“تفاح”.. وباء فقدان الذاكرة يغزو الحضارة البشرية

خالد عبد العزيز

في أحد مشاهد رواية “1984” للكاتب والروائي البريطاني “جورج أورويل” نرى بطل الرواية “وينستون سميث” وهو يُمارس عمله في قسم الوثائق في وزارة الحقيقة، حيث يقتطع من الجرائد والمجلات أي إشارات أو أخبار، ويُعدل من مسار التاريخ وفقا لأوامر رؤسائه، فالتاريخ يُعاد تدوينه حسب الأهواء، وبالتالي تُصبح الذاكرة كالمطاط يسهل التلاعب بها، وإضافة ما يراد إليها، وحذف غير المرغوب منها.

تلك الأزمة؛ أزمة الهوية والذاكرة تُعاد صياغتها في الفيلم اليوناني “تفاح” (بالإنجليزية: Apples) (باليونانية: Μήλα)، وهو من إنتاج عام 2020، ومن تأليف وإخراج “كريستوس نيكو” في أولى تجاربه الروائية الطويلة، بعد سنوات في العمل كمساعد للمخرج اليوناني الكبير “يورجيوس لانثيموس”، وقد عُرض الفيلم في قسم آفاق في مهرجان البندقية في دورته الـ76، ولاقى ترحيب الجمهور والنقّاد على السواء، نظرا لحداثة موضوعه وقدرته على النفاذ إلى العمق بأسلوب سلس وصادم في آن واحد.

 

وباء فقدان الذاكرة البشرية.. كابوسية مغلفة بالرمزية

الذاكرة الإنسانية؛ ذاك المعقل ليس للذكريات والتاريخ فحسب، لكن للهوية والشخصية والذات الفردية بصفة خاصة، إذا وقع التلاعب بها أصبح الإنسان كالمسوخ، لا يدري من أمره حالا، وبالتالي تسهل السيطرة عليه والتحكم فيه وكأنه جماد أو صنم، ماذا يحدث لو استيقظ البشر واكتشفوا زوال ذاكرتهم فجأة؟ كيف ستكون ردة الفعل؟ ما مصير هؤلاء المصابين؟ وكيف يكون التعامل معهم؟

أسئلة عدة يطرحها الفيلم، ليس بالضرورة تقديم إجابات شافية عنها، لكن طرح الأسئلة ذاتها يدفع للتفكير والتأمل، وبالتالي ستتوالى الإجابات تباعا من رحم المعايشة.

تُرى ماذا يحدث إذا أصيبت البشرية بوباء ماكر يخترق الذاكرة الإنسانية ويمحوها من جذورها؟ يسير الفرد في الشارع، وإذ به يسقط فجأة ولا يعرف من هو، ولا من أين أتى، ولا إلى أين يتجه.

يسعى الأطباء للحد من انتشار الجائحة دون أثر ملموس، فالأعداد تتزايد والخطر يدق الأبواب، هكذا تدور أحداث الفيلم في إطار من الغموض لا يخلو من كابوسية مُغلفة بالرمزية المستترة.

البطل يشاهد فيلما في دار العرض السينمائي دون أن يتأثر بأية مشاعر

 

رذاذ متطاير مجهول النسب في الشوارع.. عالم الديستوبيا

يبدأ الفيلم بمشاهد متناثرة نرى فيها بطلنا وهو يطرق رأسه في الحائط، ثم يجلس وحيدا متأملا، ثم يأتينا صوت الراديو مُعلنا عن برنامج لإعادة تأهيل ضحايا وباء فقدان الذاكرة، لنجد أن السيناريو يمدنا بدلالة ما عن القادم من الأحداث، فقد رسم السيناريو البيئة العامة للأحداث مُطعّمة بسودواية وكابوسية لا تخطئها عين المتفرج، وتلقي بظلالها على السرد بصفة عامة منذ مشاهده الأولى.

نحن أمام عالم جديد ملامحه تبرز وتتشكل ببطئ، عالم يفقد فيه البشر ذاكرتهم، هكذا دون سابق إنذار أو تحذير، يتساقط الضحايا في الشوارع كالرذاذ المتطاير مجهول النسب، ففي أحد المشاهد نرى أحد الأفراد وهو يخرج من سيارته ويسقط على الأرض لا حول له ولا قوة، وحينما تسأله إحدى المارة يُخبرها بتلقائية أنه لا يدري ما الذي أتى به إلى هنا، لتبادره بالسؤال عن اسمه، ليأتيها الجواب نظرة طويلة تائهة، ثم قوله “لا أدري”.

دعم السرد البناء العام للأحداث بما يُشير لتلك الأجواء الديستوبية (عالم يحكمه الشر، لا مكان للخير فيه) التي تُغلف إطار الفيلم بصفة عامة، وذلك من خلال إضافة بعض المشاهد التي تُبرز ذلك العالم الجديد، مثل المشهد الذي نرى فيه بطل الفيلم وهو يسير في الشارع مُتأبطا الكاميرا الخاصة به التي يُسجل بها ذكرياته الجديدة، ويعبر بجواره شخص مثله مزوّد هو الآخر بكاميرا، وذلك في إشارة لانتشار وتفشي الوباء وفقدان السيطرة عليه.

وبالتالي فقد اختار السيناريو أن تدور الأحداث في مكان ما على وجه الكوكب الأرضي، لكن ما هو؟

لا أحد يُدرك، وكذلك شأن الزمان فلم يحدد أيضا، وهذا مقصود تماما، خاصة مع وضوح رمزية الفيلم ودلالة موضوعه، فالزمان والمكان هنا لن يُضيفا جديدا من ناحية تسلسل الأحداث ومدى قدرتها على الإقناع، بل طمس الزمن ومكان الأحداث جعل من قدرة القصة على التصديق أقوى وأكثر إيحاء.

البطل في المستشفى الذي يشبه السجن الكبير بعد أن أُعطي رقما وكأنه بداخل سجن ما

 

سلطوية “الأخ الأكبر” على البؤساء.. سجن في هيئة مستشفى

يسقط بطلنا فجأة ضحية ذلك الوباء، فيجد نفسه فجأة داخل عربة إسعاف، تحت ضغط قذائف من الأسئلة موجهة إليه من المُسعف، وحين يصل إلى المستشفى يقف أمام كاميرا الطبيبة، فتقوم بتصويره وتُطلق عليه رقما، وكأنه بداخل سجن ما، وليس مستشفى للعلاج، فقد جعل السيناريو المستشفى أشبه بالسجن الكبير، والأطباء كأنهم آمرو ذلك السجن.

قد تبدو العلاقة بين الأطباء والمرضى طيبة، لكنها تحوي بين طياتها لهجة آمرة، من الرئيس إلى المرؤوس، يخضع المرضى الفاقدون للذاكرة لعلاج بناء على برنامج إعادة التأهيل، تمهيدا لعودتهم في صفوف المجتمع، وقد أضاف السرد مشاهد متفرقة مُعبرة عن هذه العلاقة الغريبة بين الطرفين، فكل منهما يحتاج الآخر، المريض الأشبه بالطفل التائه، والطبيب يرغب في ممارسة عمله السلطوي، نحن أمام علاقة بالغة التعقيد، إذا ابتعد طرف عن الآخر تقلقل وجود أحدهما إن لم يتقلقل الاثنان معا.

رسم السيناريو تلك العلاقة مُستندا على أعمال أخرى تناولت مواضيع تخضع لنفس التشابه، ففي أحد المشاهد نرى بطلنا أثناء خضوعه للبرنامج التأهيلي، وبعد وصوله لمنزله الجديد الذي تسلمه مؤخرا، يستمع لشرائط كاسيت تحوي أوامر ونواهي ينبغي الإنصات إليها وتنفيذها بدقة، بشكل يُذكرنا برواية “1984” للكاتب البريطاني “جوروج أورويل” السابق ذكرها، وكأن من ينصتُ إليه ليس سوى “الأخ الأكبر” الذي يتحكم في مصير هؤلاء البؤساء، ويلتقي بهم بصفة دائمة عبر صوته الغليظ، متابعا ومُتدخلا في أغلب تفاصيل الحياة اليومية، إن لم يكن كلها.

بطل الفيلم يلتقط صورا لذكرياته الجديدة، فالذاكرة بالنسبة للإنسان هي التجربة، وهي التي تمنع الهزيمة

 

فاقد الذاكرة.. أشلاء متناثرة في فضاء مسيّر

تنطلق الفكرة الرئيسية للفيلم من فرضية قد تبدو متناهية البساطة، لكنها عميقة ومخيفة في الوقت نفسه، وهي ماذا يحدث لو تلاشت الذاكرة البشرية من البعض؟ سؤال تنفجر منه أحداث ودراما متكاملة تحوي بداخلها قدرا هائلا من الإشارات والدلالات، وتطرح المزيد من الأسئلة.

يقول الروائي عبد الرحمن منيف: “الذاكرة بالنسبة للإنسان هي التجربة، وهي التي تمنع الهزيمة”. وقد جعل السيناريو الصراع الدرامي يسير في اتجاه واحد، لكنه طاغٍ وشديد الوضوح، فالصراع هنا على الذاكرة، أو بشكل أعمق وأكثر شمولا عن الهوية الإنسانية، إن ثناثرت أشلاؤها في الهواء فقد الإنسان ذاته وماهيته، ومن ثم يصبح نسيا منسيا، يسهل تشكيله وإعادة قولبته وفق أي أهواء عليا أو إرادة مقصودة.

وإذا تمسك الإنسان بذاكرته أي بذاته، يصعُب السيطرة عليه؛ الذاكرة بوصفها التجربة الإنسانية والحياتية -كما يقول “عبد الرحمن منيف”-، ففي أحد مشاهد الفيلم نرى البطل وهو يُنفذ أوامر الأطباء بإعادة بناء وتشكيل ذاكرة جديدة عبر استخدام الكاميرا، وتصوير ذاته في مواقف عدة ترتبط ارتباطا وثيقا ببناء حياة جديدة.

هنا نصل لنقطة محورية تحوي قدرا من الرمزية، وهي الإشارة الضمنية لما يُمكن أن تفعله الأنظمة الديكتاتورية للسيطرة على الشعوب، والسيطرة على الذاكرة، ومن ثم يُصبح الجميع مسلوبي الإرادة والمشاعر، وبالتالي يسهل إسكات أصواتهم وكبت رغباتهم، فحينما يُشاهد البطل أحد أفلام الرعب في دار العرض السينمائي، فإنه لا يشعر بأي مشاعر خوف، بل ملامحه تظل محتفظة بجمودها وثباتها، فالمشاعر لديه أصبحت صحراء جرداء، لا تنبث ولا تشعر بأي ارتواء، وإذا حاول أي عامل أو مؤثر خارجي أن يُحرك دفّتها ولو قليلا، فإنها لن تستجيب.

يأخذ الصراع منحى آخر أكثر عمقا، وهو ثنائية الحرية والعبودية، فإذا امتلك الفرد ذاكرته ولم يصب بالوباء فذلك يعني أنه لا يزال يتمتع بحريته، أما إذا دخل في جُنح المرض، فقد أصبح في عداد العبيد، فالهوية هنا معادل للحرية، من امتلكها فقد امتلك حرية الحياة.

بطل الفيلم الممثل اليوناني “آريس سيرفتاليس” يواظب على تناول التفاح الذي يُعتبر وجبته الرئيسية طوال الفيلم

 

شخصية البطل.. روح جامحة في جسد راكد

يبدأ الفيلم بداية تحوي من الغموض والإيهام ما يدفع للفضول للمتابعة لاكتشاف المزيد، عالم غريب لا تمتلك شخصياته هوية أو أي أوراق ثبوتية تُثبت أسماءها وهويتها، فحينما يُصاب بطل الفيلم بالمرض، يصعب اكتشاف اسمه، حتى الأطباء المعالجون يتغافلون عن هذه الفرضية، فيتعاملون معه ومع غيره من المرضى وكأنهم ذرات هواء تتطاير بين الحين والآخر.

عمد السيناريو إلى إغفال اسم البطل (الممثل اليوناني “آريس سيرفتاليس”) طوال الفيلم، فلا ندري له اسما، ولا نكاد نُدرك شيئا عن تاريخه السابق وخلفيته، من هو؟ كيف سارت حياته في الماضي؟ هل هو متزوج؟ وغيرها من تلك الأسئلة المنطقية والبديهية لبناء ورسم شخصية متكاملة من لحم ودم، لكن السرد هنا لم يشأ إضافة أي أسماء، إمعانا في الرمزية، فالبطل هنا ليس سوى رمز للفرد المسلوب الهوية والحرية، ومن ثم تُصبح حياته الجديدة تعبيرا عن حالة القهر والخنوع الجمعي في ظلال الشمولية والسيطرة المتكاملة.

وبالنظر إلى شخصية البطل، فقد رسمها السيناريو خانعة للغاية، وكأنه طفل صغير يحوي قدرا هائلا من البراءة، تلك البراءة تطفو بكثافة في مشهد الاختبار الطبي للذكاء، ونظراته تشي بالتيه وعدم الفهم، في مقابل نظرات الطبيب الموجهة نحوه كالسهام، لكن هذه الشخصية -رغم خنوعها وخضوعها- تحوي بداخلها تمردا ورغبة في الوصول للحقيقة، حتى وإن كانت تلك الحقيقة تبتعد عن عالمه الذي يعرفه ويدرك إشاراته وعلاماته.

يسعى البطل للامتثال للأوامر الملقاة إليه عبر شرائط الكاسيت، يُنفذها بدقة، لكن بداخله روحا متوثبة توّاقة للمغامرة رغم حالة الركود التي يعيش في كنفها، ففي أحد المشاهد نرى البطل أثناء خروجه من دار العرض السينمائي يتعرف على امرأة ما مثله، لا تُدرك من أمرها شيئا، تتطور العلاقة بينهما، ليصبح كل منهما في حاجة للآخر، المرأة بداخلها طفلة صغيرة تمارس نزقها وأفعالها الطفولية برفقة البطل الذي يجد نفسه منساقا ورائها، وهي الأخرى تتشارك معه تفاصيل حياتها وشطحاتها الجنونية، وكأنها تسعى للرسو وهو يسعى للانفلات من أسر كبته الداخلي، فكلاهما كوجهي العملة المعدنية، الركود والانطلاق.

 

دلالة التفاح.. رمزية الغواية والمقاومة عبر التاريخ

اختار السيناريو المحبوك تفاصيله بعناية شديدة أن تكون الوجبة الرئيسية للبطل هي التفاح، ففي المشاهد الأولى من الفيلم نراه وهو يأكل التفاح داخل المستشفى، بل ويطلب المزيد منه، وفي مشهد آخر يتناوله في الشارع، وكأنه لا يأكل سواه، لنجد أن البطل سقط في غواية هذه الفاكهة ببُعدها التراثي، تلك الفاكهة الطيبة المذاق التي تحوي بداخلها رمزية لا تُغفلها العين، فلطالما ارتبطت بالغواية في القصص المتداولة عبر التاريخ، مثل نصف التفاحة المسموم وغيرها، فالتفاح هنا رمز ودلالة للمقاومة مثلما يراه البطل، لكن الشق الآخر من الغواية يطل هو الآخر.

حينما يذهب البطل لشراء التفاح، يُخبره البائع أن لديه برتقالا شهيا، لكن البطل يُجيب بأنه يُفضّل التفاح، ليأتي رد البائع بأن التفاح مُفيد للذاكرة، فيلقي البطل بالتفاح ويأخذ البرتقال بدلا منه، وتُصبح الرغبة في التلاشي والذوبان في العدم التي يعيشها البطل هي ما يرغب فيه، وكأن حياته اعتادت القهر والدوران في تلك الدائرة المفرغة، فحينما تُتاح له الفرصة للانعتاق من معاناته؛ نجده يُصرّ على هذا النمط المعاش دون أدنى محاولة منه لتغيير ذلك، حتى ولو بالرغبة فقط.

مخرج فيلم “تفاح” “كريستوس نيكو” في أولى تجاربه الروائية الطويلة

 

تقويض الحضارة الإنسانية.. غوص سينمائي في وضع عالمي مقلق

يقول مخرج الفيلم “كريستوس نيكو”: أحاول دائما تكييف قصصي الشخصية مع ما يدور حولنا في العالم، وأراقب كيف يتصرف المجتمع، أظن أيضا أن الرموز السياسية واضحة، فعندما يرتكب السياسيون أخطاء، فإننا لن نتذكرها بعد مرور أسبوع، وسنصوت لهم مرة أخرى.

هنا يتضح مضمون الفيلم ورمزيته السياسية بجلاء واضح، وقد ساهمت الصورة في تدعيم ذلك الإحساس الذي يصيب المتفرج بالسودواية، فالصورة مُعتمة ومُظلمة في أغلب المشاهد، بالإضافة إلى لمسات الإضاءة الحمراء التي لا تُعبر عن ما بداخل البطل فحسب، بل عن الوضع العام لأجواء الأحداث، فما نراه من إضاءة خافتة ليس إلا ظلال العام التي تُخيّم على الخاص، وإمعانا في الإحساس بالحصار، وقد اختارت الكاميرا الزوايا الضيقة التي تحصر البطل في إطار خانق، وذلك تعبيرا عن الحالة النفسية التي يعيشها.

لا شك أن بناء الفيلم تأثر ببعض الأعمال الفنية السابقة التي تناولت مواضيع متباينة، مثل رواية “1984” التي يقول مخرج الفيلم إنه استلهم بعض مشاهدها في الفيلم، بالإضافة إلى فيلم “عرض ترومان” (The Truman Show) إنتاج 1998 للنجم الأمريكي “جيم كاري”، ومن إخراج “بيتر واير”.

لكن يظل فيلمنا هذا -الذي يكشف عن مخرج لديه الكثير ليقوله- بأسلوبه اللافت للنظر، وشاعريته التي تطفو على السطح بين حين وآخر؛ يحوي من الطموح والجرأة ما يكفي ويُعبّر عن وضع عالمي مُقلق يؤثر على الذاكرة العامة التي إن تلاشت، فإنها تقوّض معها الحضارة والوجود الإنساني.

تُرى عزيزي القارئ، هل ستواجه محاولات طمس الذاكرة وتواظب على أكل التفاح، مثلما عاد بطلنا لأكله بشهية مُجددا، أم ستُسلّم خدك الأيسر لتتوالى الصفعات؟


إعلان