“الملك ريتشارد”.. أب أسمر طموح يكسر احتكار البيض للتنس مرتين
قصة بطلتي التنس الأمريكيتين السمراوين “فينوس وسيرينا ويليامز” ليست عادية، لأن لعبة التنس ظلّت لعقود طويلة حصرا على البيض والأثرياء، وإذا ما أتيح لغيرهم الدخول لعالمها، فمن المؤكد أنهم سيواجهون صعوبات جمة، والأكيد أيضا أنها ستشتد أكثر حين يتعلق الأمر بفتيات فقيرات يُمسي استمرارهن وتحقيق إنجازات مهمة فيها حُلما بعيد المنال ليس من السهل تحقيقه.
القصة ليست عادية، وليس ذلك بسبب أن بطلاتها لاعبات فقيرات الحال فحسب، بل لأن والدهن “ريتشارد ويليامز” -رغم لون بشرته وضعف حالته المادية- وضع لنفسه هدفا واحدا محددا، وكرّس كل حياته وجهده لتحقيقه، فقد أراد أن يجعل من ابنتيه بطلتي تنس يتسابقن في أكبر البطولات العالمية ويحصلن على كؤوسها، وقد أراد أن يجعل منهن مثلا وقدوة لكل الأطفال السود في العالم.
لهذا فاختيار المخرج الأمريكي “رينالدو ماركوس غرين” نصّا يركز عليه وعلى تاريخه الشخصي يعد تَميُزا وسط مناخ سائد يشع كراهية للغيّر، وأيضا هو محاولة سينمائية تقترح تقديم نماذج واقعية تعاند نظرة التفوق العنصرية.
بهذا المعنى فتفيلم “الملك ريتشارد” ليس بورتريه لشخصية نادرة ولبطلات موهوبات في عالم التنس فحسب، بل هو توثيق لتاريخ مجتمع عانى من عنصرية بغيضة، وآن الأوان للسينما أن تقدمها بشجاعة وبرؤية تنحاز وقبل كل شيء للإنساني المشرق والمثال المُلهم.
“ويل سميث”.. دور الأب الملك الباحث عن الأوسكار
اختيار الممثل الأمريكي “ويل سميث” لدور البطولة يتناسب مع قدراته التمثيلية، وأيضا لطموحه في نيل الأوسكار بعد طول مشوار يريد أن ينهيه بلقب مشرف، وربما يكون دور الأب “الملك ريتشارد” فرصة مواتية لذلك، لهذا أعطى الكثير مما عنده ليُجسّد شخصية عصامية ليست سهلة.
منذ المشاهد الأولى التي يظهر فيها الأب يدرك المُشاهد أنه أمام شخص لديه رؤية مستقبلية واضحة لبناته، ويريد لهن حياة أفضل من التي يعشنها في حي للسود يقع في أطراف مدينة لوس أنجلس تكثر فيه الجريمة وتنتشر في شوارعه المخدرات.
على طول مسار الفيلم (144 دقيقة) وبين دفّة أحداثه إشارات إلى تمييز وعنصرية سائدة في المجتمع الأمريكي تبرز بشكل أكبر عندما يقترب أحد السود من أسوار قلاع البيض الأثرياء، أو يدنو من ألعابهم النخبوية التي اتخذوا منها مؤشرا على تفردهم وتفوقهم المادي والاجتماعي. لم يعبأ الوالد بكل ذلك، فقد وضع أمام عينه هدفا ومضى لتحقيقه، لقد أدرك الموهبة التي تتمتع بها “فينوس” “وسيرينا”.
يشير زمن الأحداث إلى صغر سنهما، فـ”فينوس” (الممثا سانيا سيدني) كان عمرها 14 عاما عندما كرّس الأب مع زوجته “أوراسين برايس” (الممثلة أونيانغو إليس) كل وقتهما لتدريبها مع أختها “سيرينا” (المثلة ديمي سينجلتون) بإمكانيات بسيطة ليست كافية لنقلهن مدرب إلى مستويات أعلى، الأمر الذي يتطلب توفر محترف وناد كبير وداعمين ماليين.
ممارسة التدريب.. تحدي العوائق في سبيل تحقيق الهدف
كل ذلك لم يكن متوفرا لدى العائلة البسيطة الحال إمكانيات تنقلها لمستويات أعلى، فالمتوفر عندها إنما هو طموح ورغبة حقيقية للنجاح، وحُب يسود بين أفرادها (خمس بنات ووالدين دخلهم الشهري جد بسيط)، فالأب فيها يحاول تقسيم وقته بين العمل وبين التدريب، وكانت عصاميته تغنيه عن مطامع وطموحات عيش مترف، لكنه كان صارما في تربيته وتلقين بناته قواعد العيش النزيه، وأهمية أن يوفقن بين الدراسة والتدريب الذي لم يتخلَ لحظة عن مواعيده.
كان “ريتشارد” يقنع بناته بممارسة التدريب والالتزام به في كل الظروف المناخية، لا يمنعهن المطر ولا حر الصيف عنه، لا ولا منغصات بعض أبناء الحي الذين يجدون في انشغاله ترفعا عنهم، بينما يريد واحد منهم جرّ ابنته الكبرى إلى عالمهم المشحون بالعنف والمخدرات.
ولمنعهم تحمل الأب عذابا كبيرا وإهانات كثيرة لأنه لم يرد الانجرار والخوض في صراعات جانبية تلهيه عن هدفه النبيل في انتشال أطفاله من ذلك المكان نحو مكان أحسن، فقد كان مكتفيا ببيته وعائلته وطموحه.
سلوكيات الأب العائلية الباطلة.. تصحيح المسار
بتركيزه على حياة الأب ودوره يصعب منح فيلم “الملك ريتشارد” صفة فيلم رياضي. إنه يجمع بين الدراما وبين رياضة التنس، ومن خلالهما يقدم مشهدا مجتمعيا لأمريكا وصراعاتها الطبقية والعرقية.
وعلى طول مساره كان حريصا على القول إن ثمة طيبين وأشرارا على الجانبين، فالأب لم يكن مثاليا بالكامل، بل كان متسلطا بعض الشيء، قرارته يتخذها لوحده من دون زوجته، ويتجاهل في أحيان كثيرة عالم الطفولة الذي تعيشه بناته.
لقد كان طموحه وهدفه النهائي يعميانه عن رؤية ما يسببه من ألم لزوجته التي وضعت مصلحة بناتها فوق كل شيء، وفي لحظة حاسمة تنبهه الزوجة إلى بُطلان سلوكه، وتحاول تصحيح مسار قرارته من أجل مصلحة الأطفال والحفاظ على وحدة الأُسرة، وهذا التنبيه سيقود إلى نتائج مبهرة تصبّ في مصلحة كل أفراد العائلة.
“من الأفضل تعليمهم كرة السلة”.. أبواب الرياضة الموصدة
يحاول “ريتشارد” بكل السبل إقناع المدربين وأصحاب النوادي بأخذ بناته وتدريبهم مجانا، أو على الأقل منحهن فرصة واحدة لإثبات موهبتهن وقدراتهن الرياضية.
ظلت الأبواب موصدة في وجهه والمدربون والأثرياء يسخرون منه، فأحدهم قال له “من الأفضل تعليمهم كرة السلة”، في إشارة إلى انتشارها بين السود، ولشعبيتها التي لا تدنو من رياضة مكرسة تقريبا للأغنياء والبيض فقط.
في نهاية المطاف يجد مدربا يقبل بتدريب “فينوس” وحدها دون أختها مجانا، ولم تعارض الأم قرار الأب هذه المرة وقبوله بالفرصة الوحيد المتاحة، لكنها قررت تدريب ابنتها بنفسها، فلديها هي الأخرى مثل زوجها حُب للرياضة، وهي في الأصل رياضية مثله.
بطولة الناشئين.. الخطوة الأولى على طريق النجاح
ينتقل الفيلم إلى مساحات رياضية أكبر تظهر في مشاهدها مهارة “فينوس” وشغفها باللعب، فبعد فترة قصيرة تشرع الأختان بالمشاركة في بطولة للناشئين ويحرزان فيها تقدما ملحوظا، لكن الأب يمنعهن من التباهي بفوزهن ويغضب لذلك، بينما تعارض الأم موقفه وتجد فيه صرامة فوق اللازم.
في مسار الفيلم يلاحظ تجاهل لمواقف الأطفال وقبولهم دون تعارض كل ما يريده الأب، إلا أن هذا سرعان ما سيتغير ويؤدي لانعطافات مشحونة بتوتر تجسد دراميا بمشهد تعلن فيه “فينوس” رغبتها المشاركة في بطولة محلية دون موافقة والدها.
في خضم التدريب والتقدم الحاصل في مستوى اللاعبة الصغيرة يُصرّ المدرب على ضم “فينوس” إلى فرق الناشئين، وهذا ما كان متبعا في عالم التنس، وبه يضمن المدربون ومنظمو البطولات الكبيرة مردودا ماليا ضخما يترافق مع التطور التدريجي للبطل الذي يؤمن لهم بعد اكتمال جاهزيته أرباحا جيدة تأتي عن طريق توقيعهم عقودا “رخيصة” مع المبرزين منهم وهم في أولى مراحلهم.
عيب النظام بالنسبة للمواهب الصغيرة أنه يؤخر مسيرتهم، وهذا ما لا يريده “ريتشارد”.
طريق الاحتراف.. نزال أمام بطلة إسبانية
برفضه التوافق مع النظام المتبع يحرج الأب المدرب والرعاة، لكن ابنته المتحمسة تريد المشاركة في مسابقة لم يقتنع الأب بجاهزيتها لها بعد، غير أنه -نزولا عند رغبتها وتوافقا مع ما تريده والدتها منه- يقبل على مضض، وفي الوقت نفسه وبعيدا عن الأضواء كانت أختها “سيرينا” تخطو خطوات سريعة نحو النجاح.
يكرس المخرج “غرين” الجزء الأخير من فيلمه للنزال الذي تخوضه “فينوس” أمام بطلة إسبانية فازت في كثير من البطولات، في حين أنها هي تدخل لأول مرة ساحة تنس بجمهور وتتنافس رسميا عليها.
عوالم الشركات الكبرى.. صفقات بأرقام خيالية مرفوضة
قبلها ينقل الفيلم الجميل والسلس مشهدا قصيرا يجلي جانبا مهما من عالم التنس، حيث الشركات المنتجة للملابس والتجهيزات الرياضية ذات العلامات التجارية المعروفة تتلقف الموهوبين وتحاول إبرام عقود معهم بمبالغ مغرية حتى قبل تحقيقهم نتائج نهائية حاسمة.
إنهم يتسابقون للحصول على اللاعب الموهوب بثمن لا يرتقي إلى ما يستحقه حقا، بالفطرة يدرك الأب مغزى العقد المُقدَم من شركة أحذية عملاقة، ووسط دهشة المدرب يرفضه، والأكثر إدهاشا بالنسبة إليه توافق العائلة مع قراره، مع أن الرقم المطروح أمامهم يتجاوز سقف أحلامهم بكثير.
خسارة المباراة وانتصار اللعبة.. إرادة الأب الطموح
لا يدخل الفيلم في المسار الحقيقي للبطلتين، بل يتوقف عند خسارة “فينوس” المنازلة، وقد كان ذلك بالنسبة لها درسا مهما وعميقا سينفعها كثيرا في حياتها الرياضية.
ورغم خسارتها فقد وجدت حولها عائلتها وكل أصدقائها ومشجعيها وحتى مدربها، لأنها أثبتت خلال النزال قدرة ومهارة تؤكد استعدادها للدخول إلى ذلك العالم الذي طالما حلم به والدها وعمل على تحقيقه في الواقع.
اللقطات الأرشيفية التي تضاف إلى الخاتمة يظهر فيها الأب “ريتشارد ويليامز” الحقيقي مع ابنتيه اللتين أصبحتا مثالا وقدوة لكل الأطفال السود في العالم، وبعد أن أصبحتا أسطورة في عالم التنس لم تعد اللعبة حكرا فقط على البيض والأغنياء، فبإرادة أب أسود طموح تمكنتا من إثبات أن الرياضة هي حق للجميع، وأن لعبة التنس ليست استثناء منها.