“لا حركة مفاجئة”.. عودة العباءة القديمة لرجل العصابات الأنيق

أنتجت هوليود طوال مسارها المهني مئات الأفلام حول العصابات والمافيا الأمريكية، وفي معظم هذه الأعمال جرت أنسنة المجرمين، وتقديمهم بشكل أنيق ولطيف حتى خلال ارتكابهم لفعل القتل والغدر والتنكيل والتصفية، وكأنها تُمجّد أفرادها أو تغازله حتى لا يطالهم سيف انتقامهم.

فما قصة هذه الأفلام المخيفة التي تزرع الرعب بين الناس؟ ولماذا لا يتوقف المخرجون الكبار عن إخراجها؟ وكيف قدّمهم “ستيفن سودربيرغ” في فيلمه الجديد؟

ديترويت.. مؤامرة السرقة وقتل السارق

بدأت قاعات السينما الأمريكية انطلاقا من 18 يونيو/حزيران 2021 عرض الفيلم الأحدث للمخرج “ستيفن سودربيرغ” الذي اختار له عنوانا يوحي ويعكس ما فيه من دم وصوت رصاص ومشاهد قتل وابتزاز وسعي للسيطرة والتمكن، وهو فيلم “لا حركة مفاجئة” (No Sudden Move) الذي أخرجه عام 2021، وتبلغ مدته 115 دقيقة.

أما بخصوص العروض العالمية، فقد انطلقت في ألمانيا بداية من 24 يونيو/حزيران 2021، وحسب ملخص الفيلم الذي جاء في البطاقة الفنية له، فإن أحداث القصة تدور في عام 1955 في ديترويت، ويتركز حول مجموعة من المجرمين الصغار هم “كيرت غوينز” (الممثل دون تشيدل)، و”رونالد روسو” (الممثل بينيسيو ديل تورو)، و”تشارلي” (الممثل كيران كولكين)، ويجري تجنيدهم لأداء مهمة بسيطة. يهاجم الثلاثة بيت “مات ويرتز” (الممثل ديفيد هاربور)، ويحتجزون أسرته للضغط عليه للذهاب إلى مكان عمله والاستيلاء على ملف موجود في خزانة المدير “ميل فوربرت” (الممثل هيو ماجواير).

تتطور الأحداث ليكتشف “كيرت” و”روسو” أنها مؤامرة للاستيلاء على مخطوطات مهمة في مجال صناعة السيارات، وأن المؤامرة كانت تتضمن قتلهم بعد الحصول على الملف، وحين يدركان خطورة الاستسلام، وتبدأ خططهم الخاصة لبيع الملف لمن يهمه الأمر، وهو السيد “مايك لوين” (الممثل مات ديمون).

الممثلان “بينيسيو ديل تورو” و”دون تشيدل” اللذان تم تجنيدهما لأداء مهمة بسيطة في ديترويت الأمريكية عام 1955

رجال العصابات.. وجوه مهيبة وثياب أنيقة وأياد قذرة

لم يخرج “ستيفن سودربيرغ” في هذا الفيلم من العباءة القديمة المكرسة في السينما الأمريكية التي تناولت موضوع تطاحن العصابات من أجل السيطرة والنفوذ، هذا من ناحية الموضوع، أما من ناحية الشكل فتجدهم يرتدون تلك البدلات الرسمية الأنيقة والقبعات والأحذية اللّماعة، إضافة إلى اهتمامهم الكبير بمظهرهم الذي ينعكس في وجوههم الحليقة، والعطور الفاخرة التي يضعونها، ولا يتعلق الأمر هنا بفرد عصابة صغير أو قائد، بل الأناقة مفروضة على الكل، وربما يعتبرون هذا الأمر أساسيا ومهما لكل فرد عصابة محترم يفرض هيبته بشكله من جهة، أما الخوف والاحترام فيفرضونه بأفعالهم الإجرامية.

وقد حافظ المخرج على هذه السمة الأساسية وفق سياق الفيلم العام، حتى يضع الأحداث في سياق يعكسه الشرط التاريخي الذي تفرضه الفترة الزمنية التي تناولها الفيلم، وفي حالة فيلم “لا حركة مفاجئة” فإن الأمر يتعلق بفترة الخمسينيات من القرن الماضي، وقد أثّثها “ستيفن سودربيرغ” بمكوناتها الضرورية من سيارات فارهة وجديدة، إضافة إلى شكل الشوارع والعمران وطريقة اللباس، وغيرها من الإكسسوارات الأخرى التي أعطت للفيلم مصداقيته، وجعلت المشاهد يرحل بكل راحة واطمئنان لتلك العوالم التي لم يعشها.

لهذا تجده يسارع لمشاهدة الفيلم حتى يحيط بما فاته، وهنا تكمن أهمية الأفلام التاريخية في صناعة وتأثيث الخيال عن طريق إعادة الإحياء والاكتشاف، سواء في تناولهم للسير الذاتية والأحداث، أو من منطلق شكلي عام يستغل لقص حكاية جديدة من وحي الخيال.

أسرار عالم صناعة السيارات.. خيط السرد

نجد بأن “ستيفن” وفّق في رهانه على الشكل العام الذي أعطى زخما للفضاء الذي جرت فيه هذه الوقائع، أو القصة التي لها منطلق تاريخي حقيقي يتعلق باتحاد صناعة السيارات الذي تستر حول انبعاث غازات مؤذية للبيئة لم يصرح بها لدى الهيئة الصناعية والتجارية الحكومية، وهي الجزئية الهامة التي أعطت للفيلم صفة التاريخية، ومن خلالها انطلقت صياغة العمل وفقا لتراكماتها دون التركيز عليها، وإنما اتخذها المخرج كهامش للمناورة لتمرير دور العصابات.

أما الأساس أو القص الرئيسي في الفيلم فتعكسه طريقة تعامل أرباب المال والصناعات من خلال توظيفهم للعصابات للوصول إلى غايتهم المثلى للابتزاز وتغطية الحقائق، وفي حالة “لا حركة مفاجئة” فإن المحرك والمسبب ومولد الإثارة والتشويق ومُحرّك خيط السرد هو الدفتر الذي يحتوي أسرارا وتجاوزات عالم صناعة السيارات، والكل يحاول الاستحواذ عليه كي يعرفوا السر، ومن خلاله يمارسون الابتزاز لرسم عالم من النفوذ والسيطرة على الآخرين.

الممثل الأمريكي ذو الأصول الأفريقية “دون تشيدل” الذي أدى شخصية “كيرت” عضو العصابات الذي خرج حديثا من السجن

صناعة الحبكة.. تلاعب بكاريزما “دون تشيدل”

من أكثر العناصر التي يُعتمد عليها في كتابة سيناريوهات أفلام العصابات هي الحبكة، وعادة ما يتعامل معها بشكل هندسي متفرع ومتشابك، ويكون من الصعب على المتلقي أن يقبض على خيوطها بسهولة، أو حتى التنبأ بالنتائج، ويجب على المشاهد إن أراد الإحاطة الشاملة أن يقف على جميع التفاصيل، وعدم تفويت أي دقيقة من المدة الزمنية للفيلم.

هذا ما اعتمد “ستيفن سودربيرغ” في عمله رغم قلة الشخصيات والأحداث، فقد خلق نوعا من التلاعب عن طريق كاريزما الممثل الأمريكي ذي الأصول الأفريقية “دون تشيدل” الذي أدى شخصية “كيرت” عضو العصابات الذي خرج حديثا من السجن، ويريد أن ينتقل من مدينته إلى مدينة أخرى ليبدأ حياة جديدة بعيدة عن عالم الإجرام، وفي سبيل هذا يستدرج لممارسة عمل أخير يأخذ من خلاله المال، ويتوقف عن فعل هذا.

وقد أحاط المخرج بهذه الشخصية وورّط معها المتلقي من خلال مد جسر تواصل عاطفي، بعد أن أبان عن طموحه وتوبته وإنسانيته حين امتنع عن قتل عائلة، إضافة إلى أنه لم يأخذ حقيبة المال، بل تركها وأخذ مستحقاته فقط، وقد كان محقا في هذا لأن تلك الحقيبة جلبت اللعنة لكل من حملها وأخذها، لأنها في الأخير عادت لصاحبها الذي يُحرّك الخيوط، ليكون “كيرت” هو بداية الخيط السردي الهندسي، ليمتد بعدها كمتاهة في جميع الجهات انطلاقا من توليد الأحداث، وبها تولد شخصيات ومعارف جديدة تدفع الفيلم إلى الأمام، فيزيد من لذة المشاهدة والاكتشاف، لتبقى المعطيات ألغازا معلقة لا يمكن حلها إلا في نهاية الفيلم.

تأثيث عوالم الماضي.. قصص ثانوية وشخصيات معقدة

فيلم “لا حركة مفاجئة” هو عمل مشبع بعناصر الماضي وتفاصيله التي صنعت درامية الفيلم، حيث يعيد اكتشاف عوالم العصابات التي كانت تسير وتسيطر على الشوارع في الماضي، وتخضع فئة واسعة لسلطتها وهواها، وقد استطاع المخرج أن يعيد تأثيث هذه العوالم بعد أن سيّر كل عنصر بطريقة ذكية، خاصة خلال عملية اختياره الدقيق لممثلين يملكون تجارب مهمة في التمثيل، من بينهم وربما أهمهم “دون تشيدل” (الذي تحدثنا عنه أعلاه)، إضافة إلى “برندان فريزر” الذي أدى دور “دوغ جونز”، وقد زاد وزن هذا الممثل كثيرا، مما خلق تميزا في الشخصية.

كما كان للممثل “بينيسيو ديل تورو” دور مهم في هذا الفيلم، وذلك بأدائه لشخصية مركبة ومعقدة من الصعب أن يكتشف المشاهد من خلالها مدى صدقيته وزيفه في الفيلم، مما ولّد الشعور المتناقض، إضافة إلى ممثلين كبار أدوا أدوارا ثانوية، أو كان ظهورهم بمثابة الظهور الشرفي، مثل “مات ديمون” و”راي ليوتا” و”بيل ديوك”.

كما خفّف المخرج من وقع القصة الرئيسية للفيلم، وآزرها بقصص ثانوية عكستها قصص الحب والخيانة والتطلع للمستقبل، وهي التي ساندت الفيلم وحررته من الاتجاه الواحد الذي كان سيرهق المشاهد لولا وجودها.

أفلام العصابات.. تيار سينمائي ذو تاريخ طويل

يدخل المخرج “ستيفن سودربيرغ” بهذا الفيلم إلى خانة المخرجين الذين تعاطفوا وقدموا أعمالا سينمائية من منطلق موضوع العصابات، وقد بات هذا النوع تيارا سينمائيا معروفا، مثله مثل الأفلام الدرامية والخيال العلمي والتاريخية، إذ بات يُقال “أفلام العصابات” للإشارة إلى نوعية الفيلم، وكأن هذه الصفة باتت تجلب اهتمام الجمهور لهذا يجري استعمالها.

ومن بين أهم الأفلام التي تم إخراجها في هذا السياق، نجد فيلم “ذا بيغ هيت” (The Big Heat) الذي أخرجه “فريتز لانغ” عام 1953، و”الرفاق الصالحون” (GoodFellas) الذي أنتج عام 1990، و”كازينو” (Casino) الذي أنتج 1995، و”المغادرون” (The Departed) الذي أنتج عام 2006، و”الأيرلندي” (The Irishman) الذي أخرجه “مارتن سكورسيزي” عام 2019، و”يوم الجمعة الطيب الجميل الطويل” (The Long Good Friday) الذي أخرجه “جون ماكنزي” عام 1980، و”سكارفايس” (Scarface) الذي أخرجه “براين دي بالما” عام 1983، و”حدث ذات مرة في أمريكا” (Once Upon a Time in America) الذي أخرجه “سرجيو ليون”، و”حكاية من برونكس” (A Bronx Tale) الذي أخرجه “روبرت دي نيرو” عام 1993.

وأهم الأفلام التي تناولت هذا التيار بشكل دقيق هي ثلاثية “العرّاب” (The Godfather) التي أخرجها “فرنسيس فورد كوبولا”.

المخرج الكبير “ستيفن سبيلبرغ” الذي انضم إلى خانة المخرجين الذين قدموا أعمالا سينمائية عن “أفلام العصابات”

“ستيفن سبيلبرغ”.. قصة الحب المحرمة التي ينتظرها الجمهور

يحمل المستقبل كثيرا من المشاريع التي ستدعم تيار أفلام العصابات، ومن بينها الفيلم المنتظر للمخرج الكبير “ستيفن سبيلبرغ” الذي سيبدأ إطلاقه شهر ديسمبر/كانون الأول 2021.

تدور أحداث الفيلم -حسب ما جاء في ملخصه- بأنه في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث العصابات المتنافسة “أسماك القرش” و”جيتس” التي تتصارع في الشوارع. ووسط هذا الزخم تحدث علاقة عاطفية بين “توني” عضو في الجيتس، و”ماريا” وهي الأخت الصغرى لزعيم أسماك القرش “برناردو”، وفي محاولة لإخفاء علاقتهما الرومانسية؛ بدأت “ماريا” و”توني” في الاجتماع سرا غير مدركين لنتيجة هذا الحب المحرم. وسيكون هذا الفيلم من الأعمال المهمة التي تنتظرها فئة واسعة من النقاد والجمهور.


إعلان