“إعادة تشييد الاحتلال”.. أرشيف يكشف احتلال السوفيات الذي سحق ربيع براغ
د. أمــل الجمل
ذات يوم أُهدي المخرج التشيكي “يان سيكل” مجموعة أسطوانات لأفلام سينما 35 مم مدتها أربع ساعات، وعندما بدأ في مشاهدتها اكتشف أنها مواد فيلمية لم تُعرض من قبل، ولم يعرف أبدا مَن الذي قام بتصويرها، لكنها تُوثق سينمائيا لفترة مقاومة أهالي وطنه (تشيكوسلوفاكيا سابقا) للاحتلال السوفيتي لهم عام 1968، عقب الأشهر الثمانية الرائعة التي أُطلق عليها “ربيع براغ”.
في ذلك العام كان عمر المخرج حوالي أحد عشر عاما، ولديه بعض الذكريات عن تلك الأيام، لكن بعد أن وقعت يداه -بالصدفة- على هذا الكنز السينمائي؛ تولّدت لديه رغبة قوية أن يفهم، ليس فقط ما حدث في تلك الفترة التي أعادتهم للقمع الوحشي، لكن أيضا ما حدث خلال الخمسين عاما الماضية. ولم يكن يعرف الشخصيات التي تظهر بالمواد الأرشيفية، وأحيانا تكون هناك لقطات بدون صوت رغم وجود حوار دائر بين الشخصيات.
بدأ المخرج “يان سيكل” رحلته بسؤال الآخرين والبحث عن أفلام أرشيفية أخرى لإعادة بناء وفهم ما حدث في تلك السنوات، وهو ما سيشكل متن فيلم “إعادة تشييد الاحتلال” (Reconstruction of Occupation)، وقد شهد عرضه الجماهيري الأول ضمن قسم العروض الخاصة بمهرجان “كارلوفي فاري” السينمائي الدولي الـ55.
مواد الأرشيف.. جرح نازف ما زال يقلق الشعب
ظهر المخرج “يان سيكل” في حوار بالتليفزيون التشيكي تحدث فيه عن تلك المواد الأرشيفية التي عثر عليها، أثناء ذلك عُرضت منها لقطات تُظهر بعض الشخصيات والمواقف، ثم طلب من الجمهور الذي يستطيع التعرف على تلك الشخصيات المجهولة وكل من لديه معلومات أن يتواصل معه.
المدهش في الأمر أن كثيرا من الرجال والنساء العاديين استجابوا لندائه، لكن الأمر المثير لعلامات الاستفهام أن آخرين -لم يُفصحوا عن هويتهم- أرسلوا له أسطوانات فيلمية مهمة تُسجل مزيدا من المظاهرات والاحتجاج التشيكي القوي ضد القوات السوفياتية من زوايا مختلفة، كما تُظهر رجال الأمن التشيكوسلوفاكي وهي تردع مواطنيها بخراطيم المياه، وبإطلاق الرصاص عليهم، مما يجعلنا نتساءل لماذا بعد مرور نحو 53 عاما لا يزال البعض خائفا من الكشف عن هويته وعلاقاته بهذا الحدث التاريخي المؤلم الذي لا يزال على ما يبدو جُرحا حيّا مؤثرا عند الشعب التشيكي؟
في المقابل، هناك أناس آخرون لم يخشوا شيئا، وتحدثوا دون إخفاء هويتهم، فإضافة إلى مساهمة صُنّاع الأفلام الذين عاصروا تلك الحقبة وقاموا بتهريب أسطوانات أفلام مخبأة في قاع السيارات إلى الغرب، فإن هناك أيضا أناسا عاديين تعاونوا مع المخرج، أحدهم كان يعمل في شركة للطعام، وكان يُصوّر من الدور الأرضي قائلا: أنا صورت لأنني لم أكن أصدق، لقد كنا نعيش فترة سلمية فلماذا يقومون بإطلاق الرصاص على الناس ويقتلونهم، ويخربون حياتنا، ويدمرون مبنى الراديو.
ربيع براغ.. “الطريق التشيكوسلوفاكي إلى الاشتراكية”
تنبع أهمية فيلم “إعادة تشييد الاحتلال” من أنه لا يحكي فقط عن يومي 20-21 أغسطس/آب من ذلك العام، لكنه يُحلل بتأن ما حدث قبله وما تبعه من تحولات، خصوصا ما عُرف بـ”ربيع براغ” الذي سحقه الاحتلال السوفياتي بمساعدة بعض القوات من حلف وارسو.
ففي يناير/كانون الثاني عام 1968، وبعد أن ساءت الأحوال المعيشية وتدهورت الأوضاع الاقتصادية في تشيكوسلوفاكيا استقال الزعيم المتشـدد “أنطونين نوفوتني”، وعُين “ألكسندر دوبتشيك” رئيسا للحزب الشيوعي الذي بدأ إصلاحاته الليبرالية، إذ لم يكتف بتخفيف سياسات القمع الوحشي، بل أعلن قدرا من حرية الصحافة والتعبير، مؤكدا على أن الحزب لن يكون وصيا على المجتمع، واعدا الجماهير بالحد من سلطة الأجهزة الأمنية، وطرح برنامجا جديدا هو “الطريق التشيكوسلوفاكي إلى الاشتراكية” متضمنا حقوق السفر إلى الخارج.
ومثلما كانت القيادة السوفياتية تتخوف من تفجر الأوضاع داخل تشيكوسلوفاكيا في نهاية عهد “أنطونين”، فقد صارت في عهد “دوبتشيك” تخشى من تزايد الحريات وحركة الإصلاحات التي امتدت لنحو ثمانية أشهر بدأت تزدهر فيها أوضاع البلاد فيما عُرف بــ”ربيع براغ”، حيث استقبلت موسكو الإصلاحات في البداية بالبرود، ثم بدأت الحوارات مع “ألكسندر دوبتشيك” لتحجيم ذلك، لكنه لم يستجب، وعندما انهارت المحادثات بينهم احتجزوه لديهم، واقتحم السوفيات براغ بمدرعاتهم وبعض حلفائهم من وارسو، وأطلقوا طياراتهم فوق سماء براغ.
لم يكن الشعب التشيكي وقتها يفهم لماذا تقوم دولة صديقة بالاعتداء عليه وغزوه بين ليلة وضحاها، هكذا نجد الصور تقول ذلك بوضوح، أفراد من الشعب يقفون أمام الدبابات، يتحدثون مع قادتها، ومع الجنود يتساءلون في دهشة واستغراب.
لا شك أن فيلم “إعادة تشييد الاحتلال” كان مغامرة سينمائية، لكنه وثيقة خطيرة تتبنى مساءلة الحاضر عبر التاريخ. إن صناعته بالتأكيد كانت معركة مع الذاكرة، حيث تتحول الوجوه المجهولة إلى شهود أحياء على تلك الأيام التي أعادت تشيكوسلوفاكيا آنذاك إلى عقدين آخرين من العبودية. حتى الأجزاء الفيلمية الأرشيفية التي لا يُوجد بها صوت أحضر لها المخرج “يان سيكل” امرأة متخصصة في قراءة حركة الشفاه -من الصم والبكم- لتخبره بالحوار الدائر بين “دوبتشيك” والقادة السوفيات أثناء المحادثات عندما اعتقلوه ليرغموه على التراجع عن الإصلاحات التي أجراها.
“لم أشعر بالإهانة والإذلال في حياتي كما شعرت بها وقت الاحتلال”
يقوم المخرج وأبطاله بزيارة نفس الأماكن التي شهدت الوقائع الدامية بالمواد الأرشيفية، حيث يقوم بالقطع المونتاجي بين لقطات الاحتلال 1986 والأماكن ذاتها في الوقت الحاضر.
نسمع أحد شهود العيان بهذه الفترة يقول: لم أشعر بالإهانة والإذلال في حياتي كما شعرت بها وقت الاحتلال، فجأة تضربنا سبع طيارات، ثم يأتي طيارون وجنود يعاملوننا كما عاملوا شعبنا عام 1939.
بينما امرأة مسنة تُعلق على لقطة أرشيفية لها في طفولتها حيث تظهر فيها مع أمها وهي توقع على أحد البيانات. تقول المرأة: هذه أمي توقع، وهذه أنا.. كنا ندعم الراديو حتى لا يهدم، فالراديو ملك الدولة، والوسيط الإعلامي الوحيد الذي يتحدث للناس ويذيع الأخبار.
بالفيلم لقطات بصرية متعددة لحالات الذعر بين المواطنين نساء وأطفالا، في بيوتهم وفي الشوارع، أثناء الغزو السوفياتي والقصف الذي تعرضت له مدينتهم الجميلة براغ، بينما يتحدث آخرون عن البطالة والمواطنين الذين فقدوا وظائفهم، عن الطلاب الذين حُرموا من استكمال دراستهم، عن الخسائر في الأرواح، عن موت أحبائهم أمام أعينهم، عن الصدمة المروَّعة، عن طفلة عمرها عشر سنوات انهارت فوق أمها على الأرض من شدة الخوف الذي لازمها طويلا، عن التهديد الأمني الذي لاحقهم.
فهذه امرأة تحكي عن موت أخيها برصاص الاحتلال، وكيف كان رجال الشرطة يمنعونهم من زيارة قبره لإضاءة الشموع، وتحكي عن تفتيش رجال الأمن المفاجئ المستمر الذي كان يقلب لهم البيت رأسا على عقب. ثم إصابة أمها إثر موت أخيها بمشاكل نفسية أرغمتها على تلقي جلسات كهربائية، فأصبحت لا إنسان ولا حيوان، وأنها حاولت الانتحار عشرين مرة على مدى سنوات حتى نجحت فيه.
تحكي عن آثار تلك الوصمة التي لاحقتهم لأنهم كانوا متمردين على الاحتلال، واحتجوا على سياسات الغزو، مؤكدة أنها لم تنس ولم تُشف إلى الآن. كذلك، تُوثق اللقطات الفيلمية وضع الضحايا في الأكفان وإغلاق التوابيت ومسيرة الجنازات، بينما أحد شهود تلك الفترة يقول: تستطيع أن ترى إلى أي حد دمروا كل شيء، دمروا الدولة التي كانت قد أُعيد بناؤها من جديد.
هذا الرجل ذاته يستعيد تواريخ أخرى ذات دلالة في أوضاع بلاده، ففي عام 1945 والده لم يعد من الحرب حيث قتله الألمان، وفي عام 1960 عاد هذا الرجل من الحرب وتزوج، ثم في عام 1968 انخرط في السياسة لكنه أصيب بالإحباط.
علم ملطخ بالدماء.. رصاصة سوفياتية تنهي ثورة شاب تشيكي
على مدار خط الفيلم الزمني البالغ 100 دقيقة، نجد عددا من اللقطات الصامتة تماما، لكنها في ذات الوقت قوية جدا، لأنها مفعمة بالمقاومة وردود فعل الناس المملوءة بالحياة رغم شظايا الرصاص، مع ذلك يحاول المخرج أن يفهم خلفيات كثير من اللقطات البصرية الصامتة، مثل لقطة للعلم التشيكوسلوفاكي الملطخ بالدماء الذي يحمله اثنان من الشباب، امرأة ورجل منطلقان بالهتافات، وخلفهما مجموعة أخرى من المحتجين، لكن لماذا كان العلم ملطخا بالدماء؟
تجيبه إحدى شهود العيان الأحياء: كان يحمله شاب تشيكي يهتف ضد الاحتلال وينادي بالاستقلال، ثم فجأة سقط الشاب بدون صرخة واحدة بعد أن أصابته رصاصة السوفيات، فواصل رفاقه حمل العلم الملطخ بدمائه، وانطلقوا لاستكمال مسيرتهم في الشوارع بالهتافات الغاضبة، فانضم إليهم آخرون.
“بدل أن أعطي بيضي للسوفيات قررت أشنق نفسي برجليَّ”
سنرى لقطات للناس العادية غير المصدقة للأمر في شوارع براغ تتناقش مع جنود المحتل، يتساءلون: لماذا الغزو؟ ثم هناك لقطات تُظهر جانبا للمقاومة بالمولوتوف، وأخرى تؤكد الاحتجاج السلمي بالإضراب عن الطعام، وبالتصفيق الجماعي على عُلب القمامة، بالدق على الحديد، وعلى أبواب المحلات، بتوظيف الرسم والكتابة على الأرض والجدران بكلمات تقول “كنا وسنظل”، أو “عشرة مليون، أنت معك الدبابات، ونحن معنا الحقيقة”، أو “انتبهوا، عودوا إلى دياركم أيها القتلة”.
ترصد اللقطات الأرشيفية تعليقات شديدة في سخريتها اللاذعة مكتوبة على الجدران، من بينها “استمر في وضع العراقيل والعقبات في طريقنا إلى أن نُلقي عليك واحدة منها”. بينما علق آخر بيضة وإلى جوارها على ذات الحبل عُلقت دجاجة وهي تحمل علي صدرها لوحة كُتب عليها “بدل أن أعطي بيضي للسوفيات قررت أشنق نفسي برجليَّ”.
لكل ما سبق، لن نندهش عندما نسمع أحد المواطنين يقول بالفيلم: كان مشهدا بديعا مليئا بالمقاومة الثقافية والمقاومة الذهنية، كنت مبهورا بالأمة التشيكية وبتصرفات الناس، كانت رائعة، وكان مشهدا مذهلا، لقد كان أهم وأجمل من عام 1989.
“إنه ابني”.. بداية تحول الشعب من الثورة إلى الاستسلام
بالفيلم أيضا لقاءات يرفض بعض أطرافها أسئلة بعينها، منها:
– هل تتذكر عندما أحرق “يان بالاخ” نفسه حتى الموت؟
– فيجيب شاهد العيان: نعم، أتذكر، لكن لن أتحدث عنه.
– هل يمكن فقط أن تخبرنا لماذا لن تتحدث عنه؟
– لأني لم أفهم طريقته، ولا أفهم الطريقة الشرقية في الانتحار. لن أتحدث.
– لكن كثيرا من الجنازات الشعبية الرمزية خرجت لأجله في براغ، كما أطلقوا اسمه على كثير من الشوارع والجسور.
– كان انتحاره خسارة كبيرة، لقد جعل الناس تفقد الأمل والشعب يستسلم، كان ذلك بداية الاستسلام. لا أريد أن أتحدث.
ثم يظهر شاهد عيان آخر يقول: عندما كانت تردعنا قوات الأمن التشيكوسلوفاكية وجدت رجلا يقف إلى جواري، فجأة يُشير إلى أحد الشباب من قوات الأمن قائلا: أترى هذا الشاب الواقف هناك؟ إنه ابني.
كانت جُملة هذا الأب تقول بوضوح إن السلطات التشيكوسلوفاكية -بالتعاون أو بالخضوع للمحتل- قد نجحت في غرس الشقاق بين أبناء الشعب الواحد، بل بين أفراد الأسرة الواحدة، ومن ثم بدأ الاستسلام الحقيقي، فالأب في المقاومة ضد ابنه العسكري، كما خلقوا ميليشيات من الناس، مثلما زرعوا الجواسيس بينهم.
لذلك، لن نندهش إذا تطرق المخرج إلى زاوية التعامل والتعاون مع المحتل في شؤون الحياة اليومية، إذ يلتقي مع بعض هذه الشخصيات وشهود العيان الأحياء، فيُؤكد الرجل أنه كان مضطرا لذلك، وأنه حاليا لا يشعر بالحرج، فقد كان لديه طفلان وعائلة ينفق عليها، فإذا جاءه أحد جنود الاحتلال وطلب المساعدة أو خدمة مدفوعة الأجر، كان يقوم بها طالما أنه سيدفع، ثم يختتم الرجل حديثه قائلا: إذا كان قادتنا السياسيين قد خانونا، فكيف لا نساعد أنفسنا؟
ما سبق يشي جزئيا بكيف ولماذا تحوَّل الناس من الاحتجاج إلى الاستسلام، وكيف ساروا في طريق التكيف، لكن الأخطر والذي ينطبق على ما يحدث اليوم في كثير من المجتمعات، هو إغراق الناس في التفاصيل التافهة للحياة اليومية والانشغال بالكماليات، وخلق احتياجات زائفة، حيث نرى لاحقا صورا ولقطات باهتة لحياة بعض الأسر، متضمنة أصداء احتفالات ولحظات يومية بعيدة عن أي مقاومة، مما يشي بالأسلوب الاستهلاكي الذي استُخدم ضد أمة من أجل الاحتلال والسيطرة، لكنه أيضا يكشف من دون مواربة كيف يتلاعب السياسيون بأفراد الشعب.