“كِبَر”.. شاطئ الشيخوخة الغامض يفجر العلل النفسية والجسدية

إسراء إمام

أسوأ كابوس يمكن للمرء أن يمر به هو أن يُسجَن مع مخاوفه، أو نقاط ضعفه التي تخترق نطاقه العصبي والنفسي والبدني، والأمراض العضوية هي التجسيد الحي لتراكمات الهواجس والنواقص والقلق، وهي النتيجة الحتمية لمشاعرنا السلبية التي تعتبر هي السبب لما يعانيه معظم الناس من أمراض.

وبحسب كيفية تراكمات تلك المشاعر (أي نوعها ومقدار تمكنها وتكرارها) يختلف شكل الأمراض، فيحمل كل منا عِلَّته الخاصة التي قد يعود تشخيصها طبيا لأسباب مختلفة نظريا، لكن تلك الأسباب تظل واجهة لما تُحدِثه الضغوط التي يتعرض لها الجهاز العصبي إثر المعضلات والأزمات النفسية.

وفي فيلم “كِبَر” (Old) للمخرج “نايت شيامالان” -إنتاج 2021- يَعْلَق مجموعة من الأفراد على شاطئ فريد من نوعه، شاطئ تختلف فيه معادلات الزمن، فتعد الدقيقة الواحدة بمثابة سنوات، نظرا لطبيعة هذا الشاطئ جيولوجيا، فهو مُحَاط بصخور شاهقة تراكمت عليها بعض المواد المعدنية التي أكسبت المكان بالكامل طبيعة زمنية خاصة جدا، طبيعة تُسَرّع مُضي السنوات وتسرق الأعمار، وتُنَمي كل ما يختبئ خلف السنوات الطويلة البطيئة لتلك الأعمار.

لأول وهلة سيبدو لك أن الأبطال يواجهون مخاوف الكِبَر، لكن في حقيقة الأمر نتبين أنهم مُجبَرون على مواجهة عِلَل أجسادهم، وبالتالي مواجهة كل المشاعر التي كانت سببا في تمكن تلك العِلَل منهم أصلا، فمرور السنوات عليهم في دقائق جعلهم وكأنهم أهملوا مداواة أمراضهم المزمنة لأمد، مما أدى لتفاقم حالتها، وبلوغها في النهاية طور الذروة.

إن ذلك الشاطئ كان بمثابة بيئة حاضنة لفيروسات تلك الأمراض ومُسَبباتها الأصلية، فجعل كل أفراد المجموعة -سواء المريض منهم وغير المريض- مُحَاصرين مع آثار تدهور الأجساد والعقول في صورتها البدائية، بدون مسكنات كيميائية وزمنية تُشَوِش مقدرة فهمنا لها على أصلها.

 

ورم الخيانة وضغوط الانفصال.. شخصية البطلة

معظم أفراد المجموعة التي أُرسَلت للشاطئ بترتيب غامض من إدارة فندق اختاروه ليقضوا فيه إجازتهم؛ كانوا مصابين بأمراض مزمنة، أمراض كانت في بداية تَمَكُنها من أجسادهم، فالبطلة التي تعمل في متحف كانت تحمل ورما حميدا في معدتها، أما الطبيب الجراح فكان يعاني من بوادر خلل عقلي، وزوجته النحيفة المُعتدّة بجمالها كانت عظامها المهندمة تشتكي من نقص الكالسيوم، وامرأة أخرى من المجموعة كانت تواتيها نوبات صرع من وقت لآخر، وثمة مطرب أخير كان قد اكتشف لتوه أنه مصاب بخلل غريب في الدم.

يمكننا الربط بعين أعمق بين طبيعة أمراض معينة يحملها بعض المصابين في المجموعة، وبين طبيعة شخصياتهم والأزمات التي يواجهونها في أوقات حالية وسابقة من حياتهم، فنجد البطلة وقد مرت في فترة قبل قدومها للشاطئ بمشاعر مختلطة ضاغطة حول علاقتها بأسرتها، فنجدها أمام ظهور شخص آخر ظنت أنها تميل لوجوده في حياتها عوضا عن زوجها، فضلا عن قرارها النهائي بالانفصال، على الرغم من تمسك زوجها بها، وبالتالي رؤيتها الداخلية لنفسها كطرف خائن يتحمل وحده مسؤولية جرح أطفاله، والعمل على حرمانهم من الاستقرار بجانب والديهم معا.

هذا النوع من التخبط العاطفي يعد ضغطا نفسيا كافيا لظهور ورم في معدتها، ففترات الضغط العصبي والأوقات المتوترة الطويلة نسبيا كلاهما من الأسباب المتعددة التي توضع تحت خانة دوافع تكوين الأورام، وخاصة النوع الحميد منها.

البطل بينما كان يشعر بهجوم الجراح لكنه لا يراه لضعف بصره

 

غيرة الطبيب.. برود خارجي واشتعال داخلي

من الناحية الأخرى، عند تأمل الخلل العقلي الذي كان يُناوِش دماغ الطبيب قبل مجيئه للشاطئ، سنجده نتيجة متوقعة لشكل حياته وطريقة مواجهته لمفرداتها، فهو رجل متزوج من امرأة تُداوِم على استعراض جمالها، وقد اتضح من المؤشرات البسيطة التي اطلعنا عليها في علاقتهم قبل انشغالهم في نكبتهم على الشاطئ؛ أن ثمة توترا متبطنا ودائما في نفس الطبيب يتعلق بتلك الزوجة، فهو يغار عليها دون أن يجرؤ على إخبارها تلك الحقيقة بشكل مباشر، وذلك لشعوره بالنقص حيال سِنه التي تفوق سنها.

إضافة للصورة التي يضعها في ذهنه حول فارق هيئة وحضور كل منهما، مؤمنا في دخيلة نفسه بأنها تتفوق عليه، وبأنه لا يستحقها، فيدعها تتحدث إليه أحيانا بطريقة توجعه، ويغالي في إبداء عدم مبالاته حول محاولتها لفت أنظار الجميع من حولها، بل والتودد إلى الرجال المحيطين بها كالنادل الذي يأتيهم بوجبة الإفطار، دون تورع لوجوده هو وأمه العجوز على نفس الطاولة، وكأنها تأمن تماما شكل تلقيه لتصرف مماثل.

هذه الهوة غير الهينة بين ما يضمره الطبيب في جوفه، وبين ما يُظهِره من ردات فعل؛ كفيلة بأن تحيل دماغه لوضع حرج تتدهور فيه صحته العقلية، فهو شخصية ضعيفة تخشى المواجهة، وتُسقِط كل غضبها وحقدها على نفسها غير الواثقة الشاعرة بالدونية، فبالتالي هي أضعف من أن تتحمل منظومتها العقلية كل هذه الفوضى الفكرية والشعورية.

البطلة وهي مذهولة من تغير شكل أولادها وتحولهم في العمر

 

زوجة الطبيب الحسناء.. مظهر مثير وعظام هشة

زوجة الطبيب نفسها مصابة بمشكلة عضوية مزمنة، يُجبَر فيها جسدها الجميل على الافتقار إلى الكالسيوم، فهي مشكلة غير ملحوظة ظاهريا، وليس لها أي تجسيد مادي يُرى على الجسم، بل بالعكس جسدها على الدوام يبدو متألقا ومثيرا للإعجاب، وهذا هو حال تكوينها النفسي بالضبط، فهي امرأة جذابة واثقة من الخارج، لكنها هشة متزعزعة من الداخل، تعتمد على جمالها لكي تشعر بأنها موجودة، لا تملك سببا غيره يقنعها بالتميز، فهي خائفة مرتعدة بينها وبين ذاتها.

وبينما تبدو هيئتها في أفضل حال، وكذلك عظامها التي يُهَيَأ لك أنها صامدة، فإنها في الواقع قابلة للانهيار بشكل مُرَوِّع كما سنشاهد لاحقا، حينما تبدأ آثار التسارع الزمني التي يعكسها الشاطئ على كل أفراد المجموعة الموجودة عليه.

الأبطال مندهوشون من تحلل جسد السيدة التي لم يمر على موتها ساعة

 

وحدة الشاطئ وهواجس الاحتضار.. رمزية التقدم في السن

ليس ثمة ضرورة بخصوص معرفة الخلفية النفسية لمرض الشخصين الباقيين (السيدة المصابة بالصرع والمطرب المصاب بخلل في الدم)، فالنماذج السابقة كانت كفيلة بأن تُفهِنا بما فيه الكفاية أن كل أفراد المجموعة أصبحوا عالقين مع هذا الشاطئ في مسألة تخص مواجهة المخاوف والهواجس التي تملأهم منذ أمد، على الرغم من أن تلك المسألة تبدو بالنظرة الأقرب مسألة الزمن الذي يسرقه هذا الشاطئ من أعمارهم، مما سيؤدي إلى موتهم خلال يومين على الأكثر. لكن لا، فالمعركة الحقيقية بينهم وبين هذا الشاطئ تدور حول وضعهم في نطاق واحد أمام نقاط هزيمتهم وأزماتهم الكامنة.

حتى المرأة الطيبة صاحبة داء الصرع التي كانت مسألة التقدم في العمر ذاتها هي هاجسها الوحيد الذي تعرفنا عليه، فنراها قبل موتها مباشرة تأتي على ذكر رغبتها في النجاة من هذا الشاطئ، لتعود إلى أختها التي طالما ظنت أن سنها الكبير هو العائق الذي كان يقف بينهما، فيحد من تواصلهما ويجعلهما دوما على خلاف، فهذه امرأة عاشت وهي تقاطع أختها لظنها بأنها كبيرة في السن بما يكفي ليعيق مسار العلاقة بينهما.

يمكنك ببساطة أن تخمّن الأثر الحقيقي لتلك القطيعة على منظومتها النفسية، وبالتالي ما الذي يمثله الكِبر في السن كرمزية ملخصة لشكل معاناتها التي من الممكن أنها لم تكن تعلم عن حقيقتها شيئا قبل أن تأتي لهذا الشاطئ المروّع، ثم إنها تفقد عليه زوجها، وتصبح من بعده وحيدة لكي ترى المناطق المظلمة المتوارية عنها في داخلها.

فقدان السيطرة في سبيل النجاة.. حصار الجانب المظلم

احتُبس كل فرد مع جانبه المظلم، لكنه في واقع الأمر كان يختبر طبيعة هذا الظلام، فقد اختبر حقيقته ومدى تدهوره وتمكنه منه، ما إن كان ظلاما شيطانيا لا رجعة فيه، أو كان ظلاما مترددا ما زال يملك خيار التحول وتصحيح المسار.

حينما علق الجرّاح وزوجته داخل هذا الشاطئ تماديا أكثر في جانبهما الموحش، فساءت أحوال أمراضهما، وانتهت لمصير يكشف عن فقدانهما السيطرة الكاملة على شياطينهما الداخلية التي أُطلق سراحها في النهاية بشكل مخيف وصل لأوج فجاعته.

أما ذلك الرجل الطيب زوج المرأة المصابة بالصرع، فقد لقي حتفه وهو يحاول النجاة، يحاول بصدق أن ينقذ الجميع، تماما مثلما كان يفعل منذ اللحظة الأولى التي وطأ فيها هو وزوجته أرض الشاطئ، فأبدى كل منهما روحا تعاونية نقية وصادقة.

 

سيدة الصرع.. نهاية المريضة الوحيدة التي استجابت للتجربة

تلك الزوجة التي ماتت هي الأخرى بينما تتشبث بأعواد الإسفنج لتلحق بمحاولة زوجها، وتعترف من تلقاء ذاتها برغبتها في تصحيح خطأ علاقتها مع أختها، والإبقاء على رغبة العودة من أجلها. هذه المرأة التي كانت تعاني الصرع هي الوحيدة التي أفلحت معها جرعات الدواء التي أعطاها لها حفنة من العلماء الذين يرسلون الدفعات من الناس على هذا الشاطئ بغرض التجارب.

فبدلا من أن يجربوا عقارا دوائيا لمدة سنوات ويخسرون الوقت والأموال، فقد أبقوا على مسألة اكتشاف وجود شاطئ مماثل سرا، وبدأوا استغلاله في التجارب الطبية على أصحاب الأمراض العضوية، وأرسلوا عددا منهم إلى هناك بعدما كانوا يدسون لهم الجرعات الدوائية في مشروبات استقبالهم الفندقية، أو على موائد الإفطار وما إلى ذلك، وقد سبق أن قدموا تلك الجرعات لأفراد المرضى الموجودين بين المجموعة التي نراها تمر بكل أحداث الفيلم على الشاطئ.

لكن الوحيدة التي استجابت للعلاج كانت تلك السيدة الطيبة، فعلى الرغم من كونها تملك معاناتها الخاصة، إلا أنها معاناة تشبهها، لم تستحل لسواد كامل، معاناة لم تستول عليها وتلوث روحها الودودة المُحِبة، تماما كزوجها الذي مات في سلام، مات قبل أن يهزمه الزمن على الشاطئ، أو يعثر فيه على نقطة عميقة غير مأهولة يروعه من خلالها.

استئصال الورم.. فوضى الزمن تعجل بمواجهة الظلام

أما الورم الذي كان بداخل معدة البطلة، فقد شُفيت منه أيضا، لكن بشكل آخر، فحصارها داخل هذا الشاطئ أدى لتضخم الورم بشكل ملحوظ (مواجهة الجانب الظلامي التي كانت لا بد أن تحدث منذ وقت)، مما دفع جميع أفراد المجموعة إلى اتخاذ قرار سريع بضرورة استئصاله، معتمدين بذلك على خبرة الجراح.

لتستفيق البطلة بعدها بعافيتها دون تهديد بورم كامن في معدتها بعد الآن، فنجدها تخلصت مع الورم من كل ارتباكاتها حيال زوجها، لتستقيم العلاقة بينهما، وكأن شيئا ما مثّل كتلة ورم مِعدية كان يعوق مجراها، لكنها في قوامها سلسة منسابة وأصيلة، فيقضيان بقية يومهما على الشاطئ وهما يكبران سويا في كل دقيقة، ويمران بأعراض تقدم السن من ضعف النظر والسمع حتى يشيخا معا، ثم يموتان في سلام وحب وانتماء.

 

“سأتزوجها وأجعلها سعيدة، ولن نتشاجر”.. ظلال الكبار على الصغار

هذا التحول في علاقة الزوجين أدى لتحول آخر مر به طفلاهما، فبعدما كانا صغيرين على وشك اختبار تجربة حياتية صعبة مثل انفصال والديهما، وهي تجربة ستنزع منهما رغما عنهما براءتهما ونقاءهما وسمة الطفولة في روحهما وأعمارهما، أصبحا أخوين قضيا سنوات طفولتهما وقدر غير هين من شبابهما في كنف أب وأم أحبا بعضهما حتى أتاهما الموت في موعد واحد.

ذلك التحول عالج آثارا كانت قد بدأت بالفعل تظهر عليهما نتيجة لتدهور علاقة والديهما، ويمكنك أن تلاحظ الحوار الدائر بين الدمى التي كان يلعب بها الصغير من شجار وتكرار لعبارات يتقاذفها والده ووالدته، ويظل الأثر ممتدا حتى بعد أن يغادر الفتى طور الطفولة على الشاطئ، ويدخل طور المراهقة، فنسمعه يصرخ حينما يتفاجأ بكونه مسؤولا عن حمل الفتاة التي كان يلعب معها منذ ساعات وهما مجرد طفلين، قبل أن يعبث الشاطئ بعمريهما، فيقول وهو مفزوع يبكي “سأتزوجها وأجعلها سعيدة، ولن نتشاجر”، وكأن مفهوم الزواج بات مرتبطا عنده بالشجار والحزن.

 

رسالة صديق الطفولة في الفندق.. إلهام القصر الرملي

لم يكن ابن البطل قد لمس التحسن الذي طرأ على علاقة والديه، لم يكن رآهما وهما يحتضران بفرق دقائق ويهمسان لبعضهما قبلها بحب، أما بعد معايشته لحالتهما تلك، فقد بات هو وأخته رغما عن أنف معادلة الزمن المختلة على الشاطئ أطفالا في أجساد ناضجة لرجل وامرأة.

فقد بقيا وحدهما بعدما فارقهما الجميع، وأصبحا مسؤولين عن استمرار المحاولة في النجاة، لكن ظلا رغم ذلك محتفظين بطفولتهما وجنوحهما لأخذ الأمور ببساطة، فنجدهما يتفقان على معاودة محاولات النجاة لكن بعد بناء قصر رملي، وهذا القصر الرملي يستدعي في ذاكرة أحدهما تلك الرسالة التي قد استلمها من صديق طفل كان يعرفه بالفندق، وقد أهملها بعدما وصلوا إلى الشاطئ بسبب تتابع الأحداث المذهلة التي استحوذت على تركيز الجميع.

تلك الرسالة كانت وسيلة النجاة، أما دافع النجاة الحقيقي فتمثل في قيمة نقاوة وتلقائية وبساطة الطفولة ذاتها، فمواجهة ظلامنا لا تعني بالضرورة أننا سنُهزَم، لكنها تعني احتمالين لا ثالث لهما، إما أن يكتشف أحدهم أنه موغل بقدمه في وحل السواد بداخله، فلا يسعه إلا أن يتقبل هول غرقه، أو على العكس يجد طريقا مختصرا للخلاص، ينتهي فيه من كل أشباحه القديمة التي كانت تأكل روحه، ومن بعدها جسده.

“كارا”.. هزيمة ضد الشاطئ وضد الذات

لم تكن ابنة الطبيب من المنتصرين في مواجهتها مع الشاطئ، حتى وإن لم تكن تعدت مرحلة طفولتها قبل مجيئها إليه، لأنها تشربت بكيانها المحدود غير الواعي تلك السموم التي تبثها حولها روح والدتها ووالدها، كل منهما على حدة، أو فيما يخص علاقتهما، كما يمكننا على الشاطئ أن نلاحظ كم كانت وحيدة بينهما، يسألها أبوها وهو بصدد عملية توليدها: “كارا”، أليس كذلك؟

يتأكد من أن “كارا” هو اسمها نتيجة لتدهور حالته الدماغية، هذا فضلا عن تصرف أمها الجبان حينما تخلت عنها بينما كانت تعاني آلام الولادة، وهرعت لتحاول الهرب من طريق الصخور رغم معرفتها بأنه لم يعد صالحا للعودة.

مخرج فيلم “كِبر” “نايت شيامالان” الذي اعتمد على تقنيات التصوير وألاعيب الإخراج بشكل رئيسي في فيلمه

 

“نايت شيامالان”.. ألاعيب الإخراج وتقنيات الكاميرا

لم يقف إبداع المخرج “نايت شيامالان” عند التفهم التام لما ترمي إليه الرواية المقتبس عنها الفيلم، لكنه نجح في خلق بيئته النفسية الخاصة بين سطور أحداث الرواية، ثم جسدها بصريا بشكل متعدد الطبقات يخدم أكثر من غرض.

يمكننا القول إن فيلم “كبر” من الأفلام التي اعتمد فيها “نايت شيامالان” على تقنيات التصوير بشكل رئيسي، فمنذ بداية الفيلم نراه وقد اختار أن يتكلم من خلال الكاميرا، ويمكنك أن تلاحظ حركة الكاميرا غير المألوفة حينما كانت تتبع لعبة الأطفال في الأوقات الأولى من وصولهما للشاطئ، حيث كانت تتجمد على كل واحد منهم بعد مرات من تأرجحها الطائر خلف ركضهم، في إيحاء غريب بأن ثمة شيئا سيترصدهم هم بعينهم أكثر من الكبار، في نبوءة خفية لتلك التغيرات الجسيمة التي ستلحق بهم حينما يتقدمون في العمر بعد ساعات، فيتغيرون كليا حجما وشعورا، كمّا وكيفا، بشكل لا يقارن مع أهاليهم.

“شيامالان” المبدع في صناعة القلق استخدم تقنية بصرية أخرى ليرسي أساسات موجة التوتر التي ستحدث، حينما يتكشف الجميع حقيقة ما يحدث على الشاطئ، فنرى الأطفال بعد أن مروا بالتغيير الأول في حجم أجسادهم، يظهرون في كادر شديد الغموض وهم يتحدثون مع بعضهم، فيسعنا سماع أصواتهم لكننا لا نرى وجوههم، بل نشاهد أجزاء معينة من أجسادهم تشي بطريقة مريبة لتغير ما طرأ عليها، لكنها لا تبرزه بشكل واضح، كما أن طريقة ترتيب وقوف الأطفال في هذه الوضعية الغريبة داخل الكادر كان جماليا للغاية، ولا يقف عند كونه مريبا فقط.

أبناء أبطال الفيلم يواجهان هجوم زوجة الجرّاح خلال مطاردتهما في الكهف المظلم

 

كشف سر الشاطئ.. إبداع تقنيات الصوت والصورة

تبدأ ملحمة تكشف حقيقة الشاطئ شيئا فشيئا، فنرى “شيامالان” يُمعِن في توظيف طرق ملفتة في حركة الكاميرا، بداية من التقنية المُدوّخة التي استخدمها في مشهد قتل الطبيب للمطرب، أو مشهد الولادة، فمثلت هذه الطريقة في التصوير رعبا إضافيا أضفى على طبيعة الأحداث التي تبدو معتادة مهابة من نوع خاص، لنتفاعل معها وكأنها فريدة من نوعها.

هذا فضلا عن استخدامه الكاميرا لتوضيح عدد من المعاني من دون كلمات، فبدلا من أن تقول بطلته إنها لم تعد تسمع بإحدى أذنيها، عشنا معها تجربة اكتشافها لتلك الحقيقة حينما كانت تغير جهة وقوفها ناحية الأصوات، فتتحرك الكاميرا وكأنها جزء من جسدها، وعندها كنا نسمع الفارق في تلقيها للأصوات ما بين أذنها السليمة والأخرى التي ما عادت تعمل، فهنا يوظف “شيامالان” الصوت أيضا لخدمة الإخبار بالحدث.

هناك استخدام آخر للصوت والصورة نجده ببراعة في مشهد القطع المتوازي بين هجوم الجراح على البطل أمام البحر، وبين هجوم زوجته على أبناء البطلين داخل الكهف، حيث استَبَقت همهمة الجراح المخيفة صورة زحفه تجاه البطل الذي لم يعد يرى جيدا، مما زاد إحساس الفزع، حيث كنا نستمع بأذن البطل لهذا الصوت، بينما نرى بعينيه كيانا مطموس المعالم يتقدم نحوه.

وفي الجهة الأخرى يقابل الأبناء في ظلمة الكهف مطاردة زوجة الجراح لهما، دون أن يستطيعا تمييز الهيئة التي باتت عليها بعدما تطور مرض نقص الكالسيوم في عظامها، هذا التخيل البصري بلغ غاية كماله حينما انتهى المشهد بموت الجراح وزوجته، وقد تجسدت لهما هوية بصرية بشعة تلائمهما من الداخل تماما.