“خلافة”.. كوميديا سوداء في صراع الأبناء على إرث إمبراطور الإعلام المريض “مردوخ”
“تلك كانت كلمات، مجرد كلمات، ما هي الكلمات؟ لا شيء، مجرد حركة معقدة للهواء”. هكذا عبر “كندال روي” عن أفكاره وربما الفكرة الرئيسية لمسلسل “خلافة” (Succession) كله، حيث انتهى منذ أسابيع الموسم الثالث من المسلسل، وهو العمل الذي يعتبره البعض أحد أفضل الأعمال في السنوات الأخيرة.
يحكي المسلسل قصة عائلة رجل الأعمال “لوغان روي”، ويذهب البعض إلى أن المسلسل -على الرغم من كونه قصة غير حقيقية- يشير إلى عائلة رجل الأعمال الأمريكي “روبرت مردوخ” الذي يملك ثاني أكبر تكتل لوسائل الإعلام في العالم، وهو التكتل الذي يحوي على شركات عملاقة تتضمن شركات مثل شركة “مجموعة نيوز”، وعدد من الصحف والشبكات الإعلامية مثل صحيفة “وول ستريت جورنال”، وقناة “فوكس نيوز”، وشركة إنتاج الأفلام الشهيرة “فوكس القرن الحادي والعشرين”.
تكشف متابعة المسلسل عن سمة رئيسية متكررة تكشف عن نفسها بأساليب وصور مختلفة طوال أحداث المسلسل، وهي التساؤل عن المعنى الحقيقي لفعل أو قول ما. ومن اللافت أن المسلسل يتتبع قصة مجموعة من الأشخاص الأكثر تأثيرا في المجتمع والسياسة الأمريكية وبالتبعية العالمية، وهو ما يعني أن كل ما يفعلونه أو يقولونه له تبعات على آلاف بل وملايين البشر، لكنه على الرغم من ذلك يضع المشاهد في موضع التساؤل المستمر عن معنى ما حدث أو ما قيل.
في هذا المقال نحاول الغوص في عقل صانع العمل “جيسي أرمسترونغ” باحثين عن معنى ما يدور في المسلسل، ومجيبين عن سؤال من هو الابن الحقيقي لـ”لوغان روي”؟
“لوغان روي”.. سباق لخلافة الملك الطريح على الفراش
“لوغان روي” هو أب لأربعة أبناء ثلاثة أولاد وفتاة، وهو المالك الأكبر والمدير التنفيذي لتكتل “واي ستار رويكو” (Waystar RoyCo). وتدور أحداث المسلسل حول سؤال واحد وهو أي الأبناء هو الأفضل لخلافة “لوغان روي” في إدارة الشركة؟
من المثير أن نلاحظ أن هذه الأسرة هي أسرة موازية لأسرة “فيتو كورليوني” في فيلم “الأب الروحي” (The Godfather)، حيث يتوازى “كونور” ابن “لوغان” الأكبر مع “فريدو” ابن “فيتو كورليوني” الأكبر، فكلاهما الابن الأكبر الذي يتجاهله الجميع، ولا يجري التعامل معه بجدية، بينما يتوازى “كندال روي” مع “مايكل كورليوني” الابن الأصغر الذي يجب أن يتولى أعمال العائلة بعد والده على الرغم من عدم مناسبة شخصيته ونشأته لهذه المهمة، بينما يوازي “رومان روي” الأهوج “سانتينو كورليوني”، وتتوازى “شيف” مع “كوني” الابنة التي تزوجت من خارج العائلة ونجحت في إشراك زوجها في أعمال العائلة.
قام “أرمسترونغ” بطرح سؤال الخلافة بصورة راديكالية في أول حلقة للمسلسل، حيث تبدأ الأحداث مع “لوغان روي” على فراش المرض، فيما يبدو أنه سينهي حياته تماما أو على الأقل حياته العملية. ويحاول الأبناء في السيطرة على مقاليد الأمور، لكن “كندال” الابن الأكبر والأكثر طموحا في خلافة والده يجد نفسه في مواجهة موعد سداد ديون ضخمة.
يحاول “كندال” حل المشكلة بالتعاون مع أخيه الأصغر، ويتهيأ الاثنان لخلافة والدهما معتقدين أنه لم يعد قادرا على إدارة الشركة نتيجة لسنه وظروفه الصحية، لكن بخلاف التوقعات، فبمجرد تحسن صحة “لوغان” تحسنا طفيفا فإنه يعود إلى إدارة الشركة بذاته متحديا توقعات ورؤية طاقم الإدارة بكامله، وبطبيعة الحال متحديا لرغبات أبنائه.
شيخوخة الإعلام التقليدي.. صراع ضد التكنولوجيا الحديثة
مشكلة إدارة الشركة ليست المشكلة الوحيدة التي تشغل الجميع، لكن المشكلة الأخرى هي التحديات المالية التي تواجه الشركة، بالإضافة للتحدي الأكبر وهو تحدي الزمن، حيث تتسم الشركة بهيكل إداري قديم لم يعد صالحا للمنافسة في عالم ما بعد الإنترنت.
يتكون التكتل من شركات إعلامية تعتمد على التلفاز، وربما إنتاج بعض الأفلام، وغير ذلك من الأساليب التي انتهى عصر تفوقها وأصبحت سيطرتها في اضمحلال مستمر، في مقابل شركات تكنولوجية مثل شركة “ميتا” التي تملك تطبيق فيسبوك وإنستغرام، وشركة “ألفابت” التي تملك شركة جوجل، وغير ذلك من الشركات التكنولوجية الحديثة.
نلاحظ أن السمة التي تجمع كل التحديات التي تقود الأحداث هي الشيخوخة، متمثلة في كبر سن الأب وقدم الشركة وهيكلها الإداري في مواجهة التغير الذي يقوده الأبناء والتكنولوجيات الحديثة. وخلال هذا الصراع نشاهد كثيرا من الوعود المخلفة، وكثيرا من الكلام الذي لا يؤدي إلى شيء، فالشيء الوحيد الذي يحكم هذا العالم هو الفعل.
جرائم الاغتصاب.. كبش الفداء ينطح الأب ويفسد الخطة
يأتي الموسم الثالث مضيفا لأداة جديدة يمكن توظيفها كما يوظف الكلام بالضبط، فبالنسبة لعائلة “روي” والمحيطين بها من رجال الأعمال والإدارة فإن الكلام هو مجرد أداة تستخدم لأي سبب سوى نقل المعنى المطلوب، من الممكن استخدامها للإرهاب، أو للتلاعب أو حتى للسخرية، وبشكل مطلق، فكل هذه الأهداف تصب في الغاية الكبرى وهي الانتصار. ويضيف الموسم الثالث إلى الكلام الأداة الأحدث والأنسب في عالم اليوم، وهي النساء.
يقول “كندال روي”: انظر إلى كل هؤلاء النساء الذكيات، لا بد أنني أقوم بشيء ما صحيح كي أكون محاطا بهن بهذه الصورة.
انتهى الموسم الثاني بفضيحة كبرى للشركة ظهر فيها أن بعضا من كبار المديرين تورطوا في عدد من حالات الاغتصاب وغيرها من الجرائم، وقد اضطرت هذه الفضيحة الشركة إلى البحث عن كبش فداء يتحمل التبعات، وقد وقع الاختيار على “كندال” الابن الأكبر، لكن في اللحظة الأخيرة من المؤتمر الصحفي الذي كان من المفترض أن يعلن فيه مسؤوليته عن هذه الأحداث؛ أعلن “كندال” -بشكل مخالف تماما للتوقعات- أن والده هو المسؤول الرئيسي عن كل هذه الجرائم.
يبدأ الموسم الثالث بالصراع المتأجج بين الأب والابن على خلفية قضايا الاغتصاب، وفي سبيل الإعداد لهذا الصراع، وحيث أن الجرائم متعلقة بالنساء، بينما يسود خطاب المساواة والدعم للنساء في الوقت الحالي؛ يلجأ الطرفان إلى إحاطة نفسيهما بأكبر قدر ممكن من النساء، فيقومان باختيار مديرات أعمال من النساء، وفريق من المحاميات النساء الأكثر شهرة في نيويورك.
“إن السبب الوحيد لكونك ذات قيمة في هذا العالم هو امتلاكك لثديين”
يقوم “جيسي أرمسترونغ” بخلق صورة شديدة الذكاء عن دور النساء في حالة “كندال”، إذ يضطر إلى إدارة الصراع من منزل ضخم يجتمع فيه كل فريقه، وهو ما يقدم إشارة إلى بيت “بلاي بوي” الذي تجتمع فيه العارضات، ويكمل “أرمسترونغ” الصورة من خلال شراء “كندال” لأرنب ضخم كهدية لابنه.
لم يقم أي طرف من هذه الأطراف بهذا السلوك دون وعي، بل بشكل مقصود تماما، حيث يقول “كندال” إن النساء بعد وسم “أنا أيضا” (Metoo) أصبحن ذوات قيمة مضاعفة، بينما يواجه أخته بشكل مباشر قائلا: إن السبب الوحيد لكونك ذات قيمة في هذا العالم هو امتلاكك لثديين.
هكذا تظهر المرأة بوصفها صورة غير ذات معنى، فهذا العالم لا يراها ذات قيمة حقيقية كما يقول “لوغان” لابنته “بالطبع كونك امرأة هو نقيصة، أنا لم أصنع العالم”، وذلك في إشارة إلى أن قناعاته ليس لها أهمية، فالواقع أن العالم لن يرى توليها إدارة الشركة بوصفه خبرا مطمئنا على قدرة الشركة على التغلب على مشكلاتها والاستمرار.
صراع النساء.. ألعاب بيادق الشطرنج على الرقعة
يتنحى “لوغان روي” عن منصبه بشكل مؤقت كي يهدأ الرأي العام، ويشعر المستثمرون بالثقة في الشركة، ثم يقوم بتصعيد “جيري كلمان” إلى دور الرئيس التنفيذي كي تكون واجهة أنثوية للشركة، مما يثير تساؤل ابنته “شيف”، لكن “كندال” يعطيها التفسير، وهو أن والدها لا يجد أنها مناسبة لأن الجمهور لا يزال يراها بوصفها امرأة رمزية، وهي مجرد امرأة تستخدمها الشركة كي تهدئ الرأي العام، وأما “جيري” فهي جزء من الشركة وأحد مديريها بالفعل، ومن ثم فهناك مبرر أقوى يجعل الجمهور ينسى كونها أيضا مجرد رمز.
هكذا يصبح دور الرجال أسوأ مما مضى عندما كانوا في الواجهة بشكل مباشر وواضح، لكن “شيف” و”جيري” وغيرهن نساء الأعمال لسن مجرد أحجار على رقعة شطرنج، حيث يعرضهن أرمسترونغ بوصفهن ذوات طموح وأطماع شخصية، بل إنهن على درجة من الحرفية والذكاء مكافئة لنظرائهن من الذكور، لذلك تحاول “جيري” استمالة “رومان” ابن “لوغان” إلى صفها، حتى تضمن أن تستمر في منصبها وتقوي من شوكتها لحصولها على دعم من داخل العائلة، بينما تسعى “شيف” إلى الوصول لاتفاق مع منافسي والدها ينطوي على حصولها على مقعد ضمن أعضاء مجلس إدارة الشركة.
في حالة نساء “خلافة” نلاحظ لجوئهن إلى ذات الأدوات التي اعتاد الذكور استخدامها، فنجد “ساندي” ابنة أكبر منافسي “لوغان روي” تخاطب “شيف” خلال مفاوضات الاستحواذ على جزء من الشركة قائلة: “أنا لا أقرر شيئا، أنا فقط أنفذ ما يقوله والدي”.
وهو ما يبدو لنا كما اعتدنا كلاما بلا معنى حقيقي، فوالدها يعاني من تدهور شديد في حالته الصحية لا تسمح له بإدارة المفاوضات بكفاءة، لكن حتى وإن لم يكن هذا صحيحا وكانت “ساندي” صادقة، فإن الموقف المقابل كان أكثر وضوحا، فقد اتخذت “شيف” قرارا دون إرادة والدها لأنه في هذا الوقت كان يعاني من غياب الوعي، وعندما تعجبت “ساندي” من القرار ردت “شيف” بأنها لا تقرر شيئا، بل تنفذ قرارات والدها فقط.
على الجانب الآخر تقوم والدة “شيف” المطلقة من “لوغان” بالتوصل إلى اتفاق يضر أولادها من أجل أن تحصل على بعض المكاسب الشخصية.
محرك المصلحة.. دوافع تحرك أطراف اللعبة
يعرض صانع المسلسل “جيسي أرمسترونغ” لنا شخصيات نسائية تؤكد أن النساء لسن مقابلات للرجال، لقد استخدمن الأدوات ذاتها، فبينما استخدم الذكور النساء لتهدئة الرأي العام، فقد استخدمت النساء الذكور لتحقيق انتصارات في المفاوضات، وكل هذا يحدث في إطار من استخدام الجميع للكلام واللغة لكل سبب ممكن عدا التواصل الحقيقي بين أي طرفين.
يحرك الجميع في هذا العالم دافع واحد فقط هو المصلحة الشخصية، وبينما ينتهي الموسم الثالث بمواجهة بين الأبناء ووالدهم؛ تتكون لدينا صورة أكثر وضوحا حول فكرة “لوغان” عن الخلافة، فهو لا يبحث عن من يخلفه من أبنائه، بل إنه يبحث عن من يخلفه في الاعتناء بابنه الوحيد؛ شركة واي ستار رويكو.
نجح “أرمسترونغ” في إنتاج مسلسل يقدم صورة شديدة التركيب عن عالم رأس المال وحقيقة القوى والدوافع التي تحكمه وتسيره، مزيلا عنه كل الملحقات التي عادة ما تستخدم لتجميل صورة هذا العالم.
عادة ما نشاهد أعمالا تعرض عالم الأغنياء من وجهة نظر الانبهار بالثراء والقدرة على الحصول على أي شيء وكل شيء، حيث يعيش الأغنياء في عالم ملون مليء بالسيارات الفاخرة والملابس البراقة، بينما في حالة مسلسل “خلافة” ننسى كل هذه الأشياء لصالح الصراع الدائم والمستمر الذي ينخرط فيه كل الأطراف بلا استثناء دون لحظة للتوقف والاستمتاع بما يملكونه.
إلقاء المأدبة الفاخرة في القمامة.. رفاهية في مهب الريح
استخدم “أرمسترونغ” مدى من الألوان في صورة المسلسل تتراوح بين اللون الأزرق والرمادي، بالإضافة إلى البني والرملي بدرجاتهم، مما أضفى أجواء ضبابية كئيبة على عالم شخصيات المسلسل، بل إنه يعرض لنا مشهدا طويلا تنتقل فيه الأسرة إلى منزل فاخر لقضاء الإجازة، ويقوم “أرمسترونغ” بعرض كافة تفاصيل إعداد العشاء الفاخر حتى يصل الجميع، لكن “لوغان” يشعر بوجود رائحة عفنة في المنزل تجعله يغضب ويقرر إلقاء كل هذا الطعام الفاخر في القمامة، ثم طلب وجبة بيتزا من مطعم.
يركز “أرمسترونغ” في هذا المشهد على كل ما يشير إلى ثراء هذه العائلة التي يمكنها أن تقوم بإعداد هذه المأدبة الفاخرة ثم إلقائها في القمامة دون تردد، لكنه أيضا يشير إلى أنهم لم يستمتعوا بها، إن وفرة الأموال لم تصنع فارقا جوهريا في استمتاع الأسرة بالحياة، بل إنها تزيد من قدرتها على تكرار ما يعيشه الجميع من صراعات. المال في عالم “روي” لا يشتري السعادة، لكنه يضاعف من تأثير كل شيء في الحياة العادية.
جدير بالذكر أن المسلسل الذي يتميز بنص في غاية الذكاء، يتميز أيضا بعدد كبير من العوامل الفنية التي جعلته أحد أهم وأفضل الأعمال في السنوات الأخيرة، حيث رُشح المسلسل إلى 17 جائزة إيمي حصل على سبعة منها، وتشتمل هذه الجوائز على جائزة أفضل ممثل وأفضل إخراج وأفضل سيناريو وغيرها، وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن الموسيقى التصويرية للمسلسل تحتاج إلى مقال مفصل وحدها.