“الأرجنتين 1985”.. رجلان يحاكمان قادة الانقلاب بدعم من الشعب
لم يحدث في تاريخ أي دولة تعرضت لوقوع انقلاب عسكري أن حوكم قادة الانقلاب أمام القضاء المدني، وبموجب قضايا رفعها أبناء الشعب الذين تعرضوا للقمع أو قتل أبناؤهم على أيدي الانقلابيين، إلا أن هذا حدث مرة واحدة فقط في الأرجنتين.
هذا هو موضوع الفيلم الأرجنتيني البديع “الأرجنتين 1985” (Argentine 1985) الذي عرض في مسابقة مهرجان البندقية الـ79، وقوبل بحفاوة كبيرة من جانب الجمهور، فهو أول عمل من نوعه يعرض تفاصيل تلك المحاكمة من خلال سياق سينمائي درامي، استنادا إلى وقائع حقيقية موثقة وشخصيات حقيقية لعبت الدور الرئيسي في القضية التي شغلت الرأي العام، ووصفت بأنها “أكبر محاكمة لمجرمي الحرب” منذ محاكمات نورمبرغ الشهيرة التي حاكمت قادة النازية بعد الحرب العالمية الثانية. لكن ما هي هذه “الحرب القذرة”؟
أيام الانقلاب.. حرب قذرة وفشل اقتصادي واحتلال أجنبي
قبل أن نتناول تفاصيل الفيلم يجب أن نتوقف أولا أمام الخلفية التاريخية لموضوع الفيلم، ففي 24 مارس/آذار عام 1976 قاد الجنرال “رافاييل فيديلا” الانقلاب العسكري الدموي الذي أطاح بالرئيسة “إيزابيلا بيرون” بدعم من المخابرات الأمريكية، وقد اعتُقلت “بيرون” وأعلن عن حلّ مجلس الشعب واعتقال أعضائه، وبعد أيام أصبح الجنرال “فيديلا” رئيسا للبلاد، وبدأت حملة ضخمة للتنكيل بالقوى الليبرالية واليسارية وكل الذين عارضوا الانقلاب.
وقالت جماعات حقوق الإنسان إن نحو 30 ألف شخص اختفوا أو جرت تصفيتهم جسديا، واستمر الحكم العسكري في التنكيل بالمعارضين فيما عرف بـ”الحرب القذرة”، من خلال الإخفاء القسري والخطف التعذيب والقتل.
ومع حلول الثمانينيات، أدت السياسة الاقتصادية الكارثية إلى استياء عام في البلاد، ثم فشل الجيش في التعامل مع الغزو البريطاني لجزر فوكلاند في 1982، وكان هذا هو العامل الحاسم الذي أسقط الحكم العسكري، وأذن بعودة الديمقراطية إلى الأرجنتين في عام 1983. وفي عام 1985 جاء وقت الحساب، فبدأت محاكمة المسؤولين عن ما حل بالبلاد من كوارث.
سقوط العسكر.. بداية رحلة الانقلابيين إلى المحكمة
يعيد الفيلم الذي أخرجه الموهوب “سانتياغو ميتري” بناء الأحداث بطريقة مشوقة، حتى عندما ينحصر الحدث داخل قاعة المحكمة، فنحن لا نشعر بالملل ولا بطغيان الحوار رغم كثرته وكثرة المعلومات التي تتردد على ألسنة الشخصيات المختلفة، بسبب براعة المخرج في التمهيد وخلق الجو المناسب والتصميم المتميز للمشاهد، فهو يعرف متى ينتقل من لقطة إلى أخرى، ومتى يقف أمام لقطة محددة، وكيف يمكن استدعاء الماضي إلى الحاضر والتذكير دائما بما اقترفته الطغمة العسكرية في حق الشعب.
يبدأ الفيلم بما يتردد عن اعتزام القيادة السياسية الجديدة في البلاد تقديم قادة الانقلاب العسكري للمحاكمة، لكن هناك تشكك في إمكانية حدوث محاكمة كهذه على أرض الواقع، فالقادة السابقون ما زالوا يتمتعون بهيبة ونفوذ كبير، وهم يتمسكون بمحاكمة عسكرية، من أجل أن تطلق سراحهم بعد أن تتبنى وجهة نظرهم التي تتلخص في أنهم كانوا يحمون البلاد من الفوضى، ومن القوى الإرهابية والمخربين، وهي الادعاءات الجاهزة دوما لدى المستبدين والقتلة الذين يبررون جرائمهم.
ومع الضغوط الشعبية الكبيرة، يقرر قضاة المحكمة العليا -بعد مداولات وتصويت صعب في أجواء مشحونة- محاكمة قادة الانقلاب التسعة الذين يمثلون الأفرع المختلفة في الجيش والمخابرات أمام محكمة مدنية فيدرالية، وإسناد مسؤولية الادعاء إلى المدعي العام “خوليو ستراسيرا”.
“خوليو ستراسيرا”.. موظف بيروقراطي يحاكم أصحاب النفوذ
“خوليو ستراسيرا” كما نراه في البداية هو موظف بيروقراطي ورب أسرة محافظ يميل إلى تفادي المشاكل، وهو يشك في احتمال أن تكون السلطة الجديدة تضمر له شرا، أو تريد أن تستخدمه في محاكمة هزلية أو تمثيلية تنتهي إلى تبرئة الانقلابيين.
يستولي عليه الهم والغم والشعور بالكآبة، خصوصا أنهم عينوا أمامه للدفاع عن العسكريين قاضيا يمينيا شرسا يعرفه جيدا، ويعرف أنه على صلة بكثير من أصحاب النفوذ في الدولة.
لم يجد القضاء العسكري فيما فعله العسكريون أي قضية، والرئيس الجديد الذي يدير الأمور من وراء الستار يبدي بعض التحفظات وكأنه يلعب على الحبلين، لكن سيأتي وقت يستقبل فيه “ستراسيرا” ويشجعه ويثني عليه، فقط بعد أن يكون الرأي العام قد استنهض وأصبح يدعم المحاكمة المرتقبة بكل قوة. لكن المناخ ليس سلسا، والطريق ليس معبدا تماما، فقوى الثورة المضادة موجودة وكامنة، ولن تتخلى أبدا عن أسلحتها، أما التخلص من النظام القديم فلن يكون سهلا. هذا ما يقوله الفيلم بوضوح عند نهايته.
تبدو “سيلفيا” زوجة “ستراسيرا” أكثر تفاؤلا منه، وهي تشجعه على قبول القضية، وكذلك يفعل ابنه المراهق وابنته الشابة التي تربطها علاقة حديثة بشاب يشك “ستراسيرا” في أنهم دفعوه دفعا للتجسس عليه وعلى أسرته، لذلك يشجع ابنه على مراقبة تحركات أخته والعودة إليه بالتفاصيل.
وعندما تصل أوراق الدعوى إلى مكتبه لا يجد مفرا من القبول، ومن هنا تبدأ التهديدات التي لا تتوقف له ولعائلته، لكن لا مجال للتردد أو للتراجع، فهو في نهاية الأمر يعرف دوره جيدا، ويعرف مسؤولياته أمام القانون. إنه نموذج تراجيدي للشخص الذي يجد نفسه في بؤرة الأحداث رغم أنفه، وربما يصبح أيضا بطلا دون أن يقصد أو يريد في أنظار الرأي العام.
تحدي المؤسسة العسكرية.. رعب في المناخ العام الأرجنتيني
تنزع العناصر الفنية في الفيلم إلى حقبة وقوع الأحداث، بدءا من الديكور والملابس وحتى نوعية الإضاءة الخافتة وتوزيع كتل الظلال، والألوان البنية القاتمة، إضافة إلى الإكسسوارات وطريقة تصميم شقة “ستراسيرا” وعائلته الصغيرة، فكل هذه العناصر الفنية توحي بأجواء الثمانينيات، لكنها تفصح أيضا عن شخصية الرجل، فهو تقليدي متحفظ يميل إلى العزلة والهدوء، ويلتزم بالرسميات مع قدر من التردد والخضوع لما تمليه عليه مقتضيات الوظيفة الرسمية.
ويقصد الفيلم ترسيخ كل هذه المعالم في أذهان المشاهدين من البداية، حتى تصبح أرضية مناقضة تماما لما سيطرأ من تغير على تكوين هذه الشخصية مع تطور الأحداث.
كان الرجل يشعر بالتوتر والخوف والتردد، وبأنه ربما يكون قد وقع في مصيدة تسيء إليه وتجعله أداة للسخرية، وربما يتعرض أيضا للاغتيال أو يفقد أحد أفراد أسرته حسب التهديدات التي يتلقاها، وكان ذلك يرسم مناخا من الرعب الذي كان يسود المجتمع الأرجنتيني بعد سبع سنوات من وقوع الانقلاب العسكري الدموي.
والآن نحن في 1985 عام الحسم، إما النكوص عن الإصلاح الديمقراطي، أو المضي قدما وتحدي المؤسسة العسكرية، بالاستناد إلى قوة الشعب نفسه وتصميمه على استعادة الديمقراطية.
معسكر الادعاء.. خلافات بين الناشط الحقوقي ورجل القانون
يدور سيناريو الفيلم حول شخصية “ستراسيرا”، ويركز على ما يطرأ عليه من تغيرات، كما يبتكر شخصيات أخرى مساندة له، أغلبها شخصيات حقيقية. أولها شخصية أستاذه ومعلمه العجوز الذي يقف مع ضرورة مواجهة القادة العسكريين وتعريتهم أمام الشعب، متحدثا عن التاريخ، بينما يقول له “ستراسيرا” إنه لا يجد نفسه ممن يصنعون التاريخ.
وعندما يلجأ إلى صديق له على اطلاع بالقانون لاختيار نائب له لا يكون محسوبا على النظام القديم، يستعرض الاثنان أسماء عدد من رجال القانون واحدا بعد آخر، وفي مشهد ذي طابع كوميدي يجري استبعادهم واحدا وراء آخر، فهذا “فاشي”، والآخر “فاشي جدا”، والثالث “سوبر فاشي”، والرابع “ميت”.. وهكذا.
يعين بعد ذلك مساعد من جيل أصغر هو “لويس مورينو”، وهو ليس ضليعا في القانون لكنه ضليع في مجال حقوق الإنسان. الزمن المتاح أمام الاثنين لتقديم الدفوع القانونية ضد المتهمين التسعة وبدء المحاكمة خمسة أشهر فقط. ولا بد من الاستعانة بفريق من المحامين يجمعون الأدلة والشهادات، ويبحثون عن من يمكنهم الإدلاء بشهاداتهم أمام القضاء. وهنا يقترح “مورينو” الابتعاد تماما عن المتخصصين، والاستعانة بمجموعة من الشباب من النشطاء وطلاب القانون، فهؤلاء هم الذي يمكنهم منح القضية طابعا يتعاطف معه الشعب.
تبدأ اختبارات القبول ويرسو الأمر على عدد من الشباب المتحمسين الذين ينتشرون في ربوع البلاد، يلتقون بالأشخاص الذين فقدوا أحباءهم، أو الذين غادروا معتقلات النظام مؤخرا، حيث تعرضوا لأقسى أنواع التعذيب، وهكذا.
لن تسير الأمور بين “ستراسيرا” و”مورينو” في طريق مستقيم، بل ستعتريها بعض الخلافات بحكم اختلاف المفاهيم، فهناك فارق بين الناشط المناضل من أجل حقوق الإنسان المنحاز سلفا لقضية الشعب ضد العسكريين، وبين رجل يتشبث بالقانون، ويريد أن يلتزم بما يعرفه من خلال خبرته.
“مورينو” سيتهم “ستراسيرا” بالصمت عن ما جرى أثناء الحكم العسكري، وأنه صمت عن ما كان يحدث من انتهاكات، مفضلا الصمت والتواري عن الأنظار، بينما يشير “ستراسيرا” إلى تاريخ عائلة “مورينو” ذات الخلفية العسكرية، وكيف أن والدته ما زالت تدافع عن الجنرالات وتبدي تعاطفها معهم.
إدانة الجنرالات التسعة.. شهادات دامغة في قاعة المحكمة
عندما ننتقل إلى المحاكمة نفسها، نرى قادة الانقلاب يدافعون ويبررون بكل وقاحة كل ما قاموا به من مجازر في حق الشعب بدعوى حماية الأمة، حتى وهم يستمعون إلى شهادات دامغة تثير الأسى والحزن، مثل شهادة “أدريانا” التي اعتقلت وهي حامل، وتعرضت لأقسى أنواع التعذيب منذ وضعها في سيارة الشرطة.
نجح “ستراسيرا” في تقديم 709 حالات في تقرير من آلاف الصفحات، كما تقدم للشهادة ضد الانقلابيين حسب ما يظهر من معلومات في نهاية الفيلم 833 شخصا، نشاهد منهم نماذج قليلة بالطبع، بحيث تخدم موضوع الفيلم.
يقف “ستراسيرا” في النهاية يلقي كلمة شديدة التأثير في المشهد الأخير الذي لا يعتبر فقط إدانة للجنرالات التسعة، بل للديكتاتورية العسكرية والديكتاتورية عموما في كل مكان. لقد أصبح “ستراسيرا” المتردد الخائف بطلا شعبيا، ونجحت القضية وصدرت أحكام بالسجن المشدد على غالبية المتهمين، ونال قائد الانقلاب حكما بالسجن مدى الحياة، ولا يزال سجينا حتى اليوم.
مزج الواقع بالخيال.. سرد تاريخي مزخرف بألوان الدراما الحية
هذا أحد الأفلام السياسية التي تمزج بين الواقع والخيال، أي تضيف وتتخيل ما يمكن أن يكون قد دار وراء الكواليس، وهو أمر مشروع تماما في الدراما، ومن دون ذلك يكون الفيلم مجرد إعادة تصوير نمطي لما هو معروف ومتداول من معلومات، ولا شك أن صناع الفيلم وبالأخص كاتب السيناريو “ماريانو ليناس” الذي تعاون في كتابة النص السينمائي مع المخرج “سانتياغو ميتري”، قد أجرى كثيرا من الأبحاث، واستعان بشهادات كثير ممن عاصروا المحاكمات، ووثقها وأعاد صياغتها ضمن المادة الدرامية للفيلم.
لم يكن الفيلم مجرد قراءة لما ورد في التقارير الصحفية والكتب، فالشخصيات حية من لحم ودم، لها وجودها الدرامي على الشاشة بغض النظر عن مدى مطابقتها للواقع، كما نرى على سبيل المثال في شخصية ابن “ستراسيرا” الذي يتطوع للتلصص على اجتماع قضاة المحكمة العليا في المقهى من الخارج، إذ يحاول أن يقرأ ما تقوله شفاههم، يراقب كل حركة تصدر عنهم، وكيف جرى التصويت. صحيح أن هناك بعض المبالغات التي تضفي الطابع الكوميدي على بعض المواقف، لكن لا بأس، فالمطلوب أيضا التخفيف أحيانا من وقع الدراما الثقيلة.
هناك مشهدان من مشاهد “الفوتو مونتاج”، أي تلك المشاهد التي تتعاقب فيها الصور واللقطات على خلفية موسيقية، بشكل سريع مكثف، بحيث تلخص الحدث وتختصره دون أن يثقل على كاهل الفيلم. المشهد الأول عند اختبار مجموعة المحامين والنشطاء الشباب من خلال السؤال والجواب، أو مجرد تعليق على القضية وما يعرفونه عنها، والمشهد الثاني عند ذهابهم إلى الريف والمدن البعيدة عن العاصمة، وبحثهم عن الشهادات وجمع الأدلة، وما يتعرضون له من مضايقات أو ما يلقونه من ترحيب.
يتغير موقف والدة “مورينو” المؤيد للجنرالات بحكم انتمائها العائلي، بعد أن تستمع إلى شهادة “أدريانا” الدامغة التي لا تترك مجالا للتعاطف مع هؤلاء العسكريين المجرمين الذي يحاكمون على ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية.
“ريكاردو” و”بيتر”.. أداء بديع يعكس تقلبات الشخصية
يرتفع أداء الممثل “ريكاردو دارين” في دور “ستراسيرا” بالشخصية وبالفيلم إلى أرفع مستوى في تهكمه وتشككه وتحفظه، ثم قبوله المتردد وخشيته من العواقب، ثم مع الدعم الذي يلقاه من مساعده الشاب، ثم من مجموعة الشباب الذين يدفعون بروح جديدة إلى القضية، يتشجع ويصبح أشد وأكثر صلابة عن ما كان في أي وقت، ويمضي مستعدا للموت دون التراجع عن الدفاع عن حق الشعب في محاكمة جلاديه.
يليه في الأداء البديع الممثل “بيتر لانزاني” في دور “مورينو أوكامبو”، وهو مساعده الشاب الذي يعاني من ماضي أسرته المحافظة، ويشعر بغربة وعذاب بسبب موقف أمه التي تريده في البداية أن يتخلى عن القيام بأي دور في القضية، إلى أن يتغير الحال مع انكشاف الحقائق. إنه لا يؤدي دورا في فيلم، بل يعيش الواقع كمواطن أرجنتيني رافض لعودة الديكتاتورية، ولذلك تحمس “لانزاني” أيضا وشارك في إنتاج الفيلم.
تتلخص رسالة الفيلم الأخيرة في صيحة “ستراسورا” وهو يكرر أن ما وقع “لا يجب أن يتكرر أبدا”.