“مايا”.. رائحة الحرية تفسد صداقة الحيوان المفترس والإنسان

قيس قاسم

يوثق الفيلم البريطاني “مايا” (Maya) العلاقة العجيبة التي ربطت بين محسن المُستَخدم في حديقة حيوانات مدينة مشهد الإيرانية وبين أنثى نمر بنغالية اسمها مايا، حيث كُلف برعايتها عدة سنوات، وكانت تسمح له بالاقتراب منها والبقاء بمفرده معها داخل القفص من دون أن تؤذيه، بل إنها كانت تسمح لبعض زوّار الحديقة من الذين يطلب منهم المُستَخدم الدخول إلى القفص بأن يلعبوا معها ويأخذوا صورا تذكارية.

غرابة العلاقة جلبت أعدادا كبيرة من الزوار للحديقة ووفرت شهرة لراعيها، لكنها مرت بمنعرجات دراماتيكية يوثقها الفيلم، ومن خلالها يتطرق إلى موضوعات إشكالية تتعلق بعلاقة الإنسان بالطبيعة واختلالاتها المُتأتية من طرف الإنسان نفسه، وبسبب تماديه في استغلالها لدوافع مادية وأنانية تُلحِق أضرارا جسيمة بالحيوانات البرية المعروضة في حدائق الحيوانات في العالم، ويخل بالتوازن الطبيعي بسبب نقلها من بيئتها البرية إلى أخرى صناعية، وهو ما يؤدي مع مرور الوقت إلى تناقص أعدادها ومن بعد إلى انقراضها.

هذا ما يحاول بحثه صانعا الوثائقي “جمشيد مجدادي” و”أنسون هارتفورد” في منجزهما الجميل الذي يدخل للموضوع من خلال العلاقة المقلقة وغير المتكافئة بين محسن ومايا، بين الإنسان المتفوق والحيوان البري الأسير الذي ما إن تتاح له الفرصة للعودة إلى الطبيعة حتى يستجيب إليها غريزيا.

مُحسن ومايا.. حديث عن علاقة الإنسان بالحيوانات البرية

يترك الوثائقي في البداية الكلام (المونولوج) لمحسن، لينقل بنفسه أمام الكاميرا تفاصيل العلاقة التي جمعته مع مايا وفهمه لعلاقة الإنسان بالحيوانات البرية، ثم بعد ذلك ينتقل الكلام إلى المخرج ليوجه إليه أسئلة تتعلق بمجريات الأحداث التي تأخذ بالتصاعد تدريجيا.

 

في مفتتح الفيلم يتحدث محسن عن صداقته العجيبة والنادرة الحدوث مع النمرة، وعبرها يتطرق إلى تاريخ العلاقة بين الإنسان وبقية الكائنات منذ ظهور البسيطة، وكيف استطاع بذكائه ترويض الحيوانات لمصلحته.

يقدم محاولات تدجينه للقردة واستغلالها وسيلة للترفيه وإدخال المتعة لنفسه مثالا، فهو يدرك إذن طبيعة العلاقة بين الطرفين، لكنه لا يسحبها على نفسه، لكونه يجد في علاقته مع مايا خروجا عن السائد، وأنها مبنية على الاحترام المتبادل.

مايا.. طفولة المنزل ونضج حديقة الحيوان

يرجع مُحسن بذكرياته إلى بداية جلبه للنمرة الصغيرة إلى منزله وقيامه بتربيتها، فقد كبرت ونشأت بين أفراد عائلته، لكن بسبب ضخامة حجمها لم يعد المكان يتسع لها، فقرر نقلها إلى حديقة الحيوانات في مدينة مشهد، وهناك ظل يرعاها بنفسه لأنها لا تثق إلا به.

من خلال ذكرياته يتضح أنه كان يمارس مهنة تحنيط الحيوانات ويتاجر بها، لكنه خلال سنوات تفرغه للعمل في الحديقة كان مُركزا على مايا دون بقية الحيوانات، وبفضلها حصل على شهرة كبيرة بين سكان مشهد، وقد جلبت علاقته الخاصة بها أعدادا كبيرة من الزوار إلى الحديقة.

مُحسن جلب النمرة مايا إلى منزله لتربيتها، وبعد أن كبرت وبسبب ضخامة حجمها نقلها إلى حديقة الحيوانات

 

كثيرون منهم كانوا يقفون في طوابير أمام قفصها الضيق في انتظار أن يختار منهم واحدا يسمح له بالدخول واللعب مطمئنا مع النمرة البرية المخيفة.

ذات الوشاح الأبيض.. صور الأنثى الجميلة بعدسة نسوية

امتدت شهرة محسن إلى وسائل الإعلام والفنانين، وينقل الوثائقي مشهدا لمصورة إيرانية مشهورة جاءت لتصور النمرة في قفصها معه، واقترحت من منظور نسوي أن تلبسها وشاحا أبيض يؤكد أنوثتها، وكان الصور جميلة حقا، مما زاد من شعبية مايا وأيضا الحديقة، ودفعت مالكها الثري للتفاخر والظهور أمام وسائل الإعلام.

صاحب الحديقة ورثها عن والده، وعائلته عرفت باهتمامها بتربية الحيوانات البرية وعرضها في حدائق خاصة، والمفضل عنده من بينها هو الأسد. يفخر صاحب الحديقة بأساليب عائلته لترويض الأُسود والسيطرة عليها.

يستغل الوثائقي كلامه لينقل مشهدا يظهر فيه أسد وهو يهاجم مُستَخدما، وقد أمسك بذراعه بين أنيابه، مما دفع بقية المُستَخدمين لإطلاق النار على الأسد الغاضب وقتله، حينها يسأل المُخرج محسن عن رأيه بما شاهده، فيؤكد بحسم أن قتله لم يكن ضروريا، بل إن رشّة ماء بارد على الأسد لحظتها كانت تكفي ليترك ذراع الرجل، لأن الأسود حسب خبرته تكره الماء.

مشهد لمايا وهي تظهر حُرة في خارج القفص في الفيلم الروائي

 

يعكس المشهد اختلالا واضحا في العلاقة بين الإنسان والحيوان البري المدجن بالقوة، وأيضا نقصا في الخبرة وقسوة في المعاملة.

بحر قزوين.. حرية الحيوان البري في موطن النمور المنقرضة

في خضم توثيقها الذي دام قرابة أربع سنوات، يطرأ تطور جديد على القصة، ومبعثه طلب مخرج سينمائي من إدارة الحديقة تصوير النمرة ضمن مشاهد لفيلم روائي تدور أحداثه قرب بحر قزوين، وطلب من محسن مرافقة مايا إلى هناك.

يعود اختيار المخرج شبه جزيرة ميانكاله لتصوير المشاهد التي تظهر فيها النمرة لعدة أسباب، منها أنها كانت في الماضي موطنا لنمر قزوين المنقرض، وأن المنطقة الواقعة شمال إيران كانت ضمن مشروع طموح لحماية النمور أريد العمل به في بداية خمسينيات القرن المنصرم، لكنه أُجل ثم توقف العمل به نهائيا، ولم يبق منه إلا مساحات مُسيّجة وجد المخرج فيها إمكانية لوضع النِمرَة داخلها أثناء التصوير.

مُحسن مع مايا التي تذوقت طعم الحرية الأول مرة في حياتها لمدة أسبوعين، فقد خرجت من قفصها إلى البرية

 

خلال أسبوعين تذوقت مايا لأول مرة طعم الحرية، فقد خرجت من قفصها إلى البرية، وبغريزتها الفطرية استعادت طبيعتها كحيوان بري يطارد الفرائس وينسجم مع تكوينه كقط بري ضخم قادر على التَكيّف مع المحيط الأوسع بعيدا عن الأقفاص الحديدية.

العودة إلى مشهد.. صمت حزين واحتجاج على القفص

وجود مايا طليقة لا تستجيب لأوامر محسن أخاف سكان المنطقة، وأشعره أيضا بأن النمرة لم تعد تخضع لإرادته، فقد بدأت بمهاجمة الناس والحيوانات المنزلية، وكانت تهرب ليلا إلى الأدغال القريبة بحثا عن صيد.

مايا تعود إلى القفص مُجددا في مشهد الإيرانية بعد أن استنشقت الحرية خارج قضبانه

 

لم يرق وجودها حرة هناك لأحد، فسكان المنطقة حكوا له عن طبيعة النمور البرية وكيف قضي عليها من قبل الصيادين، وبشكل خاص الروس الذين كانوا يعرفون ويجيدون أساليب صيدها وبيعها إلى أصحاب حدائق الحيوانات.

بعد مهاجمتها لمخرج الفيلم يتقرر إعادة مايا من هناك إلى مشهد ثانية، وبعد وصولها تغيّر سلوكها، فلم تعد تلعب كما كانت من قبل، ومالت إلى الصمت وطغى عليها الحزن. في لحظة صدق مع نفسه يعترف محسن بأنه يشعر أنها تحتج على ما فعلوه بها، وكأنها من خلال تغيير سلوكها تريد أن تقول لنا: هناك قرب البحر تذوقت لأول مرة طعم الحرية، وفجأة قررتم حرماني منها، أرجعتموني إلى قفص صغير لا تتجاوز مساحته عدة أمتار.

طرد من العمل وعودة إلى التحنيط.. محسن في المحكمة

تتلاحق التطورات الدراماتيكية ويتابعها الوثائقي بعناد، فبعد مشاهدة الناس لنمر هارب من الحديقة يتجول طليقا في شوارع المدينة ثار بينهم الذعر، لذا بدأت حملة إعلامية ضد إدارة الحديقة، ووجهت إليها نقدا حادا لتنصلها من التزاماتها بشروط الحماية المنصوص عليها في العقود المبرمة بينها وبين إدارة المدينة.

في المحاكمة التي جرت للمسؤولين عن التسيب، ظهرت تناقضات حادة بين شهادات صاحب الحديقة وبين شهادة محسن، لذا قررت المحكمة إغلاق الحديقة مؤقتا، كما قرر صاحبها طرده من العمل حفاظا على سمعته.

نسيان محسن لصديقته مايا وبداية اهتمامه بمشروعه التجاري فيما يخص تحنيط الحيوانات

 

إثر القرار عاد محسن إلى عمله السابق كمحنط للحيوانات، وأوكلت مهمة رعاية النمرة إلى زميل له.

جثث النمور.. تمديد يصنع أزمة اقتصادية في المدينة

في المقطع التالي من تطور الأحداث تظهر الجوانب السياسية والاقتصادية التي تمر بها إيران جراء المقاطعة الواسعة المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.

لم يمض كثير من الوقت على قضية هرب النمر إلى الشارع حتى كشف المفتشون الصحيون وجود بقايا جثث لنمور قتلت وأخفيت جثثها في ثلاجات تابعة للحديقة، مما دفع إدارة المدينة إلى تمديد قرار إغلاقها لأغراض التفتيش.

ترك القرار آثارا اقتصادية سلبية على الموظفين وعلى نشاط المدينة، لأن كثيرا من المهن والأشغال التجارية كانت مرتبطة بازدهار عملها، فسائقو سيارات الأجرة يتذمرون من الإيقاف، والموظفون يشكون من بطالتهم، وحتى سكانها يشعرون بأنهم قد حُرموا من متنفس بسيط يساعد على كسر بعض من رتابة حياتهم، بينما هدّد مدير الحديقة وصاحبها بتركها نهائيا.

انقراض نمر قزوين بسبب الصيد

 

وبسبب الأزمة الاقتصادية تراجعت إدارة المدينة عن قرارها وتتفق معه بشروط معينة على إعادة فتحها.

مايا تقتل أشبالها.. نداء عاجل إلى حديقة الحيوان

بعد طول انقطاع يصل خبر إلى محسن بوجود مشكلة جدية في الحديقة، ولا بد من مجيئه إليها على وجه السرعة، إذ عرف من زملائه أن النمرة قد ولدت أشبالا، لكنها قامت بقتل اثنين منهم، والثالث جريح مهدد بالموت أيضا، وعند وصوله قام بتطبيبه وأنقذ حياته، لكنه كان يريد أن يعيده إلى حضن أمه لتطعمه من حليبها.

لا أحد يعرف سبب قتلها لأشبالها، لكن أحد العمال علق بعبارة مؤثرة ولافتة في عمقها أمام كاميرا الوثائقي: ربما تريد الإعلان عن موقفها الكاره لحياتها البائسة، ولا تريد لأشبالها أن يعيشوا مثلها بقية حياتهم أسرى في قفص حديدي.

مُحسن يقنع مايا بعد أن أكلت أشبالها بإرضاع الشبل الوحيد الناجي، مُعيدا إياه إلى حضن أمه

 

أما محسن فقد اعترف صراحة بأنه صار يشعر بالخوف منها لأول مرة، وأنها لم تعد تعامله كصديق موثوق به كما كانت تفعل من قبل.

النمر البنغالي.. حياة بائسة في الأقفاص وتهديد بالانقراض

لنقل قوة ديمومة الحياة وقدرة الإنسان على تجاوز ماضيه وعلاقاته وفقا لمصلحته؛ يوثق الفيلم الجميل والباهر في اشتغالاته السينمائية مجريات حياة مُحسن بعد تركه العمل في الحديقة، فقد شرع بالعمل في مشروع خاص لبيع المحنطات في سوق تجاري كبير، ناسيا ما تركه في الحديقة، معيدا إلى الذاكرة العلاقة المختلة بين الإنسان والحيوان البري الأسير، والمنقول إلى طبيعة أخرى غير الطبيعة التي ينبغي عليه أن يعيش فيها.

وبتوثيقهما القصة العجيبة يُعيد صانعا الفيلم إلى الأذهان ذلك الخطر الذي يهدد ما بقي من النمور البنغالية واحتمالات انقراضها نهائيا.

تظهر على الشاشة أرقام دالة على جدية التهديد، ففي الولايات المتحدة لوحدها توجد نمور بنغالية أسيرة في حدائق حيواناتها يزيد عددها عن تلك الموجود حُرّة في الطبيعة، وتقارب أعدادها اليوم حوالي 400 نمر، في حين يوجد في أنحاء العالم حوالي 20 ألف نمر من نفس فصيلة مايا، وتحيا حياتها البائسة أسيرة في أقفاص حدائق الحيوانات، أو مملوكة لأفراد يربونها بمنازلهم الخاصة.