“أوهام ضائعة”.. أحلام الفتى الريفي الساذج في باريس القرن الـ19

منذ عام 1906 وحتى يومنا هذا تحوّلت 21 رواية للكاتب الفرنسي “أونوريه دي بلزاك” (1799-1850) إلى أعمال سينمائية، كما كانت رواياته مصدرا لـ46 عملا تلفزيونيا.

هذه الاقتباسات ليست فقط فرنسية، فإبداعات هذا المؤلف العبقري الغزيرة جذبت سينمائيين من مختلف أنحاء العالم، فاستوحيت قصصه في روسيا وإيطاليا وألمانيا وتشيلي وأمريكا وغيرها. وعلى سبيل المثال نُقلت روايته “إهاب الشجن” (1831) إلى السينما في أمريكا وألمانيا وبريطانيا.

قد يكون تحويل روايات وقصص “دي بلزاك” إلى السينما مخيّبا في كثير من الأحيان، فهذا الكاتب مبدع الواقعية في الفن الروائي ورسّام مجتمع جديد بدأ مع القرن التاسع عشر (أي بداية العصر الحديث) يتمتع بقدرة هائلة على التوغل في النفس البشرية وسبر تعقيداتها، كما أن قصصه تتمتع بغنى في الأحداث وعمق في الشخصيات، وبعضها يتميز بطولٍ يجعل اقتباسها سينمائيا أمرا عسيرا، مما يفرض أحيانا تكثيفا واختيارات قد تكون قاسية كي لا يقع المساس بجوهر العمل.

هكذا، فإن المخرج الفرنسي “كزافييه جيانولي” في فيلمه “أوهام ضائعة” (Illusions Perdues) الذي أخرجه عام 2021، والمأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه لـ”دي بلزاك” تتجاوز 700 صفحة؛ قرر التحرر بعض الشيء من هذا الكتاب الضخم والتركيز على الجزء الثاني منه، والمعنون بـ”رجل عظيم من الأطراف في المركز (باريس)”.

“عصر عودة البوربون”.. رؤية معاصرة لرواية تاريخية

على الرغم من أن أحداث الرواية تجري في القرن التاسع عشر، فقد تناولها “جيانولي” برؤية معاصرة في فيلمه، لتحكي أيضا بإيحاءاتها عن العصر الحالي. ولم يكتفِ بتحويلها إلى فيلم، بل تمكّن من تجسيد أسلوبه في التعامل مع الشخصيات والأحداث، وذلك من خلال إظهار إلى أي درجة كان “دي بلزاك” كاتبا عظيما صالحا لكل عصر، وروائيا عالميا يُقرأ في كل مكان وزمان.

تجري هذه الرواية التاريخية خلال هذه فترة من تاريخ فرنسا يُطلق عليها “عصر عودة البوربون” (1814-1830)، أي إعادة حكم سلالة بوربون الملكية لفرنسا كنظام سياسي، وهي مرحلة سادت فيها ديناميكية اجتماعية واقتصادية، وتعتبر كبداية للعصر الحديث، وليست عودة للنظام القديم، فأثناءها بدأت أهمية البحث عن النجاح الفردي كهدف تتشكل وتبرز.

 “لوسيان”.. رحلة عشق من الريف إلى العاصمة

شخصية الشاب “لوسيان” في الفيلم ستكون وسيلة فعّالة لانتقاد لاذع وساخر لعالم الأدب والصحافة والصالونات الأدبية والاجتماعية، حيث يسود الفساد والرشوة والانتهازية، وحيث كل شيء يُباع ويشترى، وكل شيء زائف.

عشيقة “لوسيان” النبيلة الأصل “لويز”، والتي قرر الذهاب إلى باريس بسببها

“لوسيان” (الممثل بنجامان فوازان) شاب حالم يقرر مغادرة بلدته في مقاطعة فرنسية في وسط البلاد، وذلك للحاق بعشيقته النبيلة الأصل “لويز” (الممثلة سيسيل دي فرانس) في باريس، إذ يجد في الفرصة وسيلة للتمتع بحبهما والبحث عن اسم ودور له، بعيدا عن منطقته التي يرى أنها تحدّ من انطلاقه.

هناك في العاصمة، يتعرف على عالم جديد، ويخضع لتأثيرات كثيرة تقلب شخصيته وتلقنه دروسا قاسية.

تلاعب المدينة الكبرى بأحلام الفتى الساذج

أثار الفيلم في مرحلة أولى شعورا بخيبة وضجر، فقد بدا وكأنه رواية تُقرأ وليس فيلما يُشاهد، وذلك لاعتماده على إلقاء النص وتفسير الأحداث وشخصية “لوسيان” عبر صوت خلفي، لكنه سرعان ما تخلص من سيطرة الإلقاء على الحدث، ووصل إلى توازن بينهما بدا ضروريا للدخول في أجواء فيلم مدته ساعتان ونصف. إنه تحوّلٌ بدأ مع قدوم البطل للعاصمة.

بُني الفيلم في هذه المرحلة بذكاء وإمتاع على محورين، فمن جهة أظهر كأفضل ما يكون شخصية وسلوك شاب قادم من الأطراف إلى المركز (أي من مدينة صغيرة أو قرية إلى العاصمة)، ومن جهة أخرى أبدى أجواء العاصمة وتجمعاتها المنفعية وتلاعبها وقسوتها، ونظرتها إلى هذه النوعية من الناس، وميولها نحو استغلالها في تنفيذ مخططات خبيثة، وأحيانا لمجرد السخرية والتسلية. فشخصية “لوسيان” ستكون محطّ اهتمام ومؤمرات وهزء، وذلك لما تتمتع به من غرور وثقة زائدة في النفس، وشيء من البراءة والسذاجة.

في مختلف مراحله اعتمد الإخراج على صورة محرّفة بعض الشيء ليعطي إيحاء بالحلم، حلم “لوسيان”، فاستخدمت عدسات خاصة تحوّر على نحو طفيف وخفي الأبعاد، وتضفي شيئا من العتمة على حواف الشاشة، مما يضفي على هذه الرؤية الواقعية نظرة شاعرية خيالية هي نظرة “لوسيان” الذي يكتشف العالم المحيط.

 “بنجامان فوازان”.. تجسيد بارع للشخصية البريئة المتغطرسة

كان “لوسيان” يفضّل استخدام كنية والدته التي تدلّ على الانتماء إلى عائلة نبيلة، فهو يظن أنها ستسهّل له الدخول في الأجواء الارستقراطية الباريسية، غافلا عن أن كل شيء ينكشف بسرعة، وأن هناك من هو مستعد دائما لاستخدام هذا الأمر وغيره ضده، وللسخرية منه، كأبشع ما تكون السخرية. إنه عالم لا يرحم لا تنفع معه براءة شاب ولا ثقته ولا موهبته.

تعامل الفيلم مع شخصية “لوسيان” بتمكن كبير، وكان تجسيد الممثل الفرنسي الشاب “بنجامان فوازان” له مناسبا جدا، فقد برع المخرج في استغلاله على أفضل وجه، لما يعكسه شكله وأسلوبه، ففي نظرته حلم، وفي حركاته تعبير طبيعي عن ثقة بالنفس، وأحيانا غطرسة تدفعان بل تحثّان في بعض المواقف على السخرية والشفقة عليه في آن واحد.

الممثل الفرنسي الشاب “بنجامان فوازان” الذي قام بتجسد شخصية “لوسيان”

لم تكن الحياة الباريسية بالسهولة التي تخيلها وبقي يتخيلها هذا البطل الشاب، فعشيقته التي شجعته على القدوم إلى باريس معها؛ تخلت عنه. ففي العاصمة ليس من الممكن استمرار العلاقة معه وهو من عامة الناس بينما هي من النبلاء.

دهاليز الصحافة الساخرة الكاذبة.. حين يتكلم المال

ما لبث “لوسيان” أن عانى التشرد قبل أن يختار الصحافة الساخرة، فهو يتحلى بموهبة أدبية شعرية، لكنها لا تكفي بالطبع، فالذكاء والمكر وحسن التصرف في الأجواء الصحفية وحفلات استقبال النبلاء التي يدعى إليها وجوه المجتمع كلها أهم من الموهبة.

كانت الصحيفة تعمل على تدمير الشخصيات أو إعلاء شأنها حسب المدفوع، وكانت تلك مهمة “لوسيان”، فهو يتيح ريشته لمن يدفع أكثر من النافذين والفنانين والكتّاب، وبالطبع السياسيين.

هنا تتبدى معاصرة النص. صحافة مباعة مليئة بالأخبار الكاذبة، والمال هو الذي يقرر ويستخدم في سبيل فرض الأفكار السياسية والأذواق الأدبية والميول وحتى الحب. ففي هذه الأجواء تتبدى قوة المصرفيين الذي يشترون الصحف أو يدخلون في الحكومات، وتظهر قوة الشائعات وأثرها المدمر.

عالم النخب.. رحلة في تفاصيل الماضي المتجسدة في الحاضر

اعتنى الفيلم باظهار عالم النُخب، وألحّ المخرج على ذلك في تفاصيل لا يمكنها إلا أن تثير العجب، كما أبدى بإبداع عالم الفن، وكيف يمكن إبراز من لا يستحق أو تدمير من يستحق، فيكفي موظف مختص يدفع بمصفّقين أو مصفّرين في الصالة حسب ما يطلب منه ويدفع له.

هذه المأساة الملهاة هي التي كانت تجري في القرن التاسع عشر، حيث يسيطر الثانوي على الجوهري، وتبدو وكأنها تعبير حيّ عن اليوم، فقد التقطها الفيلم ببراعة، وعبر عنها في إيقاع سريع مليء بالحيوية والحركة وسرد سلس.

لكن “لوسيان” ليس وحيدا في الفيلم، فهناك زملاء له لعبوا أدوارا سيئة وخبيثة في مسيرته المهنية القصيرة، وهناك من حاول مساعدته وتنبيهه إلى قسوة المحيط وتحذيره من خطره، غير أن الغرور أقوى من كل النصائح.

تناقضات الكاتب والصحفي والشاعر المرموق

قرر المخرج عدم الالتزام تماما بنصّ “دي بلزاك”، على الرغم من التزامه به بشكل عام، فدمج ثلاث شخصيات في شخصية واحدة، هي شخصية “راؤول ناتان” الكاتب الشهير الذي يسرد بصوت خلفي قصة “لوسيان” منذ بداية الفيلم، فهو يجسد شخصية الصحفي المثير للتساؤلات والكاتب العميق الذي يفضل حياة قاسية مكرسة للعمل، وهو أيضا الشاعر ذو العلاقات الاجتماعية البارزة الذي يُستقبل في الصالونات الأدبية وصالونات النبلاء.

وإن أثارت هذه الشخصية في عدة مواقف ارتباكا لدى المشاهد بسبب تناقض تصرفاتها الواضح، بحيث أن من لم يقرأ الرواية لن يدرك تماما السبب، قبل أن يعرف أن المخرج جمع فيه ثلاث شخصيات من الرواية، لكن الممثل والمخرج الكندي “كزافييه دولان” الذي جسدها ساهم في تقريب هذه الشخصية المعقدة بقوة أدائه.

الممثل والمخرج الكندي “كزافييه نولان” في دور الكاتب والصحفي والشاعر “راؤول ناتان”

ومثلما صعد “لوسيان” بسرعة فإن المؤمرات عليه ستجعل هبوطه أسرع، فهو قد ظن تمكّنه من المنزلة التي وصل إليها، وزاده النجاح غطرسة فكانت الضربة قاضية.

“جيانولي”.. جائزة السيناريو لأحد أفضل أفلام العام في فرنسا

مع وجود بعض من كبار السينما الفرنسية مثل “جيرار ديبارديو” وآخرين من الشباب الصاعدين، مثل “فنسانت لاكوست” في الفيلم، ومع تصوير رائع في المواقع الحقيقية سواء في الطبيعة أو باريس، فإن الفيلم الثامن للمخرج اعتُبر في فرنسا من أفضل أفلامه، بل صنف من أفضل الأفلام الفرنسية لعام 2021، وقد نال مؤخرا جائزة السيناريو للمخرج “جيانولي” في “أكاديمية لوميير” للمراسلين الأجانب في باريس.


إعلان