“النمر الأبيض”.. هندي فقير يتخذ رقاب الأثرياء جسرا للنجاح
قيس قاسم
قصة نجاح شاب هندي مُعدم ينتقل من طبقة الفقراء إلى طبقة الأغنياء بفضل موهبته وذكائه؛ يمكنها أن تأخذ طريقها بسهولة إلى بوليود، وبإضافة عناصر تشويق أخرى إليها (غناء جميل ورقص باهر، إلى جانب قصص جانبية درامية مُبكية) يضمن منتجوها تحويلها إلى فيلم سينمائي يحقق مردودا ماليا ونجاحا جماهيرا، ما دام يغذي أوهام ملايين من الحالمين بعيش حياة أخرى غير حياتهم البائسة المرهونة بأعراف اجتماعية هندية وأوضاع اقتصادية تعزز الفوارق الطبقية، وتعدم تقريبا إمكانية تحقيق نجاحات فردية خارج إطارها المتوارث والمكرس في الواقع.
يقبل المخرج الهندي “رامين باهراني” الخوض في مغامرة مثل تلك، بضمانة نصها المنقول عن رواية تحمل نفس عنوان الفيلم “النمر الأبيض” (The White Tiger) كتبها “أرافيند أديجا”، ومنذ صدورها عام 2008 وهي تحقق أرقاما قياسية في حجم مبيعاتها. وبتولي منصة نتفليكس مسؤولية إنتاجها يضمن أيضا اشتغالا تقنيا مريحا، يعزز فرص نقل الرواية إلى السينما وفق رؤيته الخاصة للمجتمع الهندي، ارتباطا بالتحولات العميقة الجارية في بنيته الاجتماعية والأخلاقية.
“قفص الدجاج”.. طموحات الثورة على سيطرة البِيض
قصة “النمر الأبيض” يسردها بصوته بطل الفيلم “بالرام” الذي يظهر في المشاهد الأولى كرجل أعمال غني، حيث يكتب في عام 2010 رسالة ترحيبية إلى رئيس وزراء الصين وقتها “وين جياباو” عبر الإنترنت بمناسبة زيارته الرسمية إلى الهند، ويطلب فيها مقابلته شخصيا، لكنه يضيف إليها عبارات تكشف عن رغبته ومعه ملايين الهنود الفقراء الطامحين للانعتاق من قيود تمنع تحقيق أحلامهم في أن يصبحوا رجال أعمال ناجحين.
يصف حالهم بأنهم مثل “دجاج محبوس في أقفاص، حظيرة تربية دواجن”. ففي كلامه تلميح لمتغير كوني يتمثل بالتجربة الصينية، وإشارة إلى قرب نهاية عصر سيطر عليه البِيض طويلا، وآن الأوان لتغييره، مثلما يطمح ملايين من أبناء الطبقات الهندية الدنيا بالخروج من “قفص الدجاج” الذي وضعوا فيه، ولا يسمح لهم بالخروج منه.
حرمان الطفل الذكي من الدراسة.. ظروف القرية
كيف وصل الشاب الفقير إلى موقعه الجديد، وتجاوز طبقته؟
تلك الأحداث يسردها البطل بنفسه، ويأخذ المشاهد معه في رحلة تشهد تحولات وانقلابات شخصية، وتصل أحيانا إلى نهايات تراجيدية، لكنها لا تخلو أبدا من محمولات فكرية ورؤية نقدية للواقع الهندي، والأثمان الأخلاقية التي ينبغي دفعها أحيانا للراغب في كسر قوانينها.
يعود “بالرام” بالمُشاهد إلى طفولته في قرية لاكسمانغر، حيث كان طفلا ذكيا ومثابرا في مدرسته، وفي إحدى الزيارات التفتيشية يكتشف المفتش ذكاء الطفل وتميزه عن بقية أقرانه، ويطلق عليه لقب “النمر الأبيض”، في إشارة لندرته وخروجه عن المألوف. يمنحه المفتش فرصة إكمال تعليمه في العاصمة نيودلهي، لكن قسوة الواقع وظروف العائلة الصعبة تمنعه من ذلك.
وبسبب موت والده بمرض السل تجبره جَدته على ترك دراسته والعمل في مقهى لبيع الشاي، مما يعني أن الصبي الذكي لن يعود إلى مقاعد الدراسة أبدا.
بائع الشاي.. بحث عن ثغرة في عائلة لا ترحم
ينتقل الفيلم سريعا من الطفولة إلى مرحلة النضج والشباب، مشفوعا بنص سلس وممتع، لا يتجاهل العوامل المؤثرة فيه.
عائلة “ستوك” الغنية المستغلة للفلاحين والفقراء تملك القرية بأكلها، وتجبر من يقترضون منهم أموالا بسيطة على دفع ضرائب عالية عليها، ومن يتأخر عن تسديدها في مواعيدها يتعرض للضرب المبرح، فأفراد عائلة “ستوك” متعجرفون قساة، يعاملون الناس بازدراء ويحطون من شأنهم.
ثمة استثناء بينهم يلتقطه الصبي حال مقابلته لـ”آشوك” (الممثل رايكومار راو) ابن مالك القرية العائد لتوه من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن قضى فيها سنوات طويلة درس خلالها وتعلم، وقد أحسّ بائع الشاي باختلافه عن بقية لا ترحم، وقرر الوصول إليه عبر حاجته لسائق خاص.
غسل الأقدام.. وظائف السائق داخل قلاع الأثرياء
اتخذ الفيلم من حاجة “آشوك” إلى سائق ممرا سرديا يدخل “النمر الأبيض” منه إلى عالم أثرياء الهند، ويلازم رحلة الشاب الفقير داخله، من دون التخلي عن تميزه كفيلم يعرض مشهدا واسعا من الحياة الهندية المعاصرة، مقرونا بفضح وكشف ما فيها من صراعات طبقية وفوارق عرقية يصعب تجاوز جدرانها العالية.
يقرر الشاب تسلق جدران قلاع الأغنياء عبر الوصول إلى بواباتها، وطلب العمل سائقا عند عائلة “ستوك”، مدعيا خبرة كاذبة ومهارة لا تتجاوز تعلمه القيادة في دورة قصيرة يستلف أجورها من جَدته التي ألزمته باسترجاعها فور حصوله على عمل.
يكتشف “بالرام” أن السائق عندهم لا تتجاوز وظيفته عمل الخادم، فإلى جانب قيادة السيارة عليه القيام بكل أعمال التنظيف، وحتى غسل أقدام صاحب القصر. وفي داخل تلك الأسوار أدرك حجمه الحقيقي كفقير معدم قيمته الحقيقة كإنسان لا تساوي شيئا عند أصحابه.
يتكرر في المشهد الداخلي الاستثناء القليل المتمثل بالشاب “آشوك” وزوجته “بينكي” (الممثلة بريانكا تشوبرا جوناس) القادمة إلى الهند من أمريكا التي ولدت فيها، لكن تعاملهما اللطيف مع السائق “بالرام” يُقابل دوما باعتراضات بقية أسرة تريد تكريس الفوارق، ولا تقبل باختراق قواعدها.
فضح السائق المسلم.. منافس لئيم داخل القصر
طموح “الخادم” الجديد للخروج من “قفص الدجاج” يقنع صاحبه بصحة سلوكه، ففي تزلفه لأسياده لا يجد حرجا ولا يتوقف كثيرا عند أي سلوك مشين يؤذي به إنسانا آخر ما دام يحقق له ما يريد. يتحصن النص السينمائي المكتوب برشاقة وعمق بتجربته مع سائق مسلم عمل عند العائلة الغنية طيلة عشرين عاما، والآن أضحى مهددا عمله بسبب منافس لئيم.
مراقبة الشاب للمحيطين به وحذره الشديد أوصله إلى حقيقة ذاك السائق الذي لاحظ تغيبه عن المشاركة في وجبات طعام الخدم، فبدأ في ملاحقته خارج القصر، ليكتشف أنه يدخل جامعا للمسلمين، وأنه لا يشاركهم الطعام بسبب صومه شهر رمضان.
في اللحظة التي يطلب فيها الزوجان من السائق الأقدم نقلهم إلى نيودلهي في مهمة لها علاقة بمصالح العائلة؛ يُقَدم “بالرام” نفسه كسائق بديل، فتهديداته بكشف حقيقة ديانته أخافت السائق الأول، فقرر ترك المكان، لمعرفته بمدى كراهية أصحاب القصر للمسلمين.
الحقيبة الحمراء.. تذكرة الانتقال إلى العاصمة الفاسدة
قصة السائق المسلم مثل بقية القصص الجانبية الأخرى التي يستعين بها السيناريو لكشف علامات التمزق والانقسام الحاصلة في المجتمع الهندي، وتكشف رحلة الزوجين إلى العاصمة المزيد من كل ذلك، فيغتني بسببها النص ويتعمق.
مع الوقت تتكشف أبعاد زيارتهما إلى العاصمة، حيث يريد الزوجان الانتقال إليها والشروع بإقامة مشاريع تجارية فيها لصالحهما، ومن أجل إقناع العائلة الرافضة الفكرة، تطوّع الابن لترتيب عمليات دفع رشوة مالية لشخصيات سياسية ومتنفذة في البلاد، وذلك من أجل إعفاء عائلته من دفع الضرائب المفروضة على أرباحها ومداخيلها الكبيرة.
يراقب السائق حركة الحقيبة الحمراء، ويشعر بمرارة سلوك الزوجين معه حين تعرضت سيارتهما لحادث سير، فقد أخذت منه الزوجة مقود السيارة لتقودها برعونة تحت تأثير المُسكِرات، وفجأة تصطدم بطفل كان يعبر الطريق ليلا، لكنهم تركوه ميتا من دون تقديم أي مساعدة له، ولم يبلغوا عن جريمتهم.
توقيع وثيقة الإدانة.. صدمة كشف الازدواجية
بسكوت “بالرام” على قتل الزوجة للطفل يتشارك معها الجريمة، لكنه لم يكن يدرك خطورة الوضع الذي سيواجهه إثرها، إذ يجبره أسياده على توقيع وثيقة يقر فيها بأنه هو من كان يقود السيارة بنفسه لحظة دهس الطفل، وبالتالي فهو الوحيد الذي يتحمل تبعات فعلته.
قبول الزوجة بما يصنعون ينسف استثناء تصور السائق عنها من قبل، إذ يكشف عن ازدواجية أخلاقية لا تختلف كثيرا عن ازدواجية زوجها التي تتضح بجلاء لحظة إعلانها تركها له والرحيل إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
يتحول ذلك الشاب الرقيق إلى كائن فظ يعامل الخادم تماما كما يعامله أهله، لا فرق بينه وبينهم عند الوصول إلى النقطة الحاسمة الكاشفة عن دواخل عميقة تربى أصحاب الثروة عليها، وغذوا قيمها النفعية لأولادهم.
يقلب الوضع الجديد أحوال “بالرام”، ويقرر أن خدمة أسياده لن توصله إلى نهاية مرجوة، ولا تحقق له حلمه، فيقرر الانتقام منهم بخطوات مدروسة يتصاعد معها التوتر الدرامي للفيلم.
بائع الشاي.. من فقير إلى قاتل مطلوب للعدالة
للوصول إلى مبتغاه يلعب “بالرام” بذكاء دور الراعي لسيده بعد ترك زوجته له وحيدا ممزقا، حيث أخذ يكذب عليه ويسرق من ماله، يبيع وقود السيارة ويستخدمها لأغراض شخصية.
على خط الأحداث وللتخفيف منها يدخل عنصر جديد على مسار الحكاية يتمثل بإرسال جَدته أخاه الصغير إليه ليعلمه قيادة السيارة، ويصبح مثله سائقا، وتنقل عبره خطتها الطموحة لتزويجه من إحدى فتيات القرية.
مشاهد تخفف وتمهد في آن واحد لوصول أحداث الفيلم إلى ذروتها. وفي طريقه لتوصيل حقيبة الرشاوى الحمراء، يُقرر السائق سرقتها وقتل صاحبها، فيطعنه بعنق قنينة مكسورة ويرميه ميتا على قارعة الطريق.
لقد تحول بائع الشاي الفقير إلى قاتل مطلوب للعدالة.
حرق إعلان الشرطة.. نقد عميق لواقع أجهزة السلطة الهندية
لن ينهي “باهراني” فيلمه بلافتة فضفاضة عنوانها “الجريمة والعقاب”، لأنه يدرك أن الفساد الهندي السلطوي المستشري في جسم السلطة يمكنه تبرئة القتيل من جريمته.
ذلك ما تكشفه المشاهد الأخيرة من رحلة الشاب الفقير في عالم الثراء، حيث يظهر فيها كصاحب شركة لتأجير السيارات أسسها بالمال المنهوب، يعامل موظفيه بطيب ويخصص جزءا من أمواله لرشوة كبار ضباط الشرطة للكف عن مطاردته. ينجح في كل ذلك برفقة أخيه الصغير الذي أضحى شاهدا على قصة نجاح بُنيت على خراب وفساد.
يظهر في الفيلم مشهد حرقه إعلان شرطة تطلب فيه من المواطنين تبليغ السلطات عنه. لقد تغيّرت هيئة الشاب وحتى اسمه، فالآن هو رجل الأعمال الثري “بالرام هالواي”، وهذا هو اسمه التجاري الجديد الذي خاطب به رئيس وزراء الصين عبر الإنترنت.
أما اسم الممثل الذي لعب الدورين (بائع الشاي وصاحب الشركة) فيبقى هو نفسه (الممثل أدراش غوراف) الذي حمل على كتفيه أثقال فيلم أكثر من جيد، جمع بين الاشتغال الفني البارع والرؤية الفكرية الثاقبة.