“أريكا”.. نفايات السويد السامة تخنق تشيلي

قصة تلوث منطقة أريكا التشيلية بسموم النفايات المعدنية الخطرة القادمة من السويد، بدأت مع عرض الفيلم الوثائقي السويدي “ملعب سام” (Toxic Playground) عام 2010، الذي كشف فيه صُنّاعه ما فعلته شركة “بوليدين” العملاقة للتعدين بسكان المنطقة، وذلك عندما أرسلت إليها في أوساط الثمانينيات من القرن المنصرم أطنانا من النفايات المعدنية المُسرطِنة، للتخلص منها ودفنها في مناطق صحراوية بعيدة، بدلا من طمرها في السويد.
لم تنحصر الآثار التدميرية بالبيئة فحسب، بل تعدتها إلى انتقال السموم إلى أجساد سُكّانها، ومع الوقت أدى ذلك لإصابة الكثير منهم بأمراض سرطانية وموتهم بسببها، وقد أثيرت القضية مجددا عندما شاهد محامٍ يعمل في منظمة حقوقية تطوعية أمريكية الفيلم، وبناء على ما ورد فيه من حقائق، فقد طالب الشركة السويدية بدفع تعويضات للمتضررين من نفاياتها.
أخذت هذه الدعوة طابعا قانونيا، وانضم إليها محامون سويديون، وانعقدت جلسات محاكم من أجلها، مما دفع صانعا الوثائقي الأول “لارش إيدمان” و”وليام يوهانسون كالين” لمتابعتها وتوثيقها، وهكذا جاء فيلمهما الثاني “أريكا.. فضيحة النفايات السامة” (Arica: A Toxic Waste Scandal) في عام 2020، كتتمة للفيلم الأول، وأخذ طابع “وثائقي المحاكم”.
“لارش إيدمان”.. دماء تشيلي ومواطنة السويد
المخرجان السويديان “لارش إيدمان” و”وليم يوهانسون كالين” هما من ساكنة منطقة شلفتيو الشمالية، وهي مركز شركة “بوليدين” للتعدين، التي تُعدّ واحدة من أكبر عشر شركات من نوعها في العالم.
المخرج “لارش إيدمان” هو ذو أصل تشيلي، وقد تبنته عائلة سويدية، وكان والده يعمل كهربائيا في الشركة، ويجيد اللغتين الإسبانية والسويدية، لهذا لعب دورا أساسيا في فيلم “أريكا”، وكان نشطا في متابعة تطورات قصته المحورية بين المكانين السويد وتشيلي.

وبعد توفيره الثقة اللازمة عند كل الأطراف المتصارعة على كسب القضية؛ راح يوسع مساحة تناولها، لتشمل حياة المتضررين من التسميم السويدي لأراضيهم، وخسارة أحبة لهم بسبب أنانية شركاتها واستهتار مدرائها بحياة غيرهم من السكان.
مشهد الافتتاح.. شموع امرأة ثكلى بالمقبرة
ينقل المشهد الافتتاحي زيارة المخرج “لارش إيدمان” إلى مقبرة تقع على أطراف منطقة أريكا الصحراوية، ويقابل فيها امرأة كانت تضع باقات ورد، وتشعل شموعا عند قبر ابنتها التي ماتت بمرض السرطان.
كشف الحديث مع المرأة أن سبب الوفاة يعود إلى ارتفاع مادة “أرسنيك” السامة والمسرطنة (بالعربية: ذرات الزرنيخ) في جسدها، وما يحزنها أكثر هو تجاهل المؤسسات الصحية التشيلية طلبها بكتابة تقرير طبي يبين سبب موتها، وأيضا لرفض الأطباء القاطع لالتقاط صورة تذكارية لابنتها وهي على سرير المرض.

كلامها يزيد اهتمام صُناع الوثائقي بالبحث عن حقيقة الأسباب التي أدت إلى ظهور وانتشار حالات الإصابة بالأمراض السرطانية بين سكان أريكا، وبشكل خاص بين أطفالهم، ويدفعهما للرجوع إلى بداية القصة.
تشتيت الجريمة.. ملاعب على أنقاض النفايات السامة
من المتابعة وبعض المشاهد التي وردت في الفيلم الوثائقي الأول يتبيَّن أن شركة “بوليدين” السويدية قد شحنت بين عامي 1984-1985 أكثر من 20 ألف طن من نفايات المعادن السامة إلى تشيلي، وأنها دفعت حوالي 10 ملايين كرونة سويدية لشركة “بروميل” المحلية للتعامل معها وطمرها.
حاولت الشركة الخاصة استخراج ما بقي من المعادن الثمينة في النفايات، من خلال صهرها ثانية، وبعد ذلك قامت بشكل سريع بطمرها في منطقة مفتوحة وقريبة من مجمع سكني خُصص لإسكان فقراء المنطقة.

أصبحت تلال النفايات تلك مع الوقت ملعبا للأطفال، وكان الغبار المتطاير منها يصل إلى البيوت المحيطة بالمكب من دون علم أهلها بما تحمله من ذرات خطرة على صحتهم. خلال فترة الإعداد القانوني يستغل المخرج الشاب الوقت للاتصال بمدراء الشركة، طالبا الحصول منهم على أجوبة شافية حول القضية، لكن ذلك لم يفلح، وكل محاولته باءت بالفشل.
“رولف سفيدبيري”.. رحلة لمقابلة الضحايا
الاستثناء الوحيد في حالات الرفض الدائم تمثل في ظهور رجل اسمه “رولف سفيدبيري” قَبِل الحديث مع المخرج، وظهر خلال مقابلته أنه كان مسؤولا عن الصفقة بين الشركتين، وأنه زار المنطقة بنفسه، وعاين المكان الذي ستطمر النفايات فيه.
بسبب رفع القضية مجددا أمام المحاكم، وحاجة محامي الدفاع لمزيد من الشهادات والحقائق؛ يقنع المخرج المسؤول القديم في الشركة بالرجوع معه ثانية إلى نفس المكان الذي زاره في الثمانينيات، ومقابلة بعض سكان المنطقة المنكوبة بنفسه. يقابل عددا كبيرا من سكانها، ويتعرف على حجم الكارثة التي سببها يوم جاء ومعه النفايات إلى هذا المكان.
الحقائق المعروضة أمام عينيه تزيده إحساسا بالذنب وبتأنيب الضمير، لكنه ظل يؤكد جهله بما كانت تحمل تلك المواد من سموم.
يحضر المسؤول أثناء وجوده اجتماعا لسكان المنطقة المتضررة يديره مسؤولها المحلي، ويلخص خلاله مطالبهم بنقاط محددة، منها تعويض شركتا “بوليدين” و”بروميل” للمتضررين ماديا، ومقاضاة الدولتين السويدية والتشيلية لانتساب الشركتين لها. إلى جانب ذلك يجمع في الاجتماع شكاوى أكثر من 700 شخص، ويرسلها إلى لجنة الدفاع المكونة من سويديين وأجانب.
جيش المحامين والخبراء.. ألعاب الشركات الكبرى في المحاكم
بعد عودتهما إلى السويد يأخذ الوثائقي طابع “المحاكم”، ويظل يراقب تطوراتها خلال السنوات 2017 و2019، ومن مجرياتها يتضح حجم وقدرات الشركات الرأسمالية العملاقة على تكليف أكبر وأغلى المحاميين أجورا في العالم، وتجنيد خبراء في حقول مختلفة؛ من أجل إفشال كل قضية تُرفع ضدها.
تُكلف شركة “بوليدين” خبراء في الكيمياء للانضمام إلى محاميين دهاة، قادرين على توفير وخلق مبررات عجيبة تحرف مسار القضية المركزية عن هدفها، وتؤثر على قرارات المحكمة. الدفاع بدوره اعتمد على الحقائق المتوفرة، وطلب ضم فيلم “ملعب سام” إلى الوثائق الداعمة للمشتكين، لكونه يتسم بالموضوعية والحياد.
وسط كل ذلك كانت شهادة المدير “رولف” تتأرجح بين الطرفين، بينما تنشر وسائل الإعلام السويدية مجريات القضية التي عنونتها بـ”الفضيحة الأخلاقية”، ووجهت نقدا حادا للحكومة السويدية، واتهمتها بخرق مبادئ حقوق الإنسان والعدالة.
نسبة الزرنيخ في البول.. إشكال القوانين المحلية والتقادم
تمحور الإشكال القانوني حول أي من القانونين (السويدي أم التشيلي) ينبغي اعتماده والأخذ به في المسألة المتعلقة بتحديد نسبة مادة “أرسنيك” في اللتر الواحد من بول المريض، ووفقها يمكن مطالبة الجهة المسببة بارتفاعه في أجساد الضحايا بتعويضات مادية لهم.
يجيز القانون التشيلي مطالبة الجانب المسبب، في حالة بلوغ نسبة “ذرات الزرنيخ” المسرطنة في الجسم 19 مليلتر في الليتر الواحد من البول أو أكثر، في حين يشترط القانون السويدي ارتفاعه إلى 30 مليلتر.
أخذت المحكمة الابتدائية بالمبدأ التشيلي، لهذا ركزت إستراتيجية محامي الدفاع عن الشركة على التشكيك بالمصادر المؤثرة في ارتفاع النسب في أجسام الضحايا، وعدم حصرها بالنفايات، بل يحيلونها إلى عوامل أخرى، مثل تناول الضحايا أسماكا وبحريات فيها نسب “زرنيخ” عالية على عدة سنوات، وبالتالي فلا دليل قاطع على أن النفايات هي المصدر الوحيد المُسبب لها.

من أجل ذلك جاؤوا بخبراء كيمياء من خارج السويد ليعززوا من تلك الفرضية، ولأن القضية قد مضى عليها سنوات طويلة، فإن احتمال الإصابة بالسرطانات تتعدد وتتشعب العوامل المسببة لها، ولا يمكن للجهة المشتكية الإتيان بأدلة دامغة تثبتها.
هكذا تمكنوا من إقناع المحكمة بحججهم، وكسبوا القضية لصالحهم.
قلب الخرائط.. تزوير الجناة وصمت المسؤول
في المحكمة العليا وفي جلسات استئناف الحكم الأوّلي، يركز محامو الدفاع عن الضحايا على جمع أكبر قدر من أدلة تثبت عِلم الشركة السويدية بالنتائج التدميرية المنتظرة من المواد السامة التي أرسلوها إلى مكان آخر من العالم، ليحفظوا من شرورها المواطنين السويديين، رغم أنها نتاج عمل محلي، لا علاقة لمنطقة أريكا البعيدة به إطلاقا، وبالتالي يُعد قانونيا فعلا إجراميا متعمدا.
تأخذ المحكمة بالخط السويدي المتعلق بنسب “أرسنيك” بالبول، لهذا يندفع محامو الشركة لتغيير توصيف النفايات المرسلة من “سامة” إلى “فضلات عديمة الفائدة”، وأن طمرها قد وقع بعيدا عن المساكن، ويبرهنون على ذلك بالخرائط المتوفرة عند الشركة.

يصاب المدير السابق “رولف” بعد الاطلاع عليها بالصدمة، وينتابه إحساس عميق بأنه قد خُدع، وذلك لاختلاف ما يعرض من خرائط أمام المحكمة مع تلك التي خططها بنفسه في الموقع، وتُظهر كم كانت المكبات قريبة من المنطقة السكنية على عكس ما تظهره خرائط الشركة التي تبدو فيها بعيدة جدا عنها. خوف وحيرة “رولف” من تحميله مسؤولية كل ما حدث دفعته للصمت أمام المحكمة التي قررت تثبيت الحكم الأولي.
أرجعوا النفايات إلى أهلها.. مطالبات السكان
مرة ثانية يكسب محامو دفاع الشركة القضية، ويشعر المتضررون بخيبة أمل وإحباط كبيرين، وينتقل الإحباط إلى المخرج الذي كان على يقين من صحة ما جاء في وثائقيه الأول، وتعزز خلال زيارته الثانية للموقع في فيلمه الثاني، ويكشف فيه عن قدرة الشركات العملاقة على تحريف الحقيقة وتجاهل حقوق ضحاياها، لدرجة أن الشركة السويدية قد تمادت بعد صدور الحكم لصالحها، ونصحت ضحاياها بعدم رفع شكوى جديدة ضدها، وإلا فإنها ستطالبهم بدفع كل تكاليف القضية الحالية.
مع كل ما يوصله الفيلم من إحساس بظلم الرأسمالية، فإن عددا من المحاميين المتطوعين يصرون على متابعة القضية عبر المحاكم الدولية.
من جانبهم طالب سكان المنطقة المُسممة بالكامل، التي اضطرت الجهات الرسمية التشيلية بعد نشر الفضيحة لنقلهم إلى منطقة ثانية؛ شركة “بروميل” بإرجاع النفايات القاتلة إلى السويد، من حيث أتت.
اضطرت الجهات الرسمية التشيلية بعد نشر الفضيحة لنقل ضحايا المنطقة المسممة بالكامل إلى منطقة ثانية، ومن جانبهم طالب سكان المنطقة المسممة شركة “بروميل” بإرجاع النفايات القاتلة إلى السويد، أي من حيث أتت.