“التمرد الأمريكي”.. سم اليمين المتطرف يمزق جسد العم سام

قيس قاسم

يعتبر الصحفي الأمريكي “أي. سي. تومسون”، بحكم خبرته الطويلة من نقله للأحداث والاضطرابات الداخلية؛ أن اقتحام مبنى الكونغرس (الكابيتول) في مطلع العام الحالي وما جرى داخله من عنف، ليس سوى امتداد لمظاهر عنف وكراهية للغير كامنة في قلب المجتمع الأمريكي وآخذة بالتوسع.

يُلاحظ “تومسون” بشكل خاص خلال سنوات حكم الرئيس السابق “دونالد ترامب”، بروز منظمات وحركات مسلحة على السطح تنتشر بسرعة مخيفة، مُعلنة صراحة عداءها للديمقراطية، وإيمانها المطلق بالعنف كوسيلة وحيدة لتحقيق أهدافها وغاياتها الفكرية.

للحركات الجديدة جذور عميقة ممتدة في التربة الأمريكية، وتتغذى وتنمو في مؤسسات الدولة ويرعاها سياسيون يمينيون. ولوضع خريطة توضح مراكز نفوذها، يُكَلِف المخرج “ريتشارد رولي” الصحفي الأمريكي للقيام بالمهمة، ويقوم “ريتشارد” بإجراء مقابلات مع بعض قادة المنظمات ليكشف من خلالهم الدور الذي لعبوه مع مؤيديهم في عملية اقتحام الكونغرس.

 

أحداث شارلوتسفيل.. مظاهرة مسلحة وهتافات عنصرية

يسير الوثائقي المتماسك البناء والاستقصائي “التمرد الأمريكي” (American Insurrection) مع الصحفي في رحلة تقصّيه لمنابع العنف، ويدعمه عند الحاجة بوثائق وتسجيلات (فيديو) مهمة تُعينه على الوصول إلى مبتغاه، بينما يعمل هو على توسيع بحثه بإقناع زعماء منظمات متطرفة للوقوف أمام كاميرته والإجابة على أسئلته، وإلى جانبهم يلتقي بمسؤولين حكوميين وأفراد من حركات مناهضة للعنصرية والتطرف.

يميل “تومسون” للقول إن أولى علامات الانتشار الكبير للمنظمات المسلحة اليمينية ظهرت أثناء أحداث شارلوتسفيل عام 2017 في ولاية فرجينيا، وذلك عندما خرجت مجاميع مسلحة إلى الشوارع وراحت تهتف بشعارات عنصرية من دون خوف ولا وجل.

يعترف الصحفي بأنه لم يشاهد خلال كل تغطياته الصحفية السابقة تجمعا لحركة “القوة البيضاء” العنصرية بذلك العدد.

المتطرف “جيمس أليكس فيلدز” الذي قام بدهس حشود مدنية سلمية خرجت للإعلان عن موقفها المناهض للعنف في أمريكا

 

“كلمات الرئيس بعد الأحداث كانت بمثابة تشجيع لنا”

تنقل التسجيلات الفيلمية تصدي العنصريين لمظاهرة سلمية خرجت في شوارع المدينة إثر الأحداث، ودعا رهبان شاركوا فيها إلى نبذ العنف، وبدلا من الاستجابة لدعواتهم هاجمهم المتطرفون، واستخدموا لتفريقهم مختلف أنواع الأسلحة، ولم يتوانوا عن طعن عُزّل بالسكاكين.

كل هذا كان يحدث أمام أنظار الشرطة التي اكتفت بالمراقبة، وحين سأل الصحفي أحدهم عما إذا سيكتفون بالمشاهدة، أجابه أحدهم إجابة ملتبسة لا نفع فيها. ينتبه الصحفي خلال وجوده هناك إلى حضور زعيم منظمة “براود بويز” المتطرفة برفقة مجموعة من ميليشياته المسلحة.

يتصاعد المشهد الدموي الذي نقلته وسائل الإعلام إلى جميع أنحاء العالم بانطلاق الزعيم المتطرف “جيمس أليكس فيلدز” بسيارته وسط حشود مدنية سلمية خرجت للإعلان عن موقفها المناهض للعنف، ويدهس تحت عجلاتها أعدادا منهم، ويقتل أحدهم.

بدلا من إدانة العنف والمنظمات العنصرية المتطرفة، خرج الرئيس السابق “ترامب” ولم يمض على وجوده في البيت الأبيض أكثر من سبعة أشهر بخطاب يساوي فيه بين الضحية والمعتدي، حتى أن أحد العنصريين قال في مقابلة له مع الصحفي: إن كلمات الرئيس بعد الأحداث كانت بمثابة تشجيع لنا للمضي في سلوكنا العنيف.

 

مؤسسة الجيش.. عنصريون يتلقون أفضل تعليكم عسكري

من بين الحركات المتطرفة الجديدة التي يشخص الوثائقي صعودها بالصورة والوثيقة حركة “رام” التي يتداخل نشاطها مع حركة “القوة البيضاء”، وكان لأعضائها -حسب رصد الوثائقي- مشاركة خطيرة في أحداث “شارلوتسفيل”.

يستوقف الصحفي شخصا اسمه “مايكل ميسالس” ويسأله عن سبب مشاركته وضربه للمتظاهرين السلميين هناك، ورغم أنه رفض الإجابة على السؤال، فإن الوثائقي يساعد الصحفي على كشف هويته، حيث يُظهر البحث عنه أنه يعمل في شركة أمنية متعاونة مع وزارة الدفاع الأمريكية.

يكشف مسؤول أمني حقّق مع بعض المعتقلين من العنصريين بأن أعدادا كبيرة منهم لهم صلة بمؤسسة الجيش، ويجد أنه من غير الملائم أبدا أن يتلقى عنصريون ومتطرفون أفضل تعليم عسكري في العالم.

يتوقف الصحفي عند هذه النقطة ويضعها في مركز اهتمامه، إلى جانب تشخيصه لمظاهر بروز منظمات مسلحة وميليشيات جديدة خلال السنوات الأخيرة، وأن بعضها قد غيّر أساليبه للتمويه على عنصريتها وكراهيتها للغيّر.

عنف خلال اقتحام مبنى الكونغرس (الكابيتول) في مطلع العام الحالي

 

“فرقة الموت اليمينية”.. دعوات للخلاص من المسلمين واليهود

يلاحظ الوثائقي أن منظمة “براود بويز” المتميزة بزيها الغالب عليه لون الأصفر والأسود؛ قد ضمت إلى صفوفها بعضا من سُمر البشرة وذوي الأصول الأمريكية اللاتينية، وأن خطاب أغلب قادتها كان يركز على محاربة الشيوعية، وبشكل خاص حركة “أنتيفا” المناهضة للعنصرية، بينما يطبعون على أقمشة القمصان التي يرتدونها شعارات تُمجد الدكتاتور التشيلي “بينوشيت”، ويتفاخرون بالأفكار النازية.

وعلى شاكلتهم لا يتردد أعضاء مجموعة جديدة أخرى ظهرت للوجود العام الفائت، وتطلق على نفسها اسم “فرقة الموت اليمينية”؛ في الدعوة الصريحة إلى قتل المسلمين واليهود، والإعلان أن خلاص أمريكا يكمن فقط في التدريب على السلاح، وتصفية كل من يعارض نهجهم الدموي.

تتجسد سعة تنظيمهم والحرية الممنوحة لهم في معارضتهم العلنية لقرار إدارة مقاطعة ريتشموند في ولاية فرجينيا بمنع حمل السلاح من دون ترخيص، ففي المظاهرة خرج آلاف المؤيدين لهم مسلحين، وكأنهم قوة عسكرية نظامية.

نادي فينلاندرز الاجتماعي.. دكتاتورية تزحف إلى موقع القرار السياسي

يصل الوثائقي إلى زعيم قديم في حركة “القوة البيضاء” يدعى “براين جيمس” عمل خلال أكثر من 30 عاما معها، لكنه وبعد أحداث “شارلوتسفيل” تركها، وأسس لنفسه ناديا أطلق عليه اسم “نادي فينلاندرز الاجتماعي”، وخصصه لمؤيديه وأتباعه.

يعمل “جيمس” بأسلوب مختلف يعتمد على نشر الأفكار العنصرية عبر شعارات تدعو في الظاهر إلى ليبرالية جديدة، بينما هدفه النهائي هو الوصول إلى موقع القرار السياسي في واشنطن.

يعترف رغم ذلك صراحة بأنه ديكتاتور، أما عن أكثر فترة من تاريخ أمريكا ازدهرت ونمت فيها الحركة العنصرية واليمنية، فجوابه على السؤال لا يقبل التأويل: الآن في فترة حكم “ترامب”.

الشاب الأمريكي جورج فلويد الذي قُتل على يد شرطي أمريكي

 

“جورج فلويد”.. خطابات رئاسية تساوي الجلاد بالضحية

بعد تحديده أسباب صعود وانتشار المنظمات اليمينية المتطرفة التي أدت موضوعيا إلى بلوغ النقطة الحاسمة المتمثلة باقتحام الكونغرس؛ يشرع الوثائقي بالانتقال إلى مستوى أعمق يُفَصل فيه أبرز العوامل المشجعة لها.

يجد الوثائقي في “ترامب” واحدا من أكثر العوامل المشجعة على انتشار المنظمات اليمينية، ويقدم للبرهنة على ذلك مقاطع من خطاب له وقف فيه إلى جانب العنصريين ضد السود والمهاجرين والأقليات الأمريكية. يتناول تصريحاته بعد مقتل الشاب “جورج فلويد”، وبدلا من إدانته -كرئيس لكل الأمريكيين- الفعل الهمجي لرجل الشرطة، فقد راح يساوي بين ردود الفعل الغاضبة على جريمة القتل، وبين الروح والثقافة العنصرية المنتشرة في أجهزة الشرطة الأمريكية.

وعوضا عن مهاجمة وإدانة صعود المنظمات اليمينية، فقد ركز على حركة “أنتيفا” اليسارية، ووصفها بالإرهابية.

العريف “ستيفن كاريلوس” الذي خدم في وحدة الطيران التابعة للجيش الأمريكي، وقتل اثنين من رجال التحقيقات ثم قٌتل

 

“ستيفن كاريلوس”.. مقتل رجال التحقيقات في الغابة

في خطاب له عقب مقتل حارس شرطة في إحدى شوارع مدينة أوكلاند اتهم “ترامب” حركة “أنتيفا” من دون تقديم أدلة، وقال إن جريمتها تدل على خطرها.

لكن الصحفي لم يقتنع، وراح يبحث عن الحقيقة بعد وصوله إلى تسجيلات الكاميرات المنصوبة في الشارع، ويظهر فيها رجل يطلق النار على الشرطي الأسود من داخل سيارة شحن بيضاء اللون صغيرة. هل كان الرئيس على علم بتلك المعلومات المتوفرة عند جهاز التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي”؟

ذلك ما راح يبحث عنه الصحفي، وبعد جهد توصل إلى القاتل الحقيقي واسمه “ستيفن كاريلوس”، فبعد ارتكاب جريمته العنصرية ذهب بسيارته إلى غابة “سانت كروز” وركنها جانبا، وعند وصول رجال التحقيقات إلى الموقع أطلق النار عليهم، وقتل اثنين منهم. وقد أسفرت المطاردة عن اعتقاله وتوجيه تهمة القتل المتعمد له.

خطابات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التي تشجع على العنف في ميشغن

 

“حرروا ميشغن”.. تحريض رئاسي على القتل

من التحقيقات يظهر أن “ستيفن كاريلوس” عريف خدم في وحدة الطيران التابعة للجيش الأمريكي، وأن له نشاطا مع قادة منظمات يمينية متطرفة، فقد تأثر بأفكارها خلال خدمته في الجيش، وأخذ ينشط في صفوف منظمة “بوغالو بويز”، وهي أحدث المنظمات، ومن أكثرها عنفا على الإطلاق كما يؤكد الوثائقي.

وعلى غرار ما تفعله بقية المنظمات المسلحة يرتدي أعضاؤها زيا موحدا تقريبا (قمصان هواي)، ولديها قناة على تلغرام تبث دعاية نازية تحرض على العنف والقتل صراحة.

يربط الوثائقي بين خطابات الرئيس السابق “ترامب” وبين تصرفات المنظمات المسلحة، ويظهر ذلك عمليا حين دعا أنصاره إلى مهاجمة إحدى أعضاء مجلس نواب ولاية ميشغن. وتلبية لندائه “حرروا ميشغن” اقتحم أعضاء منظمة مسلحة جديدة اسمها “وولفيريا” المبنى، وهتفوا بشعارات تطالب بإعدامها وتوجيه تهمة خيانة الوطن لها، لأنها لا تتفق مع توجهات الرئيس، ولا مع نشاطهم النازي المتصاعد في الولاية.

يضع الوثائقي ومعه الصحفي اقتحام مبنى الولاية كتمهيد أولي سبق اقتحام الكابيتول.

ميليشيات مسلحة وسط الشوارع الأمريكية، حيث تخلّى أغضاء المنظمات المتطرفة عن “زيهم الموحد” كنوع من التغير في التكتيك

 

محاربة الإرهاب الإسلامي.. بيئة دافئة لتنامي اليمين المتطرف

يعود الوثائقي إلى يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، إلى اللحظة التي اقتحم فيها مؤيدو “ترامب” الكابيتول. ومن التسجيلات يظهر اندساس أعضاء منظمات متطرفة بينهم، وهم في أكمل جاهزيتهم القتالية، مع تغيير واضح في تكتيكاتهم يتمثل بتخليهم عن “زيهم الموحد”، وبحضور قادتهم شخصيا إلى المكان.

يقابل الصحفي أعضاء من الكونغرس، ويسمع منهم تفاصيل الاقتحام الذي تقدمه المسلحون المتطرفون، ويظهر أنهم كانوا على دراية بكل ما يفعلونه. يسأل أيضا مستشارا لوزارة الدفاع في عهد الرئيس الحالي “جو بايدن” عن سبب تجاهل الأجهزة الأمنية خلال حكم “ترامب” لنشاط تلك المنظمات، ولماذا لم يُقدم مرتكبو الجرائم فيها على المحاكم إلا نادرا؟

يحيل المسؤول الأمر إلى نزعة داخل الأجهزة الأمنية تركز على “الإرهاب الإسلامي” وتتخوف منه، بينما تتجاهل النشاط اليميني المتطرف، أما فيما يخص المؤسسة العسكرية والمناخ المشجع فيها على التطرف، فيتوقع أن تقوم الوزارة بمراجعة الأمر وتقييمه، ولا بد من العمل على تفتيت الحاضنة العسكرية للمتطرفين.

الصحفي الأمريكي “أي. سي. تومسون” الذي حقق في علامات الانتشار الكبير للمنظمات المسلحة اليمينية في أمريكا

 

حملات الاعتقال.. تراجع في الظاهر ونشاط في الخفاء

إثر اقتحام الكابيتول قامت الشرطة بحملات اعتقال للمتورطين فيه، ووفق ما حصل عليه الوثائقي فقد اعتقل خلال العام الحالي أكثر من 130 عنصرا منهم، ومع هذا فالواقع يقول إن الإقبال على الانضمام إلى صفوف المنظمات المتطرفة قد ازداد مؤخرا، وأن التواصل فيما بينها وبين أعضائها قل عن السابق، كما أخذ قادتها بتجنب الظهور العلني في الشوارع.

بمعنى آخر أنهم تراجعوا في الظاهر ونشطوا في الخفاء، لهذا -كما يقول المستشار العسكري- فإن خطر تلك المنظمات ما زال كبيرا.