“نينوشكا”.. أربعون عاما من خذلان الثورة والوطن والبُن في نيكاراغوا

قيس قاسم
يعود المخرج السويدي “توفه توربيونسون” بعد قرابة أربعين عاما إلى نيكاراغوا ليُكمل إنجاز ثلاثيته الوثائقية عنها بفيلم “نينوشكا”، وهو عنوان مأخوذ من اسم الصبية التي بدأ الثلاثية معها، لكنه تركها فترة طويلة تعيش بقية حياتها، ثم عاد إليها ليرى ماذا جرى لها وماذا تغير في بلدها.
يرجع المخرج بتسجيلات قديمة إلى قرية سان فيرناندو التي قابل فيها أول مرة هذه الصبية، حين كان عمرها 12 عاما، حياتها كلها -كما ترينا الثلاثية- لا تنفصل عن حياة بلدها الذي شهد خلال أربعة عقود تحولات سياسية واجتماعية دراماتيكية أثرت عليها وعلى عائلتها، وكان المخرج السويدي شاهدا عليها، فقد وثقها كما وثّق الثورة النيكاراغوية عندما وصل إلى أمريكا اللاتينية بداية ثمانينيات القرن المنصرم.
اليوم وقد بلغ من العمر عتيا، يراجع حياة “نينوشكا” ارتباطا بكل ما سجله، ويتابع معها ما وصلت إليه علاقتها بزوجها، ورحلة بحثها عن عمل في إسبانيا، ومآلات الجبهة الثورية “الساندينية” التي آمنت بها في شبابها، لكنها في النهاية انحرفت عن مسارها فخيّبت آمالها كما خيّبت آمال شعب بأكمله.
“المرأة وأغنية الهجرة”.. صوت أجش يسرد الفصل الأخير
يُسمي الفيلم الفصل الحزين والأخير من حياة “نينوشكا” المضطربة بعنوان “المرأة وأغنية الهجرة”. بصوته الأجش، وأسلوب قصّه الذي يقارب أساليب سرد الحكايات الخيالية، يحكي “توربيونسون” عن علاقته بها، وكيف لازم تجربتها منذ وصوله عام 1983 إلى قريتها كمراسل صحفي كُلّف بتغطية أخبار الحرب الأهلية الناشبة هناك بين ثوار الجبهة الساندينية ومجموعات الثورة المضادة الموالية للحكومة.
وصل مراسل التلفزيون السويدي إلى القرية بصحبة مجموعة من الثوار، وكانت وقتها معزولة وخائفة، وكان أغلب أهالي القرية من المؤيدين للجبهة التي أطاحت بحكم الديكتاتور “أناستاسيو سوموزا”، ومؤمنين بشعاراتها التي دعت إلى المساواة والعدالة وتحرير المرأة والمجتمع.
لم تقبل الولايات المتحدة الأمريكية بالتغيير الجديد، فشكلت مخابراتها المركزية (سي آي أي) وحدات من عصابات الثورة المضادة، وجرى تمويلها وتدريبها على السلاح في هندوراس البلد المجاور، ومنها كانت تنطلق لشن هجمات وعمليات تخريب داخل نيكاراغوا.

قتيل في المنزل وألغام في الحقل.. انتقام الثورة المضادة
عندما دخل المُخرج “توربيونسون” قرية سان فيرناندو سمع بمقتل شاب منها على يد جار له انضم إلى “الثورة المضادة”، وقد دفعه الخبر الصادم لسكانها للذهاب إلى بيت القتيل، وهناك شاهد أخته “نينوشكا”، فلفت انتباهه خجلها ونشاطها داخل البيت، لذا التقط لها صورا وسمع منها رغبتها في أن تصبح مستقبلا معلمة تسهم في توعية سكان القرية بالقيم الجديدة للثورة التي تشبّع بها كل أفراد عائلتها.
والدتها خبازة القرية كانت تُوفر للثوار في الجبال خبزهم اليومي وتوصله بنفسها إليهم، وانتقاما من نشاط والدها زرع المعارضون للثورة حقله ألغاما.
كل تفاصيل حكاية الصبية وعائلتها يوثقها “توربيونسون” بالصورة، فرغم قربه منها لم يلجأ صانع الوثائقي البارع لسرد قصتها الحزينة بالكلام، فقد اعتمد كليا على الكاميرا، فجاء منجزه السينمائي مدهشا لكثرة ما فيه من توثيق مُصوّر ومصداقية تسجيل أضفى عليها أسلوب سرده الشفاهي جمالا.

عشق البحر للجبل.. حب رقيق تمزقه أشواك القسوة
خصص المخرج “توربيونسون” مساحة كبيرة من زمن الجزء الثاني من ثلاثيته لزواج “نينوشكا” من “سبستيان تينوكو”، لكن من مفارقات القدر أن حبهما انتهى بانفصال، وتخللت فترة زواجهما مشاكل اقتصادية وعنف أسري ظلت تداري عليه الزوجة حفاظا على أسرتها، لكنها بسبب الضغوطات الحياتية وقسوة سلوك زوجها لم تعد تطيق العيش معه ولا التستر على سلوكه، فقررت هجره.
منذ البداية لم يكن هناك توافق فكري بينهما، فالزوج الشاب كان جنديا، وقد دخل مع وحدات الجيش للقرية ووقع في حب الصبية، هو من مدينة بحرية وهي من قرية جبلية، وجوده بين أهلها بعد الزواج وعمله في حقول زراعة أشجار البن معهم لم يرضه، فقد ظل يشعر بأنه مهمش وغير مرحب به. ورغم إنجابها طفلين منه، فإنه كان يضربها ويوبخها، وظلت هي ساكتة لا تُعلِم أهلها الذين لم يرحبوا بزواجها به منذ البداية.
لم تتحسن علاقة “سبستيان” زوج “نينوشكا” بأخيها الذي ترأس جمعية تعاونية زراعية كان الزوج من بين أعضائها، ولأنه كان متمردا على وجوده بينهم؛ فقد قرر بيع حصته دون موافقتهم. إنها خطوة أنانية خربت علاقته بالكامل مع العائلة، وقرر على إثرها العودة إلى البحر في قريته.

ظروف المنزل والقرية والوطن.. تمزق بين هجرتين
أخذ “سيبستيان” معه زوجته وطفليه إلى مدينة ليون البحرية التي لم يوّفق بتأمين مستلزمات عيش عائلته ودراسة أطفاله فيها، ورغم أن الزوجة ساعدته بعملها في شركة أهلية، فقد ظل الفقر يخيم على أجواء البيت، ولتحسين حالها قررت “نينوشكا” العودة للدراسة، فشاركت في دورات تعليم الحاسوب، وخلال ذلك كانت العلاقة بينهما تتردى، وفي النهاية قررت الزوجة البحث عن عمل خارج نيكاراغوا.
قرار الهجرة وزّع العائلة بين مكانين، فالطفل ظل مع والده، والفتاة تعيش مع عائلة والدتها التي وصلت إلى إسبانيا وحيدة بحثا عن عمل، فكان هذا التمزق الحاصل متوافقا مع تبدد أحلام وخيبات من ثورة عوّل عليها شعب نيكاراغوا كثيرا لتحسين أحوالهم، لكن شيئا من ذلك لم يحدث.
لا يتناول الوثائقي النتائج والأسباب العامة مباشرة، بل يُسرّبها من خلال تحولات حياة “نينوشكا” نفسها، فكل دوافع الهجرة مرتبطة بواقع بلد ممزق يشجع عليها، فقد فتت القوة المضادة في عضد الدولة، والثورة أكلت نفسها وانحرفت عن مسارها، فتبخرت أحلام السعادة المروجة منها، ولم يبق أمام الناس سوى الكفاح من أجل تأمين لقمة عيشهم بأساليبهم، من دون اعتماد على حركة سياسية طالما راهنوا عليها وقدموا من أجلها التضحيات.

قوانين الهجرة الإسبانية.. سجن كبير في بلاد الغربة
رغم أن المخرج “توربيونسون” نادرا ما يتدخل في شؤون “نينوشكا”، بل يظل يراقبها بكاميرته عن بعد، فإنه نصحها قبل السفر إلى مدينة بيلباو الإسبانية بالعدول عن ذلك القرار، لصعوبة الحصول على عمل بوجود أكثر من ثلاثة مليون عاطل عن العمل فيها، لكن جوابها المعاند لمخاوفه يستند على ثقتها بنفسها وعلى قدرتها على تحمل العمل الشاق الذي تعلمت عليه في الحقول منذ طفولتها.
لم تثمر نصيحة المخرج في تغيير خطة “نينوشكا”، فما كان على صانع الوثائقي إلا مرافقتها إلى البلد الغريب ليوثق جانبا آخر من حياتها حين وصلت إلى المدينة عام 2014، ومكثت فيها أكثر من خمس سنوات، لكنها لم تعد تستطيع الخروج منها إلى بلدها من دون الحصول على أوراق عمل رسمية تسمح لها بالبقاء فيها بشكل قانوني، فخروجها من البلد بعد اشتغالها أعمالا مرهقة ليل نهار من دون الحصول عليها؛ يعني حرمانها من العودة ثانية إلى إسبانيا، وضياع كل جهدها هباء.
وجدت المرأة الغريبة نفسها في وضع يشبه وضع السجين المكبل بالقوانين، ومع ذلك كان عليها المُضي في طريقها رغم آلام الغربة والحسرة على ترك الأولاد بعيدين عنها، حيث عملت في مجال تقديم الخدمات لكبار السن.
تصف “نينوشكا” تلك الفترة بالقاسية، ولا عجب فقد ذاقت خلالها الذل والهوان، فالأثرياء يعاملونها ككائن من الدرجة الثانية، ويقدمون لها فضلات الطعام، وتنام هي أحيانا على أرضيات غرف باردة.

لم الشمل.. نصر عائلي في القرية الثائرة
بعد طول انتظار تحصل “نينوشكا “على أوراق رسمية تسمح لها بالإقامة والعودة إلى إسبانيا في حال مغادرتها، تلي تلك الخطوة الرجوع إلى الوطن.
ينتقل الوثائقي معها إلى القرية التي شهدت تغيّرات شخصية كثيرة أثناء غيابها، فابنتها درست الصيدلة وتخرجت منها، وابنها كبر ورفض التواصل معها في البداية، حيث قررت المكوث في القرية، وبما ادخرته من مال اشترت قطعة أرض تزرع فيها أشجار بُن، كما قامت بذلك بمساعدة أهلها، وفي الوقت نفسه قررت بناء بيت لها ولأطفالها يعيشون فيه سوية.
يطرأ على علاقتها بابنها تحسن يلتقطه الوثائقي ويقف عنده، فـ”نينوشكا” كانت على الدوام أما رائعة، أحبت أولادها وتغربت وتحملت الكثير من أجل تأمين مستقبل جيد لهم. يعود الشاب ويجتمع مع جده وأخواله، وتستعيد العائلة شملها المفقود لسنوات.

ذبول أوراق البُن في الاقتصاد العالمي.. عودة قوارب الهجرة
يوحي المشهد قبل الأخير لمُشاهده باكتمال سعادة منتظرة، لكن ثمة مؤثرات قوية خارجية تتحكم دوما بمصائر البشر وتُغيّر مسارات حياتهم، فبعد كل ما بذلته من أجل تحسين أرضها وزراعتها وتخليصها من الألغام؛ انخفضت أسعار البن في الأسواق العالمية إلى مستويات لا تُصدق، بحيث لم تعد زراعتها تدرّ على أصحابها ربحا.
في مشهد أخير تظهر “نينوشكا” وهي تستقل في عام 2020 قطارا ليليا في نفس المدينة الإسبانية التي اشتغلت فيها، مصحوبا بأغنية حزينة خافتة الصوت، لقد عادت المرأة إلى الهجرة ثانية بعد أن تبددت أحلامها في الوطن، كما تبددت أحلامها بالثورة التي آمنت بها وضحّت من أجلها.
الفصل الأخير من الثلاثية الرائعة يجسد جانبا واسعا من مشهد نيكاراغوا الحزين، ويجسد عمق منجز وثائقي رائع لم يترك أبدا ما بدأ الاشتغال عليه قبل حوالي 40 عاما.