باب المغاربة.. حفريات إسرائيلية تخنق معراج النبي ومدخل المجاهدين

تنفتح للمسجد الأقصى المبارك أبواب السماء كل ليلة وكل صباح، ومن قبته الشماء الخالدة عرج بالمصطفى ﷺ إلى السماء، وكان ما كان من ميلاد الرسالة وقصة العروج الأسمى على صهوة البراق، في واحدة من أمتع وأسمى وأغرب وأجمل قصص السفر بين أهداب الأرض ومدارج السماء، وبين الغيب والشهادة.

وكما للأقصى أبواب إلى السماء، فله أيضا على الأرض والأرجاء أبواب، منها خمسة مغلقة بسبب وضعيته الصعبة كأحد أبرز الأسرى الفلسطينيين، يحرر تارة، ويعود إلى الأسر تارة. والأبواب الخمسة المغلقة هي الباب الثلاثي والباب المزدوج والباب المفرد وباب الرحمة وباب الجنائز.

المغاربة.. الباب الموصد

وإلى جانب تلك الخمسة الموصدة، عشرة مفتحة للقاصدين والزوار، وحراس الأقصى ورهبان محاريبه المتنسكين فيه منذ مئات السنين، ينسجون بدموع السحر ومواجد السجود وتراتيل القيام، بُردة الإيمان وعمائم الإحسان، تحت السواري الشامخات للأقصى الشريف.

وتتوزع هذه الأبواب على أسوار الأقصى المبارك، فعلى السور الشمالي للأقصى المبارك باب الأسباط وباب حطة وباب العتم، وعلى السور الغربي سبعة أبواب هي باب المغاربة وباب الغوانمة وباب الناظر وباب الحديد وباب المطهرة وباب القطانين وباب السلسلة.

وبين هذه السبعة باب واحد اختارت سلطات الاحتلال الصهيوني أن توصده دائما، وتغلق نسمات التاريخ والروح المنسابة منذ قرون بين مصراعيه الذين شهدا تدفق آلاف المصلين، عابرين كنسيم فواح، أو أنات شهيد يرنو إلى السماء من رئة التاريخ، كانت تلك الجموع تتدفق وتتدافع إلى الأقصى قادمة من كل صوب وحدب، تمتلئ بهم جنبات الأقصى يجولون بين سواريه، كما يجول حبه وتقديسه بين شغافهم المفعمة بالطهر والإيمان.

إنه باب المغاربة أشهر أبواب الأقصى وأكثرها ترددا في يوميات الإعلام وأحاديث الصراع والمغالبة المستمرة بين حراس الأقصى والجنود الإسرائيليين المعتدين على قداسته المسورة بالدموع والدماء.

صادرت قوات الاحتلال مفاتيح باب المغاربة سنة 1967 بعد تلك النكسة المؤلمة، ومنعت المسلمين من الدخول منه، وتركت شجاه زفرة خالدة تضج وتتناقل بين أبواب الأقصى، وتتردد أيضا في جنبات المغرب العربي الأقصى الذي يرى في ذلك الباب صوته المكتوم في حنجرة الأقصى المبارك.

معراج النبي.. باب مطل على حارة المجاهدين المغاربة

يختص باب المغاربة بميزات متعددة جامعة بين عبق التاريخ وأريج النبوة، فهو أحد أهم وأقدم بوابات المسجد الأقصى المبارك، ويقع في سوره الغربي، مقتربا من جهة الجنوب مطلا على أفياء واسعة من تاريخ الأقصى وجغرافية تشكيله، وهو إلى جانب ذلك محاذ لحائط البراق ذي المكانة السامية عند المسلمين.

وقد بني هذا الباب مقوس الشكل، يشبه الهلال، وحمل في تاريخه الطويل أسماء متعددة، منها باب البراق وباب النبي، إذ تذكر الروايات المقدسية أن النبي الكريم ﷺ دخل من جهة هذا الباب ليلة الإسراء المشهودة، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل هو أيضا من جهة الباب نفسه، يوم جاء إلى الأقصى فاتحا بذلك صفحة من أسمى صفحات التاريخ، ومطرزا معالم العهدة العمرية التي حمت مقدسات الأقصى وسكانه وعقائدهم وأموالهم، في وثيقة عهد وقعها الإسلام والمسيحية في لقاء لا يزال يضيء صفحات الأيام.

يقع باب المغاربة على السور الغربي من المسجد الأقصى المبارك

وقد أعيد ترميم باب المغاربة في العهد المملوكي على يد السلطان الناصر محمد بن قلاوون عام 1313 م/713 هـ، وحمل منذ ذلك الحين اسم باب المغاربة، حيث كان مطلا على جامع المغاربة الذي دخل الآن ضمن المسجد الأقصى، وكان أيضا مدخلا إلى حارة المغاربة التي قطنها المجاهدون القادمون من الأندلس والمغرب الأقصى لنصرة الأمير صلاح الدين الأيوبي، يوم عبر بجيشه إلى القدس لينهي حكم تسعين سنة من سطوة الصليبيين، وقد أوقف الملك الأفضل الأيوبي -شقيق صلاح الدين- تلك الحارة على أولئك القادمين من الغرب الإسلامي، وحملت اسمهم إلى أبد التاريخ، وانسابوا هم كترانيم الأذان في المجتمع المقدسي المتآلف من أعراق وقبائل شتى، دعاهم داعي الأشواق إلى الأقصى فلبوا واستقروا وأصبحوا مقادسة بالدين والهوية والنضال والمقاومة.

وإلى جانب تلك القيمة التاريخية، فإن باب المغاربة هو الباب الوحيد من تلك الأبواب العشرة، الذي حرمته إسرائيل على المسلمين، وذلك لقربه من حائط البراق، الذي يسميه اليهود حائط المبكى، حيث يقيمون عنده طقوسهم التعبدية.

حارة المغاربة.. ركن من أركان الحج أحرقه الاحتلال

اختار الاحتلال الإسرائيلي بعناية كبيرة باب المغاربة لقربه من حائط البراق، فانتزعه عنوة من المسلمين، وذلك على إثر جريمة هدم حارة المغاربة في العاشر من يونيو/حزيران 1967، وتشريد مئات المقادسة الذين أقاموا فيها قرونا، وتوارثوه أحفادا عن آباء عن أجداد.

وقد ظلت حارة المغاربة على مدى قرون منزلا ومستقرا لآلاف القادمين من وراء الأبيض المتوسط، ومن المغرب الأقصى والأندلس، أولئك الذين وصفهم صلاح الدين الأيوبي، بأنهم قوم “يعملون في البحر ويفتكون في البر”، لما امتازوا به من الشجاعة والإباء.

بمجرد احتلال القدس سنة 1967، هدم الاحتلال حارة المغاربة وحوّلوها لساحة تستقبل زوار حائط المبكى

وقد كانت زيارة المسجد الأقصى لازمة من لوازم الحج عند المغاربة، وهو تقليد حافظ عليه علماء المغرب العربي بدوله الخمس، وكذا بعض علماء غرب أفريقيا مثل السنغال ومالي، وتواصلت تلك السنة، حتى أنهى الاحتلال الإسرائيلي تلك الرحلة المقدسة من المغرب الأقصى إلى الحرمين، ثم المسجد الأقصى المبارك.

كانت ليلة الهدم مشهودة، وكان مخططا لها بعناية، فقد اختار رئيس بلدية الاحتلال آنذاك “تيدي كوليك” 15 مقاولا ينتمون إلى اتحاد المقاولين والبنائين الإسرائيليين من أجل هدم 135 منزلا عتيقا يعبق التاريخ من حجراته وبلاطه في حارة المغاربة.

أعمال الهدم وحفريات الأعماق.. عبث الأيادي الصهيونية

جرفت الآليات الصهيونية الأرض والتاريخ والأرواح، وتحت أنقاض أحد البيوت توفيت سيدة مقدسية، رفضت الخروج من بيتها، فانهالت عليها حجارته، فقضت نحبها تحت بيت أظلها، ونسجت بين جدرانه تفاصيل حياتها وترانيم أيامها الزاخرة بالألم، منذ جثم الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين. وبعد أربعة أيام من الهدم، سويت ساحة المبكى، وتنادى إليها الإسرائيليون محتفلين بعيد نزول التوراة.

في 2004، بنى الاحتلال جسرا خشبيا من أجل تسهيل اقتحامات اليهود المتطرفين للمسجد الأقصى

ولم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بمصادرة باب المغاربة من المسلمين، ومنعهم من دخوله، بل أطلق حفريات وتوسعة كبيرة في منطقة الباب وأسفله بشكل خاص، ووصلت تلك الحفريات إلى حد بناء أنفاق وجسور ومواقف للسيارات، وذلك من أجل هز أركان الأقصى ودفعه للانهيار في مخطط قديم ومتواصل.

وقد أدت هذه الحفريات المؤلمة إلى انهيار جزء من تلة باب المغاربة الأثرية سنة 2004، وهو ما استغله الاحتلال لإقامة جسر خشبي مدعم بالحديد، من أجل تسهيل حركة المتدينين الإسرائيليين، واقتحاماتهم المتكررة للمسجد الأقصى.

مدخل الجنود والمتطرفين.. جرح نازف في جسد التاريخ

ما زال الاحتلال يواصل حفرياته تحت منطقة باب المغاربة، حيث هدمها في 2007، وحول أسفلها إلى كنيس يهودي مرتبط بنفق يصل إلى المسجد الأقصى ومصلى النساء في باحته الشريفة.

يعتبر حي المغاربة الطريق الأيسر والأقصر والآمن لاقتحامات الصهاينة لباحات المسجد الأقصى المبارك

وإلى جانب هذه الاعتداءات على التاريخ والقداسة، فإن باب المغاربة يمثل أيضا مدخلا لجنود الاحتلال ومتطرفي اليهود، كلما أرادوا اقتحام الأقصى والاعتداء على المرابطين عليه، حيث يتدفقون منه بآلياتهم العسكرية إلى داخل باحة ثالث الحُرُم الإسلامية.

على شرفات السنين لا يزال باب المغاربة قصة لا تنتهي، وحديثا مطربا مؤنسا للمغاربة، ولكنه في فلسطين شريان الأقصى الذي يتدفق منه دم الاحتلال منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن، ويبقى البوابة الأهم في تاريخ المسجد الأقصى والأكثر قداسة، والأعظم خطرا، في ماضي الأقصى وحاضره، ومستقبل أركانه وسواريه، ومحرابه، وذاكرة حراسه.


إعلان