سينما الهروب.. حين ترسم الكاميرا ثورة الإنسان على أغلاله

عدنان حسين أحمد

تنطوي فكرة الهروب من السجون والمعتقلات الحصينة على كم كبير من الإثارة والتشويق والترقّب، لأنها تقترن بالموت أو الإصابة بطلق ناري في أفضل الأحوال، فهي مثل حد السيف مرهفٌ من كلا الجانبين.

وبما أنّ الإنسان يتوق إلى الحرية دائما، ويكره الأغلال والعبودية، فلا غرابة أن يُقْدِم على خوض مغامرات من العيار الثقيل قد تودي بحياته في خاتمة المطاف، تماما كما حصل للطيارين الأسرى الذين هربوا من معسكر الاعتقال النازي وأعدم 60 منهم بدم بارد في مكان مفتوح، خلافا للمعاهدات والمواثيق الدولية.

يتناول هذا المقال النقدي أربعة أفلام روائية ذاع صيتها بين محبّي الفن السابع، وكلها تعالج فكرة الهروب من السجون التي تعد مُحكمَة ومنيعة، لكن العقل البشري غالبا ما يروِّض المستحيل، وينتصر على العقبات التي تقف حجر عثرة في طريق حريته.

أول هذه الأفلام هو “قطار منتصف الليل” (Midnight Express) للمخرج الأمريكي “ألان پاركر”، و”الهروب من پريتوريا” (Escape from Pretoria) للمخرج البريطاني “فرانسيس أنان”، و”پاپيون” (Papillon) للمخرج الدنماركي “ميكيل نوير”، وأخيرا فيلم “الهروب الكبير” (The Great Escape) للمخرج الأمريكي “جون ستورجس”، ويذكِّرنا بالعمل البطولي الذي قام به السجناء الفلسطينيون الستة في هروبهم من سجن جلبوع الإسرائيلي، بواسطة نفق حفروه على مدى أشهر لكي يتنفسوا الحرية، ويحطِّموا الأساطير الإسرائيلية الكاذبة التي صنعتها مخيّلتهم العنصرية المريضة.

 

“قطار منتصف الليل”.. أمريكي يهرب الحشيش في بلاد الشرق

يتمحور فيلم “قطار منتصف الليل” (Midnight Express) للمخرج البريطاني “آلان باركر” على فكرة الهروب من السجن، بل إن المعنى المجازي الذي اجترحه نزلاء السجن لعبارة (Midnight Express) أو “قطار منتصف الليل” هو “الهروب”، بحسب قاموسهم اللغوي المتداوَل في أقبية السجون وزنزاناتها وسراديبها.

يضبط الطالب الجامعي الأمريكي “بيلي هايس” متلبِّسا بالجُرم المشهود وهو على وشك الصعود إلى الطائرة المتجهة من مطار إسطنبول إلى مدينة نيويورك، إذ اكتشف رجال الشرطة أن جسده كان مطوّقا بأحزمة من مادة الحشيش المخدِّرة، فيزجّون به إلى سجن قديم يفتقر إلى كل الاشتراطات الصحيّة، بينما تسافر صديقته “سوزان” على متن الطائرة نفسها لتحيط أهله علما باعتقاله بعد أن بعث لها برسالة خطيّة يوضح فيها الطريقة التي دفعته لتهريب الحشيش بغية الحصول على مبالغ مادية كبيرة.

ثمة قصص فرعية كثيرة أرادها كاتب السيناريو المحترف “أوليفر ستون” والمخرج “ألان پاركر” أن تكون حاضرة في نسيج القصة السينمائية، ومن بينها طبيعة الحياة في السجون التركية، والرشاوى التي يتلقّاها الضباط والجنود الأتراك في إدارة السجون والمعتقلات التركية.

كما أنّ لقاء الشرق بالغرب الأوروبي له حصته الكبيرة، فقد آثروا أن يقدّموا الإنسان الشرقي المسلم كجلاّد، بينما ارتأؤوا أن يكون الغربي ضحية هذه المرة، يتعرّض فيها للوم والتوبيخ والتعذيب ومحاولة الاغتصاب، لكنه ينجو في اللحظة الأخيرة.

ولم ينسوا أن يقدّموا الإنسان العربي بطريقة هزلية حينما اختاروا شخصا عربيا بدينا يحمل مذياعا يتدلى من رقبته، وكأنه هزأة يثير الشفقة والسخرية في آن معا.

“بيلي هايس” المتهم بتهريب المخدرات يقدم رشوة للحارس المتوحش حميدو

 

خطط المحامي والمدعي والمتهم.. ثغرات القانون والسجن

مع أنّ تهمة “بيلي هايس” هي تهريب المخدرات التي قد تصل عقوبتها إلى السجن مدى الحياة، فإن المحامي التركي الذي يعرف الثغرات القانونية في تركيا حوّل التهمة إلى حيازة المخدرات، وكانت عقوبتها أربع سنوات وشهرين قضاها على مضض في سجن تركي موغل في القِدم، لكن المدعي العام اعترض على عقوبة الحيازة، وأصرّ على أنها عملية تهريب، وظل ينتظر نتيجة الاستئناف التي وردت أخيرا من المحكمة العليا في أنقرة، حيث وافق فيها غالبية القضاة من أصل 35 قاضيا على سجنه لمدة 30 عاما.

عندها بدأ “بيلي” يفكِّر بالهروب من السجن بأي ثمن، علما بأنّ “جيمي” قد طرح عليه هذه الفكرة أكثر من مرة، لكنها لم تلقَ استحسانا من “بيلي”، أمّا الآن وهو سجين مدى الحياة فقد وافق على الفكرة بعد نقاش طويل، إذ رفض فكرة الهروب من السطح لأنهم سيكونون هدفا سهلا لنيران الحرّاس، لكنه وافق على فكرة الهروب من السرداب اعتمادا على معلومات مهندس ألماني قال إن كل انتفاخ يفضي إلى قناة من قنوات الصرف الصحي.

وبما أنّ بناية السجن قديمة وقد مرّ عليها أكثر من ألف عام، فإن إزالة حجر البناء ستكون سهلة، لأن الإسمنت قد تفتت عبر الزمن.

في مصحّة للمجانين في السجن يلتقي “بيلي هايس” بحبيبته سوزان التي تحثه على الخروج من هذا المكان المزري

 

فشل خطة قناة الصرف الصحي.. رب ضارة نافعة

ينجح السجناء الثلاثة في فتح فجوة في الجدار تسمح لهم بالنزول، لكنهم يكتشفون على عجل أن القناة التي سلكوها كانت تفضي إلى طريق مسدود، فيعودون أدراجهم إلى زنزانة السجن التي سيكتشفها “رفقي” ويخبر الحرّاس، فيشبعون جيمي ضربا، ثم ينقلونه إلى المستشفى لمعالجة الرضوض والكدمات التي تلقاها.

أمّا “بيلي” فيُنقل إلى مصحّة للمجانين، وهناك تتشعب الأحداث باتجاهات أخرى، حيث يلتقي بحبيبته “سوزان” التي تحثه على الخروج من هذا المكان المزري والكئيب، وتزوِّده بالنقود ليرشو بها الحارس المتوحش “حميدو” الذي يأخذه إلى غرفة منعزلة في البناية ويوسعه ضربا ثم يحاول اغتصابه، لكن “بيلي” يدفعه بكل ما أوتي من قوة، ويضرب رأسه بنتوء خشبي فيسقط مغشيا عليه ثم يفارق الحياة.

يخرج “بيلي” من الغرفة مرتديا ملابس الحارس وحاملا مسدسه الشخصي، وقبل أن يُكمل نزوله من السلّم ينادي عليه أحد الحراس المناوبين، ويرمي إليه مفاتيح الباب ليخرج من قلعة السجن من دون مشقة.

تكتمل القصة في أذهان المتلقين حينما يقرؤون على الشاشة: في ليلة 4 أكتوبر عام 1972 نجح “بيلي هايس” في عبور الحدود إلى اليونان، كما نجح في الوصول إلى مطار كينيدي في أرض الوطن بعد ثلاثة أسابيع.

وسوف يكتب ويليام هايس هذه القصة الحقيقية التي استوحاها المخرج البريطاني آلان پاركر، ويحولها إلى فيلم “الهروب” الذي فاز بثلاث جوائز بافتا، وثلاث جوائز غولدن غلوب، وجائزتي أوسكار عن أفضل سيناريو وأفضل موسيقى تصويرية.

 

“الهروب من بريتوريا”.. مفاتيح خشبية تخترق أبواب السجن

لا يستغرق المخرج البريطاني “فرانسيس أنان” طويلا في التمهيد لقصته السينمائية التي يتكئ عليها فيلم “الهروب من پريتوريا” (Escape from Pretoria)، فبعد بضعة تفجيرات ينفذّها اثنان من أعضاء الحزب الوطني المحظور المناهض لسياسة الفصل العنصري التي تتبعها حكومة جنوب أفريقيا؛ يُلقى القبض على “تيموثي جينكين” و”ستيفن لي”، ويدينهما قاض غير مُحايد بتنفيذ أعمال إرهابية تستهدف زعزعة أمن البلد واستقراره، فيحكم على “جينكين” بالسجن لمدة 12 عاما، وعلى “ستيفن لي” بثماني سنوات، ويُودعان في سجن بريتوريا السياسي المُخصص للذكور البيض.

قبل الدخول من بوابة السجن، يأمر النقيب أحد حرّاسه بقراءة التعليمات الصارمة وما تتضمنه من ممنوعات كثيرة، مثل الأقلام وأجهزة الراديو والصحف والحوارات السياسية والطرود الكبيرة، وكل ما من شأنه أن يزعج حرّاس السجن وإدارته.

وبعد مرور بضعة أيام يبدأ “تيموثي” في البحث عن طريقة للهرب برفقة صديقه “ستيفن”، وسرعان ما ينضم إليهما “ليونارد” الذي تزعزعت قناعته بفكرة “سجناء الضمير”، وبدأ يبحث عن أي طريقة تقوده للخلاص الفردي، أو الذي يقتصر على مجموعة محدودة، فقد رفض “دينس غولدبيرغ” فكرة الهروب رغم أنه محكوم عليه بالسجن مدى الحياة، وذلك لمحاولته الإطاحة بسياسة الفصل العنصري في نفس محاكمة “نيلسون مانديلا” والناشط السياسي “والتر سيسولو”.

ما إن يسترخى “جينكين” على سريره بعد تعب النهار الطويل حتى بدأ ينظر إلى قفل باب الزنزانة التي يقيم فيها، وأخذ يرسم شكل تفاصيله الخارجية والداخلية، كما رسم شكل المفتاح ونتوءاته المُسنّنة، وقرّر أن يصنع مفاتيح خشبية لكل الأبواب التي يحتاج إلى فتحها حتى يصل إلى البوابة الخارجية.

“تيموثي جينيكن” و”ستيفن لي” في طريقهما إلى سجن بريتوريا السياسي المُخصص للذكور البيض بعد إدانتهما بأعمال إرهابية

 

خشب الورشة.. وسيلة الهرب المخبأة في كل أركان السجن

كان “جينكين” يحضر الخشب والغراء من الورشة، ويصنع المفاتيح الخشبية المتقنة، ويخبئها بعيدا عن أعين الحرّاس، ففي واحدة من نوبات التفتيش أسقط النقيب “شنيپل” الأغراض التي تتراكم على طاولة “جينيكن”، فانكسر المفتاح إلى قطعتين، كانت الأولى تشير تماما إلى شكل رأس المفتاح، لكن السجين أقنعه بأنها قاعدة لتثبيت صوره العائلية، ومع ذلك فإن النقيب قد شعر بحاسته الأمنية بوجود شيء مريب سيكتشفه لاحقا.

لقد جرّب “بيلي” أن يثبِّت المفتاح على ذراع المكنسة اليدوية ويفتح به الباب من نافذة الزنزانة، وقد نجح في مسعاه، لكن المفتاح سقط وكان عليه إعادته بحذر شديد كي لا يلفت انتباه الحارس الذي يتحرك على الممر البعيد والموازي له، وبمرور الأيام صار السجن كله مخبئا لمفاتيحه وعدّته وأشيائه السريّة والممنوعة.

وخلال أشهر متواصلة من العمل الدقيق صنع “جنيكين” 39 مفتاحا لـ15 بابا في السجن الكبير تفضي به إلى البوابة الرئيسية، وبعد مرور 404 أيام من السجن قرّر “بيلي” تجريب المفاتيح على كل الأبواب التي توصله للفضاء الخارجي للسجن، وحينما نجح اقترح على “دنيس غولدبيرغ” وبعض السجناء الآخرين القيام بعملية هروب جماعية، لكنهم رفضوا هذا العرض الذي لا يخلو من مجازفة كبيرة.

 

سيارة أجرة السود.. أكبر مطاردة في تاريخ جنوب أفريقيا

يبلغ التوتر ذروته حينما بدؤوا بعملية الهروب الفعلية، ونجحوا في فتح الأبواب كلها باستثناء الباب الأخير ضمن بناية السجن الداخلية، الأمر الذي دفع “دنيس” إلى تحطيم بعض المصابيح، وطلب المساعدة من الحارس المناوب كي يشاغله من جهة، ويمنح الهاربين الثلاثة فرصة تحطيم الباب الأخير بواسطة إزميل ومفكّ كبير نسبيا أتاح لهم التسلل والتملص من مراقبة الحارس الذي يتحرك على سطح البناية الداخلية.

لم تكن سيارات الأجرة بعيدة عن بوابة السجن، فاقتربوا من أحد السائقين السود فأشار لهم سريعا إلى السيارات المخصصة لذوي البشرة البيضاء، لكنهم أصرّوا عليه بعد أن قدّموا له مبلغا ماليا مغريا كي يعبر بهم الحدود إلى جوربورغ في الموزمبيق، وينتقلوا من هناك إلى تنزانيا، حتى تصبح لندن وجهتهم الأخيرة، حيث انضمّوا مجددا إلى الحركة، واستمروا في مهاجمة سياسة الفصل العنصري، وظلّوا هاربين عن وجه العدالة إلى أن صدر بحقهم عفو عام سنة 1991.

أمّا صديقهم “دنيس” فقد أُفرج عنه بعد 22 سنة، وجرى لمّ شمله مع زوجته وولديه سنة 1985، أما “دافني” صديقة “تيموثي” فقد قُبض عليها، وظلت محبوسة لمدة تسعة أيام بعد الهروب، ولم يرَها بعد حادثة التفجير أبدا.

لقد عدّ البعض عملية الهروب من پريتوريا أكبر مطاردة في تاريخ جنوب أفريقيا، كما اعتبروا نضال سجناء الضمير والكلمة هو السبب الأول الذي أفضى إلى تقويض سياسة القمع والفصل العنصري في جنوب أفريقيا، بحيث انتخب “نيلسون مانديلا” زعيم تلك الحركة رئيسا لجنوب أفريقيا سنة 1994.

 

“پاپيون”.. محاولات الهروب في مستعمرات العقاب الفرنسية

يُعيدنا فيلم “پاپيون” (Papillon) للمخرج الدنماركي “ميكيل نوير” إلى حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث يُتهم “هنري پاپيّون” بجريمة قتل لم يرتكبها رغم اعترافه بالفم الملآن بأنه لص محترف سرق في يوم واحد ما يجنيه كل القرويين في عام كامل. وقد أُودع جرّاء هذه الجريمة المُلفقة في سجن جزيرة غيّانا الفرنسية في أمريكا الجنوبية.

وبما أنّ جميع السجناء مُدانين بجرائم قتل خطيرة، فقد ارتأت الحكومة الفرنسية نقل الآلاف منهم إلى مستعمرات العقاب الفرنسية، وفي أثناء ترحيلهم على متن سفينة فرنسية في طريقها إلى جزيرة “سانت جوزيف” تعرّف على “لويس ديجا”، وهو مزوّر غريب الأطوار، واقترح عليه أن يحميه، شرط أن يؤمِّن تكاليف عملية الهروب التي خطرت في ذهنه.

لم يوافق “لويس ديجا” على فكرة الحماية، لكنه سرعان ما غيّر رأيه حينما قُتل سجين بطريقة مروّعة بعد أن عرف القاتل بأنه يخبئ قطعا ذهبية، فيعهد بمهمة الحماية إلى “پاپيون” وتسير الأمور على ما يرام لبعض الوقت، حيث يتفق مع أحد الصيادين على عملية التهريب، لكن هذا الصياد يشي به لحرّاس السجن فيُقبض عليه ويُوضع في زنزانة انفرادية لمدة عامين، ثم يكرّر محاولة الهروب مع صديقه “ديجا” وسجينين آخرَين في زورق مضعضع يسبِّب لهم الدخول في شجارات عنيفة أسفرت عن طعن أحدهم حتى الموت، وإلقاء جثته في مياه المحيط.

السجين “هنري شاريير” يلتقي بمزوّر غريب الأطوار يُدعي “لويس ديغا” الذي يقترح عليه أن يحميه، شرط أن يؤمِّن تكاليف عملية الهروب

 

من دير الراهبة إلى جزيرة الشيطان.. “إنها قصة العديد من الرجال”

رغم شدة العواصف يصل الزورق إلى دير كولومبي ترأسه راهبة مسيحية تستضيفهم في القرية، ثم تخبر عنهم الشرطة، فيُعاقَب “پاپيّون” لمدة خمس سنوات يتعرّض فيها للتجويع والعيش في زنزانة مظلمة، لكنه لم يتعاون مع سجّانيه.

وحينما يصل إلى جزيرة الشيطان (هي منطقة صخرية منعزلة في قلب المحيط) يلتقي مرة ثانية بصديقه “ديجا” الذي بدأ يعاني من نوبات الجنون، ويقترح عليه أن يهربا بواسطة طوافتين يصنعانهما من ثمار جوز الهند، علّ الأمواج تأخذهم إلى اليابسة، لكن “ديجا” يعتذر هذه المرة ويفضّل البقاء في هذه الجزيرة النائية المعزولة.

يُلقي “پاپيون” نفسه من جرف شاهق، ثم يخرج إلى سطح الماء ليستقر على الطوافة التي صنعها بنفسه، وينجح أخيرا في الوصول إلى فنزويلا، حيث يعكف على كتابة مذكراته، لكنه يريد أن ينشرها في فرنسا بناء على نصيحة زوجته، فيسأله مدير دار النشر إن كانت هذه المذكرات هي قصته حقا، فيرد عليه ببساطة شديدة “إنها قصة العديد من الرجال”، فهو لا يريد أن يغمط الآخرين حقوقهم حتى وإن كانوا من أعتى المجرمين والقتلة.

 

مذكرات “پاپيون”.. مرسوم العودة إلى فرنسا

تُعاد بعض المَشاهد البصرية المؤثرة من القصة التي امتدت سنوات طوالا حتى وصلت إلى هذه النهاية التي تنطوي على بارقة أمل في أقل تقدير.

يركز المخرج في هذا الفيلم الذي تبلغ مدته 133 دقيقة على لقطات ومَشاهِد عنيفة كالضرب والتعنيف والقتل، ولعل مَشاهد إعدامات المقصلة هي الأكثر ترويعا في هذا الفيلم وموضوعاته المتشعبة، وعند نهاية الفيلم يخبرنا المخرج بأن 80 ألف سجين أُبعِدوا إلى غيّانا الفرنسية، وغالبيتهم لم يعد إلى فرنسا أبدا.

أمّا السيرة الذاتية التي أسماها “هنري شاريير” بـ”پاپيون” (وتعني الفراشة)، فقد أصبحت من الكتب الأكثر مبيعًا على مدى 21 أسبوعا، وبيع منها 13 مليون نسخة بثلاثين لغة، وقد أصدر وزير العدل الفرنسي مرسوما يسمح فيه بعودة “شاريير” إلى فرنسا بعد أن أوجعته الغربة والنأي عن الديار.

 

“الهروب الكبير”.. خطة للهرب من جحيم المعسكرات النازية

يعتمد فيلم “الهروب الكبير” للمخرج الأمريكي “جون ستورجس” على قصة حقيقية أيضا، دوّن سطورها الكاتب الأسترالي “بول بريكهِل” الذي كان طيّارا مُقاتلا وشغوفا بكتابة القصص والروايات التي وقعت أحداثها خلال الحرب العالمية الثانية.

تدور قصة “الهروب الكبير” حول مجموعة من الضباط التابعين لدول التحالف وقعوا أسرى بيد القوات النازية التي أفردت لهم سجنا خاصا بالطيارين يُدعى “سجن شتالاغ لُوفت 3″، لكن مخيّلة الطيارين المتقدة جدا دفعتهم لابتكار خطة للهروب من هذا المعتقل الحصين المُدجج بالأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة والحرّاس اليقظين ليل نهار، ومع ذلك فقد جرى تهريب 76 ضابطا أسيرا قبل أن يكتشف الحرّاس أمرهم، ويوقفوا زخم تدفقهم من نفق طويل يفضي إلى الغابة المجاورة لمعسكر الأسر.

تتكرر عمليات الهروب من السجون والمعتقلات المدنية أو العسكرية، وقد رأينا أفلاما عدة تعتمد قصصها على الهروب من المعسكرات النازية التي كانت تنتهك المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ولا تجد حرجا في قتل الأسرى سواء رميا بالرصاص أو شنقا حتى الموت، أو حتى زجّهم في غرف الغاز، الأمر الذي يدفعهم إلى المجازفة بالهرب، حتى وإن كان الموت قاب قوسين أو أدنى منهم، لأنهم ميتون في كل الأحوال، وربّ محاولة تصيب فينجو الهارب بجلده، ويعيش سعيدا بما بقي له من سنوات.

لا ينفكّ الرائد “فان لوجر” يذكر الأسرى بأن معتقله حصين وحراسته مشدّدة إلى أقصى الحدود، وأن الهروب منه مستحيل، وإذا ما حاول أي ضابط الهروب فإنهم سيطلقون عليه الرصاص، وذلك في إشارة تحذيرية إلى قائد السرب البريطاني “ريتشارد بارتلت” الذي حاول الهرب ذات مرة، لكن محاولته باءت بالفشل الذريع.

وحينما يأتون به إلى هذا المعتقل الحصين يجد نفسه بين مجموعة مذهلة من الضباط الأذكياء والمجازفين في الوقت نفسه، فهناك منْ يُبدع في الرصد والمراقبة، وهناك منْ يُتقن حفر الأنفاق، وهناك من يتفنن في تزوير المستندات والوثائق الرسمية، مثل الجوازات وبطاقات الأحوال الشخصية، وهناك من يبرع في تفصيل الملابس المدنية والعسكرية وخياطتها بلمسة احترافية كبيرة.

لقد جلبوا كل شيء إلى هذا المعسكر، بدءا من الكاميرا الفوتوغرافية الصغيرة، مرورا بأدوات الحفر، وانتهاء بالعربات المصنّعة الصغيرة التي تتحرك في جوف الأنفاق الثلاثة (توم وديك وهاري) التي شرعوا بحفرها، وثمة مشاغلات يقوم بها هذا الأسير أو ذاك لإزعاج الحراس، وتشتيت انتباههم بين آونة وأخرى لمواصلة الحفر، وتحقيق الأحلام التي تلتمع في أذهانهم.

ستيف ماكوين بدور “سيجويك” الذي يهرب على دراجة نارية، و يساعده أعضاء من المقاومة الفرنسية ويتبنون إيصاله إلى إسبانيا

 

ضباط الأنفاق.. عودة الطيور إلى القفص النازي

تتكئ قصة الفيلم برمتها على فكرة الهروب، وحين يكتشف الحرّاس النفق الأول ينصبُّ اهتمام ملك الأنفاق “داني فيلينسكي” على إكمال النفق الثالث فقط، وحينما ينتهي من حفر النفق في الليلة المُحددة للهرب؛ يكتشف أنه أقصر بعشرين قدما من الطول المُخطط له، والذي يصل إلى الحافة الأمامية للغابة، حيث توفر الأشجار غطاء للهاربين يحول دون رؤية الحراس لهذا العدد الكبير الذي يصل إلى 250 ضابطا من ضباط دول التحالف، ومع ذلك يهرب منهم 76 ضابطا قبل أن يكتشفهم الحراس ويثبطوا عملية الهروب.

ينتشر الضباط في مناطق مختلفة على أمل النفاذ إلى بلدان عدة، من بينها سويسرا وإسبانيا والسويد، لكن غالبيتهم يُقبض عليه، ويُعاد 12 منهم إلى المُعتقل، بينما يتعرض الباقون للقتل الجماعي في منطقة مكشوفة، ولم ينجُ منهم إلا ثلاثة ضباط، وهم “داني” و”ويلي”، إذ يسرقان زورق تجديف ويتجهان صوب ميناء ترسو فيه سفينة تجارية سويدية، حيث يتسلقان إلى متنها ويصبحان في منجى من الأخطار التي تحيط بهما، أمّا “سيجويك” فيسرق دراجة هوائية كي يصل إلى المحطة، وهناك يختبئ في القطار الذاهب إلى فرنسا، حيث يساعده أعضاء من المقاومة الفرنسية ويتبنون إيصاله إلى إسبانيا.

وعلى الرغم من طول الفيلم الذي بلغت مدته 172 دقيقة (أي قرابة الثلاث ساعات)، فإن المتلقي لا يشعر بالملل لأن الفيلم ينطوي على أحداث مشوّقة ومثيرة، سواء داخل المعتقل أو في المطاردات التي حدثت خارجه لملاحقة الهاربين الذين اختبأوا في القطارات، أو سرقوا زورقا، أو دراجة هوائية أو نارية، بل إن اثنين منهم قد سرقا طائرة حربية سقطت إثر عطل فني مجهول.

ومن الجدير بالذكر أن الفنان “ستيف ماكوين” قد حصل عن دوره في هذا الفيلم على جائزة أفضل ممثل في مهرجان موسكو السينمائي الدولي، كما رُشح المُخرج “جون ستورجس” للجائزة الكبرى للمهرجان نفسه.