“تايم”.. امرأة سوداء تُحارب القضاء الأمريكي لأجل زوجها

عبد الكريم قادري

عندما قبض عليهما بعد سطوهما المسلح على بنك، حُكم على الزوجة بثلاث سنوات ونصف، أما الزوج فعوقب بستين سنة كاملة، وبعد انقضاء عقوبة الزوجة القصيرة عادت لحياتها الطبيعية التي حافظت فيها على الرعاية الصالحة لأبنائها الستة، لكنها لم تتوقف يوما عن محاربة ومواجهة القضاء الأمريكي الذي حكم حكما قاسيا على زوجها “روب”. فهل تنجح في هذا لتخفيف الحكم؟

 

“سبيل فوكس”.. رحلة الدفاع عن زوجها المظلوم

شغلت قضية الحقوقية الأمريكية ذات الأصول الأفريقية “سبيل فوكس ريدتشارسون” الرأي العام لسنوات من الزمن، بسبب اهتمامها الكبير بقضية زوجها الذي حُكم عليه بستين سنة كاملة بدون إطلاق سراح مشروط أو تخفيف، وذلك على خلفية الجريمة التي ارتكبها الزوجان الشابان سنة 1997 في لحظة يأس وطيش شباب وتهوّر ندما عليها كثيرا فيما بعد.

رأت الزوجة “فوكس” -مع كثير من المحامين وجمعيات الدفاع عن السود الذين اطلعوا على حيثيات القضية وتفاصيلها- بأن الحكم الذي أطلق على “روب” غير عادل وعنصري، ولا يستند لأي مبرر قانوني مقنع، لأن لحظة ارتكابه لعملية السطو الفاشلة على البنك لم يكن يملك أي سوابق عدلية سابقة، كما أن سجله نظيف تماما، لهذا وجب على من نطق بالحكم على الأقل ترك الباب مفتوحا لإطلاق سراحه المشروط مع مرور السنوات، لكن هذا ما لم يحدث.

لهذا دخلت “فوكس” في عملية نضال متواصلة ضد جهاز العدالة الأمريكي الغامض والمختل، إضافة إلى صراعها مع المحامين الذي أخذوا منها أموالا طائلة ولم ينجحوا في هذا المسعى، وفي كل مرة يقولون إن قضيتها منتهية ولا داعي لتتشبث بأمل منعدم، أما هي فلم تستمع إلا لقلبها الذي لا ينبض إلا لحرية زوجها، أرادت أن تتحدى كل من حاول زرع اليأس في قلبها المُحب، لهذا نجحت في حياتها كسيدة أعمال وربة بيت وحقوقية.

أبناء “فوكس” الستة الذين أنشأتهم على حب النجاح والتقدم في الحياة لكنهم كبروا بعيدا عن والدهم المسجون

 

“النجاح خير وسيلة للانتقام”

أنشأت “فوكس” أبناءها الستة على حب النجاح والتقدم في الحياة، وهناك من دخل الجامعة وتخصص في الحقوق من أجل الحصول على الشهادة والدخول في عالم السياسية لتغير نظام العدالة الأمريكي، أما هي فقد كانت تتنقل من حلقة نقاش إلى أخرى، ومن مجموعة لمجموعة كمتحدثة محفّزة تعرّف المجتمع الأمريكي بقضية زوجها.

وفي الوقت نفسه تحثّهم على عدم الوقوع في الأخطاء الكبيرة التي يكون ثمنها غاليا، وتنادي بإلغاء حكم الإعدام وتخفيف الأحكام الطويلة، ورغم أن الكل وقف في وجهها فإن شعارها كان دائما “النجاح هو خير وسيلة للانتقام”، لهذا واصلت تقدمها، فهي لا ترى أمامها سوى الضوء في ناهية النفق، على أمل أن تصل إليه وتلامسه عن قرب.

الأم “فوكس” توثّق بـ100 ساعة تلفزيونية مراحل نمو أطفالها وتربيتهم ونجاحهم

 

تحول من الفيلم القصير إلى الطويل.. كنز لا يعوض بثمن

تلقّفت المخرجة “جاريت برادلي” قصة “سبيل فوكس ريدتشارسون”، وأرادت تحويلها مباشرة لفيلم وثائقي قصير تحت عنوان “تايم”، لكنها سرعان ما غيّرت الفكرة بعد أن قدّمت لها البطلة كنزا لا يعوض بثمن، وهي 100 ساعة كاملة من تسجيلات فيديو منزلية قامت “فوكس” بتسجيلها على مدار عشريتين من الزمن، نقلت فيها أوجاعها الشخصية التي تعكس القلق والخوف والانتظار وشعور الوحدة، كما سجّلت فيها بعضا من حياتها مع زوجها “روب” قبل دخوله السجن بأسابيع.

تتنوّع مواقع هذه المشاهد المهمة فتارة تكون بداخل السيارة أو في البيت، كما توثق مراحل نمو أطفالها وولادتهم، تربيتهم ونجاحهم، وأهم محطات حياتهم، أما الموضوع الرئيسي الذي جعل “فوكس” تحمل الكاميرا لتسجيل كل صغيرة وكبيرة، فهي من أجل زوجها حتى لا يفوته ما مر عليه وهو داخل السجن، وكأنّ أمل الإفراج عن “روب” لم يغب عنها لحظة حتى بعد الحكم عليه نهائيا بستين سنة من السجن.

مخرجة فيلم “تايم” “جاريت برادلي” في مهرجان صندانس أثناء تتويجها بجائزة أفصل مخرجة

 

“جاريت برادلي”.. أول امرأة سوداء تنال جائزة أفضل مخرجة

وجدت المخرجة “جاريت برادلي” مادة توثيق مرئية في غاية الأهمية، لهذا حولت بوصلتها السينمائية من فكرة الفيلم القصير إلى إخراج فيلم وثائقي طويل (81 دقيقة)، وقد فتح هذا العمل كثيرا من النقاشات المهمة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد عرضه، خاصة وأن موضوعه يطرح أسئلة الراهن الأمريكي حول العنصرية وتحيز القضاء واختلال ميزان العدالة.

كما شاركت به المخرجة في عدد من المهرجانات السينمائية العالمية، ورُشح للأوسكار في فئة أفضل فيلم وثائقي سنة 2021، وأكثر من هذا فقد حصلت المخرجة “جاريت برادلي” على جائزة أفضل مخرجة في مهرجان صندانس السينمائي، لتكون أول امرأة ذات بشرة سوداء تحصل على جائزة من هذا المهرجان المهم منذ انطلاقه.

صورة تجمع الأمريكية من أصل أفريقي “فوكس” مع أبنائها الذين كبروا بعيدا عن والدهم المسجون

 

مقارنات الأشياء المادية والمعنوية.. كسر الرتابة

استمدت المخرجة في فيلمها “تايم” طريقة معالجتها من خلال فتح المقارنات بين الأشياء المادية والمعنوية، الثابتة والمتحولة، القديم والحديث، الفرح والحزن، وهي الأضداد التي صنعت من خلالها التشويق والإثارة لضمان عدم السقوط في فخ الرتابة والملل، مثل سجن زوجها “روبرت” كشيء مادي ملموس، يقابله سجن “فوكس” الروحي، لأنها وإن كانت حرة نسبيا فإن قلبها وعقلها وكل جوارحها مع زوجها الذي يعيش خلف الجدران، أما الحقيقة الثابتة التي تملكها فهي أن زوجها سيخرج من حبسه، على عكس آراء المقربين منها التي كانت متحولة ومتغيرة.

تلاعبت المخرجة عن طريق الصور أو المواقف بين قديمها وحديثها، وفي الوقت نفسه استعملت عواطف “فوكس” للقبض على المتلقي وأسره في دائرة الترقب، وحافظت بشكل أساسي على جمالية الفيلم وحضور القضية الرئيسية في كل جزئية، ولم تحد عنها تحت أي مسمى، لأنها درستها بشكل جيد من كل الجوانب، لهذا عرفت كيف تقبض على اللحظات المؤثّرة التي تكون فيها البطلة “فوكس” في حالة نفسية سيئة، أو في لحظة انتصار جزئي أو كلي، مثل طريقة إلقائها للخطب الحماسية في حلقات النقاش.

صورة أرشيفية تجمع “فوكس” وأبنائها بزوجها “روب” قبل دخوله السجن

 

زرع التفاصيل.. خيط التشويق الممتد على طول الفيلم

السعي المستمر لسماع خبر من القاضي اتخذته المخرجة كخيط أساسي، عَقدته في بداية الفيلم، ومدته بشكل مستقيم على باقي العناصر، حتى وصلت به إلى نهاية الفيلم، حيث جعلت المشاهد ينتظر القرار المهم والمصيري الذي سيصدره القاضي، وهل سيكون مثل قرارات الرفض السابقة، حتى إنه في أحد المرات قال لهما أحد القضاة بأنه لو أطلقوا صراح زوجها سيحتج كثير من أهالي السجناء الآخرين، لهذا رفض طلبها.

لكن المخرجة تعمدت عدم الإجابة على هذا حتى تضمن حضور عناصر الإثارة، وقد نجحت في زرع هذه التفاصيل التشويقية لتأخذ بيد المتلقي وتعطيه جزءا مما تعانيه السيدة “سبيل فوكس ريدتشارسون” في سبيل سعيها طيلة 21 سنة كاملة من أجل إطلاق سراح “روب” الذي حكم عليه بالسجن 60 سنة، لأنه ارتكب أول جريمة في حياته دون أن يستفيد من إطلاق سراح مشروط.

“فوكس” بعد 20 عاما من ملاحقتها للقضاء تبدو مُرهقة ومُتعبة ومُستنزفة

 

جمالية الأبيض والأسود.. مزاوجة بين الماضي والحاضر

استثمرت المخرجة جاريت في الأرشيف المصور الذي قدّمته لها “فوكس” في فيلمها بشكل أساسي، وفتحت به مقارنات جمالية وموضوعية بين القديم والحاضر، حيث التقطت كاميرا المخرجة وقائع الحاضر لـ”فوكس” من خلال تتبع كل خطواتها الرئيسية، سواء كأم أو كزوجة محبة تسعى من أجل تحقيق حلمها في المحاكم ومكان عملها وفضاءات نشاطها، وفي بيت أقاربها والحدائق والشارع، وغيرها من المساحات الأخرى.

وقد زاوجت بين هذه المادة الحديثة والقديمة، وأخذت تذهب وتعود من خلال تلك الصور بين “فوكس” الشابة و”فوكس” التي تَقدم بها العمر 20 سنة، وبين مطالب الماضي ومطالب الحاضر التي لم تتغير، حتى أن “جاريت” عادت إلى نفس الأمكنة والزوايا التي التقطت منها تلك الصور، وكأنها تحاكي من خلالها الوقت الذي يتلون ويتشكل، لكنه لا يتبدد مطلقا.

استخدام اللون الأبيض والأسود ليعكس ما بداخل البطلة “فوكس”

 

تركيز عدسة الفيلم.. غطس في المعاناة الفردية

أكثر ما جعل الفيلم ينطلق من أسس الذاتية ومعاناة الفرد هو عدم تشتيت المشاهد بالضيوف الذين يتكلمون عادة عن فشل النظام القضائي من وجهة النظر القانونية، أو أصحاب السوابق العدلية الذين يسردون تجاربهم.

وقد شاهدنا هذا في عدد من الأفلام الأخرى التي تنطلق من هذا الموضوع، لكن منطلق المخرجة كان مختلفا جدا، حيث استثمرت فقط في جرح “فوكس” النازف، وهي المرأة الملمّة بكل تفاصيل سقطات هذا النظام، فنقلت من خلالها هناته ومطالب المتضررين، وأبرزها وضع لائحة وجب على السياسيين الانطلاق منها لبث روح الإصلاح، لهذا كانت بؤرة الكاميرا مسلطة عليها بشكل واسع.

أما المجازفة الجمالية الكبرى التي ارتكبتها المخرجة في الفيلم فهي الاعتماد على اللون الأبيض والأسود، من أجل خلق مستوى واحد بين مشاهدها الأرشيفية القديمة وتلك الحديثة التي صورتها كحاضر في الفيلم، وقد نجحت في هذا الخيار إلى أبعد حد، لأنه يعكس ما بداخل البطل من أحداث جميلة عاشتها في الماضي.

“فوكس” تُعتبر مثال للمرأة التي يُقتدى بها في التحدي والإصرار والسعي لنيل الهدف

 

انتصار بعد إحدى وعشرين عاما.. مثال المرأة الصلبة

قدّم فيلم “تايم” درسا في التحدي والإصرار والسعي لنيل الهدف، وأظهر المناضلة والحقوقية “سبيل فوكس ريدتشارسون” كبطلة ومثال حي يُقتدى به، لتوفرها على كل الشروط والملامح الضرورية للمرأة الصلبة التي لا تسمع إلا لقلبها وعقلها، ولا يهمها رأي العالم الذي يحيط بها، لهذا حققت الحلم الذي سعت له لمدة 21 سنة كاملة، وأطلق سراح زوجها “روب”، وعاد إلى منزله وعائلته الكبيرة.

وقتها فقط قامت “فوكس” بحرق الصورة الكبيرة التي كانت معلقة على الجدران، كانت تؤنس بها أبناءها الستة على غياب أبيهم عنهم، تحققت أمنيتها وهدفها الذي سعت إليه طويلا، وأكثر من هذا انطلقت في طريق النضال لتطوير حياة السود المظلومين الذين اكتظت بهم السجون الأمريكية، فقد دخل كثير منهم السجن في أحكام مغلظة كحكم زوجها، ولم يجدوا من يدافع عنهم ويطالب بحقهم في إطلاق السراح المشروط، لهذا وقع تناسيهم في السجون، وعليهم قرّرت أن تكون صوتهم المكتوم.


إعلان