“سماء أليس”.. ابنة الريف السويسري التي سحرها لبنان ومزقتها الحرب

ندى الأزهري

كم هو فيلم ساحر، وكم هو مؤثّر، فيلم آخر عن لبنان وحربه الأهلية، لا تظهر فيه الحرب، بل تغمره نظرات حنين وتسوده مشاعر حبّ وافتقاد، إنها أحاسيس كل مَنْ لم يعش هناك، مَنْ غار عميقا فيما اختزنته ذاكرته على مدى سنوات عديدة من أحاديث وصور وذكريات روتها أمٌّ أو أب، أو جدّة أو جد، بينما هو قابع في مكان آخر أقل سحرا بالتاكيد وأكثر واقعية، حيث يتخيل في لبنان مكانا لا شك أنه كان جنة على الأرض، فضاء يعيد تشكيله على هواه ووفق تخيلاته.

الفرنسية ذات الأصول اللبنانية “كلوي مازلو” قررت العودة إلى لبنان سينمائيا، بعد أن أُشبعت بحكايات جدّة سويسرية، وقصص عائلية لهذا “اللبنان” الذي لا يُنسى، والذي تركوه ذات يوم وهم مرغمون ليس لهم من الأمر شيء.

المخرجة الشابة (37 عاما) التي زارت لبنان للمرة الأولى وهي لم تجاوز ربيعها الثامن؛ وجدت أسلوبها الخاص في فيلمها الروائي الطويل الأول “تحت سماء أليس” (Sous le ciel d’Alice) الذي أنتج عام 2020، ففيه تروي قصة عائلة خلال فترة حاسمة من تاريخ بلد، حيث تستعيد الحرب الأهلية اللبنانية دون أن ترويها، تتعامل معها كطرف غائب حاضر فاصل بين مرحلتين، عنده انتهت أشياء كثيرة، لعل أهمها بالنسبة لها حياة عائلية وحبّ مثالي.

وقد استطاعت “مازلو” رصد ما تتركه الحرب من تأثير على الناس، وبالتحديد على عائلة هي عائلتها، وذلك برهافة في معالجة مبتكرة شاعرية الأسلوب مليئة بالأحاسيس المرهفة.

 

من سويسرا إلى لبنان.. قصة حب في الشرق الساحر

الفيلم الذي كان من المقرر عرضه في أسبوع النقاد في الدورة الملغاة لمهرجان “كان” 2020 تحت عنوان “تحت سماء أليس”؛ يستوحي قصة جدة صانعة الفيلم.

الشابة “أليس” (الممثلة الإيطالية ألبا رورفاكر) غادرت في الخمسينيات من القرن الماضي سويسرا (موطنها الأصلي) متجهة إلى لبنان لتعمل مربيّة أطفال، لكنها لم تكن تتوقع ما سيحدث لها، فلم تكن تنتظر ارتباطا ببلد جديد يشدّها للبقاء فيه على الرغم من كل شيء، لقد وقعت في حبّ جوزيف (الممثل والمخرج اللبناني الكندي وجدي معوض) عالم الفيزياء الفلكية الذي يحلم بإرسال أول لبناني إلى الفضاء.

بعد سنوات عدة من حياة هنيئة أنجبا فيه طفلة، تزحف الحرب الأهلية في عام 1975 إلى جنّتهم، في بادئ الأمر كانت الحرب خارجها، كأن هذا البيت كان محصّنا ضدها، ثمة أصوات انفجارات وقنابل لكنها دائما في الخارج بعيدة عنهم، ثم غزت الحرب كل شيء، وغيّرت كل شيء في عبثها وعنفها، وحملت معها الموت، لقد تغيّرت الحياة حقا.

أليس وقعت في في حبّ جوزيف، وهو عالم الفيزياء الفلكية الذي يحلم بإرسال أول لبناني إلى الفضاء

 

عنف الحرب.. صخب يفسد الرومانسية الحالمة

بدأ الفيلم بأجواء رومانسية حالمة، أجواء كأنها حكاية “أليس في بلاد العجائب”؛ ولم يتخل عن هذا الأسلوب تماما وهو يصوّر مواجهة الزوجين بعنف الحرب، ومعها صورة عائلة عالقة في حيّز ضيق تقاوم بكل قواها الداخلية التي توشك على أن تنهار قريبا.

يُظهر الفيلم من خلال محنة “أليس” وعائلتها انهيار عالم، وما يشعرون به من ألم وعجز، وهم يرونه يتسلل من بين أيديهم ويختفي، كما يلمس عدم قدرتهم على الاعتراف بأنه في الوقت الحالي لن يكون أي شيء على حاله مرة أخرى.

لقد بدأت هجرة اللبنانيين عن البلد، حتى الابنة غادرت، والزوج يدفع بـ”أليس” للعودة إلى بلدها الأصلي حماية لها. هنا كانت الصدمة، فهي قد ارتبطت بالبلد الجديد على نحو عميق، حياتها فيه مثالية، عائلة زوجها استقبلتها بأذرع مفتوحة، ووقت فراغها ملأته بممارسة الرسم، والحياة الهانئة فيه لا تغريها بالعودة إلى حياتها السابقة في الريف السويسري. كأنها ولدت في هذا المكان، انقطعت صلتها بماضيها، لتتعلق بحاضر تهب له نفسها، ولتأمل بمستقبل لا يبتعد عن هذا المكان، فهل يجب عليها أن تبقى أم تغادر؟

الأسرة تفككت، والحرب باتت تتغلغل شيئا فشيئا في الحياة اليومية، على الرغم من إنكار “أليس” لفشلها في المواجهة وهزيمتها.

أليس وجوزيف في حفل عائلي، حيث تطغى ألوان الباستيل الهادئة على جو الفيلم

 

صبغة شاعرية على جدار خيالي.. تقنيات السينما

لا يوجد كلام كثير في فيلم قائم على المزج بين تقنيات متنوعة في السرد، مما أضفى عليه ابتكارا وخفة ومتعة خاصة، فهو يجمع بين لقطات حقيقية وتمثيل صامت، وبين الرسوم المتحركة والمسرح والرسومات، ولم يكن التنقل بين هذه التقنيات يقع بطريقة منهجية، بل فقط حين يستلزم الموقف تأثيرا خاصا تحققه إحداها، وقد استخدمت تلك التأثيرات بدقة وتوازن، حيث جاءت كل واحدة في مكانها وزمانها، لتضع صانعته مُشاهدها في عالم من الاستعارات والتشبيهات.

فهي حين تلجأ إلى الرسوم، فهذا لتصبغ عالم “أليس” وجوزيف بالخيال، ولتبدي علاقة حميمية بينهما بعيدة عن العلاقات العادية، فينبض قلب أحمر كبير على الشاشة تعبيرا عن الحب الذي بدأ يغزو قلبيهما في بداية الفيلم. وحين تطغى ألوان الباستيل الهادئة على أجواء الفيلم، فهذا للتعبير عن عالم حالم دافئ تعيش فيه الشخصيات.

وحين كانت الشخصيات الحقيقية تبدو أحيانا في أسلوب تمثيلها وردود أفعالها وحركاتها كشخصيات رسوم متحركة، فهذا إما أن يكون لضرورة إعطاء صبغة شاعرية سريالية كما حدث خلال تعارفهما، أو للتخفيف من أمر مأساوي في بعض المواقف، وذلك كما حدث حين الخلاف الأول بين الزوجين الذي يُعبر عنه بتسريع الصورة. وهنا كانت “أليس” تُحرّك الأثاث وتغير مكانه، وتضع شجرة في نصف البيت لتفصل مساحتها عن مساحة زوجها، وكأنه خط التماس في بيروت زمن الحرب.

الممثلة الإيطالية “ألبا رورفاكر” التي مثلت شخصية “أليس” في فيلم “تحت سماء أليس”

 

أساليب المسرح.. مهرب سريالي من الواقع العبثي

لجأت المخرجة إلى الأسلوب المسرحي لتمثل عبثية الحرب بشخصيات غريبة سريالية متنكرة تحت الأقنعة، وتمارس الحرب كما يمارسها الصغار في ألعابهم، في ابتعاد مقصود عن الدخول في متاهات الخلافات وتعقيدات الوضع.

بهذا رسمت صانعة الفيلم عالما متأرجحا بين وقائع وخيالات، ووجدت توازنا لطيفا ونغمة مناسبة للتعامل مع موضوع مُعقد كان من الصعب تجسيده وفهمه.

القصة تُروى من وجهة نظر “أليس”، وبدت الممثلة الإيطالية “ألبا رورفاكر” التي جسدتها كأنها قادمة من عالم قصص الأساطير، وذلك بابتسامتها الآسرة ونظراتها البريئة وأزيائها، فقد كانت اختيارا موفقا جدا للدور، حيث ساهمت في إضفاء هذه المسحة الخيالية على القصة بشكلها وأدائها، وكأنها “أليس في بلاد العجائب”. وكذلك كان وجدي معوض في تعبيراته وأسلوبه الذي استطاع أن يُضفي على شخصية عالم الفيزياء بُعدا شاعريا.

فيلم “تحت سماء أليس” يمزج بين التصوير الحقيقي والرسوم المتحركة

 

“كما أبلغني عنها أفراد عائلتي”.. خيوط الحكاية

حققت المخرجة “كلوي مازلو” عدة أفلام قصيرة، وكانت قد حصدت جائزة أفضل فيلم تحريك قصير في جوائز سيزار عن فيلمها “الحصى الصغيرة” (Les Petits Cailloux) عام 2015، وقد صورت فيلمها “تحت سماء أليس” في قبرص، كما بني ديكور المنزل في إستوديو في فرنسا، ليمثل تماما حقبة الستينيات.

وعن هذا الفيلم الذي يمزج بين التصوير الحقيقي وبين الرسوم المتحركة، والذي يصور قصة اقتلاع عائلة من مكانها ونهاية حياة مثالية بسبب الحرب؛ صرحت بأنها لم ترغب في إنكار هذه المأساة بخطورتها وعنفها، لكن كان من المهم بالنسبة لها أن تتحدث عنها بهذا التواضع، وهذه الرصانة المشوبة بالفكاهة “كما أبلغني عنها أفراد عائلتي”.

عرض الفيلم بمعهد العالم العربي في عرض أوّلي بباريس، وقد خرج للصالات الفرنسية هذا الصيف.


إعلان