، وتستخدمه لصالح أحداث روايتها، بل لم تمانع هي الأخرى من التلصص عليها، والنبش في حاجيتها من حين لآخر، والاطلاع الخفي على مذكراتها اليومية.
في نهاية فيلم “المَسبَح” نكتشف أن “جولي” فتاة مختلفة تماما عن التي كنا نشاهدها مع “سارة” منذ بداية الفيلم، وهذا يضعنا في مواجهة حقيقة موهبة “سارة” ككاتبة، لأنه إذا كانت “جولي” الأصلية فتاة قبيحة المظهر تضع تقويما لأسنانها.
إذن فإن “جولي” الخلابة صارخة الجمال التي رأيناها طوال الفيلم لم تكن إلا فتاة من صُنع خيال “سارة”، صحيح أنها استلهمتها من وجود “جولي” الواقعية، لكنها في النهاية لم تسرقها كاملة، بل نسخت منها نسخة قامت بتنقيحها، بالإضافة عليها والحذف منها لتصبح ملكها، “جولي” التي تخدم دراما ما أرادت أن تكتبه.

نهاية الأبطال.. خيط رقيق بين الموهوب والموهوم
“سارة” بطلة فيلم “المسبح” هي كاتبة موهوبة بحق، لكنها كانت تعاني من أسر كتابتها البوليسية لسنوات طوال، مما جعلها تفقد الطريق لموهبتها ولنفسها أيضا، أما “ألفارو” فظل يحرض جيرانه على صنع أحداث روايته، يضع من يحتاج منهم للمال في عقر دار الثري، ولا يهمه أن يسرق الأول الثاني أو حتى يقتله، المهم أن يكتب هو أحداث شيقة غير متوقعة.
“ألفارو” هو نموذج حي للموهوم غير الموهوب، فرغم يقينه الداخلي بأنه غير مؤهل لما يحلم به، فإنه على استعداد لأن يفني نفسه في سبيله، بل ويفني الآخرين أيضا، لأنه أضعف من أن يتحمل نظرة شماتة ممن أخبروه قبلا أنه لا يملك الموهبة، ومنهم زوجته.
رحلة “سارة” مع “جولي” قادتها للمَخرَج من أزمتها، لأنها قررت أن تجعل من تلك الظروف التي طرأت على حياتها قارب نجاة، أما “ألفارو” فلم تودِ به ثورته على حياته القديمة إلا إلى سجن أفدح وأكثر وحشية من سجنه القديم، لأنه في الحقيقة لم يثُر أصلا من أجل موهبته، لأنه يعلم تماما أنه لا يملكها، لكنه ثار لكبريائه.

انتهاك الخصوصية.. خط فاصل بين الاقتباس والسرقة
فيلما “المسبح” و”الكاتب” هما فيلمان مناسبان لمناقشة الخط الفاصل الذي يميز بين حق الكاتب في الاستعانة بالواقع، وبين استيلائه على هذا الواقع، هذا الاستيلاء الذي يسلب الناس حقوقهم في معرفة كونهم مادة للكتابة، الاستيلاء الذي ينتهك خصوصيتهم، ويحوّل من يكتب عنهم لمجرد مهووس مُتنصّل من صفات الكاتب الحقيقية.
تظهر النهاية اختلاف الطريقين الذين سلكهما كاتبا الفيلمين، حيث نعيش عواقب فعلة “ألفارو” الشنعاء التي تؤكد استمراره في أن يكون مجرد لص منزوع الضمير، بينما نكتشف أن “سارة” لم تكن مثله، وأنها أوهمتنا طيلة الفيلم بكونها نموذجا مماثلا لـ”ألفارو”، لكنها في الحقيقة جسدت بتصرفاتها النموذج المضاد السَوي، وهو يجعل من مناقشة الفيلمين معا بخصوص تلك القضية فعالا، ومؤثرا في معناه.