“حديد، نحاس، بطاريات”.. حب مستحيل بين لاجئ سوري وعاملة أثيوبية في بيروت

أمير العمري

هل يمكن أن نتخيل نشوء قصة حب بين لاجئ سوري شاب في لبنان وبين خادمة أثيوبية، بحيث يصبح هذا الحب ضمانا لعدم الوقوع في دائرة الجنون بسبب كل ما يحدث حولهما وما يحيط بهما من تعقيدات ومشاكل؟

هذا ما يصوره الفيلم اللبناني “حديد، نحاس، بطاريات”، وهو الفيلم الروائي الطويل الثاني لمخرجه وسام شرف، فهو عمل بسيط، ولكن بليغ، مقتصد في السرد والتفاصيل، يكتفي بما هو ضروري، ويستبعد كل ما هو زائد ويمكن أن يكون مكررا يصيب المشاهدين بالملل. فالسينما هي فن اقتصاد الزمن.

يحمل الفيلم عنوانا غريبا، يختلف بعض الشيء في عنوانه الإنجليزي وهو “قذر، صعب، خطير” (Dirty, Difficult, Dangerous)، وقد أراد مخرجه منذ البداية أن يبتعد عن الموضوع الاجتماعي، كما يقول في تصريحاته، إلا أنه لم يقدر، فالعامل الاجتماعي يفرض نفسه، لكنه لجأ إلى أسلوب جعل فيلمه يبدو من الظاهر، كما لوكان تعليقا ساخرا على المأساة الجماعية التي يعيشها الجميع في لبنان في الزمن الحالي، ولكن تركيزه انصب على المأزق الفردي للإنسان ومفارقاته، في واقع شبه عبثي، تزداد عبثيته وعدم جدواه عندما يكون هذا الإنسان أيضا هامشيا بائسا يطارده الواقع كما تطارده كوابيسه.

 

أحمد.. لاجئ سوري على هيئة زومبي

في الفيلم شخصيتان رئيسيتان؛ أما أحمد فهو لاجئ سوري في بيروت، محظور عليه العمل شأن كل السوريين، مضطر مع أمثاله للاختفاء عند ساعة معينة في المساء، رضوخا لحظر التجوال المفروض على السوريين في لبنان، يضطر إلى اللجوء لجمع بقايا الأدوات والأجهزة المعدنية أو بطاريات السيارات المستهلكة، وتسليمها للتاجر الذي يشغله ليدفع له أقل القليل من المال.

إلا أن أحمد لديه أيضا عاهة مستديمة نتجت عن انفجار قنبلة، فالنصف الأيمن من جسده مليء بالشظايا المعدنية التي تجمعت داخل الجسد، وشكلت كتلة معدنية من الصلب ليس من الممكن إزالتها، بل لقد أصبحت هذه الكتلة تلتحم مع خلايا الجسد وتجعل صاحبه أقرب ما يكون إلى “الزومبي”. ولكنه بدلا من أن ينهض من الموت، أصبح يوما بعد يوم أقرب إليه.

مهدية.. راعية اللواء الخرِف ومصاص الدماء

الشخصية الثانية هي مهدية، وهي فتاة أثيوبية نحيلة ضعيفة البنية، جاءت إلى لبنان عن طريق وكالة لتشغيل الخادمات، فألحقت بخدمة رجل مسن وزوجته هما إبراهيم وليلى، وهي تقوم بكل الخدمات الأساسية مثل شراء مستلزمات البيت والغسيل والكي والتنظيف.. إلخ.

نظرات الشقاء والحزن في عيني مهدية الاثيوبية

 

وإضافة إلى مهام المنزل يطلب من مهدية رعاية إبراهيم بوجه خاص. وإبراهيم هذا كان في السابق لواء في الشرطة أو الجيش، وقد أصابه الآن الخرف جراء الشيخوخة، فأحيانا يتذكر وأحيانا أخرى ينسى، ويستعيد أحيانا دوره كضابط يمكنه أن يأمر وينهى.

يتسبب إبراهيم في كثير من المشكل عندما يخرج إلى الشارع، ولكن ليس هذا هو مربط الفرس، فالأهم أنه يصاب بنوبات ليلية طارئة تجعله يتخيل نفسه مصاصا للدماء، فيهجم على المسكينة مهدية، يحاول أن يعض رقبتها ويفتك بها.

“الجميع يكره الجميع”.. قصة حب مستحيلة في مناخ ملوث

هذه الشخصية جزء من حالة هلوسة أصابت المجتمع اللبناني الذي يصفه المخرج وسام شرف بأنه يعاني من غياب الحب بعد أن أصبح “الجميع يكره الجميع.. اللبنانيون لا يحبون اللاجئين، والسوريون لا يحبون الأثيوبيين، والعكس”.

ولكن من قلب مناخ الكراهية هذا، تنشأ قصة الحب المستحيل بين أحمد ومهدية، كلاهما على هامش الدنيا، لا يملكان شيئا، وكلاهما ضحية الحروب والفقر والتخلف. ولكن بينما يعاني أحمد من الشعور بالغربة حتى وسط أقرانه من السوريين الشباب الذين قضي عليهم بالعيش إما في مخيمات اللاجئين خارج المدينة، أو داخل بنايات مهجورة؛ تعاني مهدية من قسوة المعاملة، واعتداءات اللواء السابق المختل الذي يعتبرها على ما يبدو الهدف الضعيف الذي يفرغ فيه هلوساته البصرية.

مهدية تتزين في محل تديره مجموعة من الاثيوبيات في بيروت

 

لقاءات الشارع.. شغف مشتعل يؤدي للهروب من المنزل

كلما سمعت مهدية صوت أحمد وهو يمر في الشارع أسفل البناية يعلن بصوته للسكان: “حديدـ نحاس، بطاريات”، تسرع إلى لقائه والتعبير عن حبها له ورغبتها في الفرار معه.

تضطر مهدية للفرار ذات يوم من البيت الذي تخدم فيه، ولكنها سرعان ما تقع في قبضة الشرطة التي تسلمها إلى الوكالة التي أتت بها من أثيوبيا، وهناك تخضع للاستجواب والتوبيخ والتهديد ويقول لها مدير الوكالة إنهم يمكنهم أن يأتوا بفتيات أقل تمردا وأكثر خضوعا من بنغلاديش وسريلانكا ومدغشقر، وأنهم سيقومون بترحيلها إلى بلدها الأصلي الذي ليس لديها عمل فيه، بل إن عملها في بيروت يكفل لها إرسال بعض النقود القليلة إلى أمها المريضة.

تشترط السيدة ليلى لعودتها وعدم ترحيلها إلى بلدها، أن تخضع لما يملى عليها، وأن تقبل أن تظل داخل الشقة لا تغادرها. وهو ما لا يقبله قلبها بسبب حبها لأحمد ورغبتها في أن تكون معه. وتكون النتيجة أنها تهرب، كما يقرر هو أيضا أن يهرب معها، لكن أمله في الحياة قليل بسبب إصابته التي تزداد توغلا داخل أحشاء جسده يوما بعد يوم. أين المفر إذن؟

ضحايا الواقع.. نقد سينمائي شامل لمجتمع متشابه

هذا الفيلم الذي بين أيدينا بسيط ولكنه عميق، شخصياته مرسومة بدقة ووضوح، بعيدة عن الادعاء والافتعال. والمواقف تتداعى في سياق منطقي، ولكنها تشي بأنها أيضا يمكن أن تكون أجزاء من نسيج سينمائي يمتد أبعد من الشاشة، أو مزيجا من الواقع والخيال. لا يوجد هنا تعليق سياسي مباشر أو نقد اجتماعي صارخ أو تركيز كبير على قضية اللاجئين السوريين في لبنان، إلا من خلال إشارات بسيطة عابرة، ولقطات تمضي بسرعة لكنها تظل في الذاكرة.

المخرج مع فريق العاملين في فيلمه في مهرجان فينيسيا السينمائي

 

واللاجئون السوريون هنا ليسوا بمنأى عن النقد، فهم أيضا يسخرون ويتهكمون على علاقة أحمد بمهدية الأثيوبية، فالعنصرية كامنة والنبذ قائم عند الجميع، والفيلم لا يريد أن يقسم شخصياته ببساطة إلى ضحايا ومجرمين، فالجميع هم ضحايا الواقع نفسه، بمن فيهم ذلك اللواء السابق وزوجته. لقد فقدا الأمل في كل شيء، وأصبحا في الحقيقة يقيمان داخل شقة ضيقة تشبه السجن.

الأحداث أو المفارقات التي نشاهدها، تمضي في إيقاع رصين متوازن، والانتقالات بين الداخل والخارج دقيقة وتأتي في وقتها تماما، وبناء الفيلم بشكل عام متماسك، فيه من الواقعية بقدر ما فيه من الرومانسية، ونهاية الفيلم المفتوحة نهاية طبيعية، فمن الذي يمكنه أن يغلق دائرة مستمرة لا تبدو لها نهاية لمثل هذه المآسي والإحباطات.

تجربة ذاتية.. المخرج يحكي قصته

استمد المخرج مسألة آثار القذيفة التي تغلغلت في جسد أحمد من تجربته الذاتية، فقد أصيب خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وكان وقتها في عامه التاسع -كما يقول في إحدى مقابلاته- عندما انفجرت في يده قنبلة يدوية أصر على التشبث بها دون أن يعرف خطورتها، وبعد مرور الزمن أصيب إصابات بالغة جراء انفجار ميناء بيروت قبل عامين، مما اقتضى إجراء عملية جراحية معقدة لعلاج جروحه، ونال 70 غرزة في ظهره. وهكذا أصبح هو نفسه نموذجا مجسدا يدل على قسوة “الحالة اللبنانية”.

 

وسام شرف.. أسلوب ذكي لإخراج مواهب الممثلين

يجب أن أعرب هنا عن إعجابي بأسلوب المخرج وسام شرف في إدارة مجموعة الممثلين الذين شاركوا في الفيلم، وهم بشكل أساسي زياد جلاد (أحمد) الذي أجاد في أداء دوره، رغم وسامته الزائدة التي ربما تكون قد جعلته أقرب إلى نجوم السينما من اللاجئين السوريين البؤساء، والممثلة الأثيوبية الشابة “كلارا كوتريه” التي أدت الدور بشكل طبيعي تماما، مع معرفة جيدة باللغة العربية، وساهمت الكيمياء أو ذلك الانسجام بينها وبين زياد جلاد، في إضفاء المصداقية على العلاقة العاطفية التي تدور بينهما في الفيلم.

 

لقطة لمهدية في بلدها أثيوبيا- من الذاكرة

 

أجاد أيضا الممثل اللبناني رفعت طرابي في أداء دور إبراهيم بكل طابعه الكاريكاتوري بمبالغاته الكوميدية، وكذلك الممثلة دارينا الجندي في دور السيدة ليلى التي تبحث عن مصلحتها ومصلحة زوجها، وإن كانت لا تفتقد لطيبة القلب عندما يستدعي الأمر.

لقد بدا أن الممثلين جميعا، يستمتعون بالتجربة، يندمجون في التعامل معا كما لو كانوا يعيشون تجربة حياة حقيقية، ربما لقربهم منها على الصعيد الإنساني، وبالتالي فقد أصبحوا جزءا من الدراما التي استدرجهم إليها وسام شرف.

مهرجان البندقية.. جائزة أفضل فيلم أوروبي

لا أتفق مع الذين شبهوا هذا الفيلم بأفلام المخرج الفلسطيني إيليا سليمان والفنلندي “أكي كوريسماكي” والأمريكي “جيم جارموش”.

ربما تكون هذه هي رغبة المخرج نفسه، أي أنه يريد أن يكون مثل هؤلاء المخرجين، إلا أن أسلوب فيلمه بعيد كل البعد عن أسلوب ولغة أفلام ما بعد الحداثة التي تميز أفلام هؤلاء المخرجين، كما لا يمكن اعتباره عملا كوميديا تماما.

 

صحيح أن هناك بعض المواقف التي تفجر الضحكات، لكن تحت هذه القشرة الكوميدية تكمن المأساة، بل إنه كثيرا ما يبدو واقعيا، مع بعض اللمسات السحرية ولكن دون أن يتجاوز الإطار الطبيعي، سواء في رسم المواقف أو الحوار والأداء.

عرض هذا الفيلم في تظاهرة “أيام البندقية” بالدورة الـ79 من مهرجان البندقية السينمائي، وحصل على جائزة أفضل فيلم أوروبي من الأفلام التي عرضت في تلك التظاهرة. وهو أوروبي فقط لكونه من الإنتاج المشترك بين لبنان وفرنسا وإيطاليا، مع مساهمة من قطر، كما نال دعما ماليا من مهرجان البحر الأحمر في السعودية.


إعلان