“محاربون في الميدان”.. رياضيون يكسرون جدران العنصرية في الملاعب الأسترالية

عبد الكريم قادري

عندما سألته وهي خلف الكاميرا عن أهم مواقف العنصرية الموجعة في مساره الرياضي، رد عليها اللاعب الأسترالي الأشهر في كرة القدم الأمريكية “مايكل أولفلين” بحسرة -بعد أحيت في قلبه تلك الآلام القديمة- بقوله: أن تكون وسط ملعب يوجد فيه حوالي 70 ألف متفرج ويصرخ أحدهم بقوله، قرد أو ساكن أصلي أو كلب أسود.

فما الذي حدث له ولزملائه اللاعبين من السكان الأصليين؟

“لاريسا بهرندت”.. درع الدفاع السينمائي عن السكان الأصليين

عادت المخرجة والكاتبة الأسترالية “لاريسا بهرندت” (53 سنة) في فيلمها الجديد “محاربون في الميدان” (Warriors on the Field) إلى الحقوق المدنية والتمييز العنصري الذي يحدث في أستراليا من طرف بعض البيض انطلاقا من لون بشرة السكان الأصليين، خاصة في ملاعب كرة القدم الأمريكية.

وقد عرف عن هذه المخرجة أنها من أشد المدافعات عن حقوق السكان الأصليين التي هي منهم، وناشطة اجتماعية وقانونية وأكاديمية، كما ألّفت عددا من الكتب في هذا المجال، وأخرجت أفلاما في نفس هذا السياق، مثل الفيلم الوثائقي “بعد الاعتذار” (After the Apology) الذي أنتج سنة 2017، وحصد عددا من الجوائز المهمة، ولقد تناولت فيه جانبا آخر من حقوق السكان الأصليين المهضومة في الرعاية الصحية والتعليم وغيرها.

لاريسا بهرندت مخرجة العمل ومن أهم المدافعات عن حقوق السكان الأصليين في أستراليا

 

ويأتي فيلمها الأحدث “محاربون في الميدان” الذي بدأ عرضه في النصف الثاني من السنة الجارية (2022) ليستكمل تلك الخطوات العملاقة في مجال الحقوق المدنية، وهذا من خلال تركيزها على التمييز العنصري الذي يحدث في ملاعب كرة القدم في الدور الأسترالي، حيث ينعتون بعدد من الصفات القبيحة، في محاولة منهم للانتقاص من قيمتهم، ومن أجل التأثير على معنوياتهم في اللعب.

“ما يدور في الملعب هو انعكاس لما يحدث”

اختارت المخرجة ثلاث شخصيات أساسية في فيلمها “محاربون في الميدان”، وهم من لاعبي كرة القدم الأمريكية في الدوري الأسترالي الممتاز ومن أجيال مختلفة، كما استأنست بشخصيات أخرى عانت من سهام التمييز من قبل السكان غير الأصليين.

وفي المقابل ركّزت بشكل أساسي على اللاعب الأشهر والمميز والناشط الحقوقي والمدافع الشرس عن حقوق السكان الأصليين، خاصة الأطفال الذين قدم لهم عددا من المساعدات العينية، أو ساهم من خلال مشاريعه المجتمعية في تحسين حياتهم لإبراز مواهبهم في جميع المجالات، وهو اللاعب الموهوب “مايكل أولفلين” (45 سنة) الذي حاز على لقب بطولة استراليا مرتين، كما سجل أكثر من 500 هدف، وهو أول من لعب 300 مباراة مع فريق “سيدني سوانز”.

يتحدث “مايكل” بمرارة عن أهم المحطات التي مر بها، حتى وصل إلى تلك الانتصارات الخالدة، وكيف تنقل من مدينة إلى أخرى مع أسرته في سبيل تحقيق أحلامه، رغم الضغوط الكبيرة التي كان يعاني منها في المدرسة وأندية كرة قدم الناشئين والفرق التي لعب معها، كانت الجماهير تناديه بأبشع الكلمات، لكن لم تتحرك أي جهة لوضع حد لهذا العنف اللفظي.

الملصق الرسمي للفيلم

 

كان “مايكل أولفلين” يرى بأن: “العنصرية متجذرة في أستراليا، وما يدور في الملعب هو انعكاس لما يحدث”. وهي نفس المعطيات التي ذهب إليها لاعبون آخرون، وهما “تارين توماس” (22 سنة) الذي عانى رغم صغر سنه من مواقف موجعة في أبرز محطات حياته، وهو نفس الأمر الذي حدث مع اللاعب “مايكل والترز” (31 سنة) الذي لم يسلم أيضا من تلك السهام المسمومة، ليكون هؤلاء الثلاثة الذي يجمعهم عرق السكان الأصليين، وحبهم الكبير لكرة القدم، وسهام العنصرية التي لا ترحم، ومن خلالهم سيعرف الجمهور ما يحدث في ملاعب أستراليا لكرة القدم الأمريكية.

“نيل وينمار”.. صورة أيقونية تكسر أغلال الخوف

استطاعت المخرجة “لاريسا بهرندت” أن تستعمل اللاعب “مايكل أولفلين” من أجل التواصل مع اللاعبين الآخرين، من هنا يتحول دوره من ضيف وضحية للأعمال العنصرية، إلى واحد من صنّاع فيلم “محاربون في الميدان”، أي أنه كانت لديه القابلية لاستخراج المواجع من ضيوفه، خاصة وأنهم ينظرون له كقدوة ومثال حي للنجاح، لهذا أسقط كل التحفظات التي يمكن أن تحدث، وسهّل من عملية البوح لدى الجيل المتوسط الذي مثّله “مايكل والترز” (31 سنة)، والجيل الجديد مثله “تارين توماس” (22 سنة)، والقديم مثله “أولفلين” شخصيا (45 سنة).

اللاعب مايكل أولفلين من السكان الأستراليين الأصليين، سجل اسمه في سجل خلود كرة القدم الأمريكية

 

وقد استعرضت خلال هذه المراحل جهود اللاعبين القدامى جدا من السكان الأصليين، من الذين قدموا الكثير لفرقهم، لكنهم في المقابل كانوا يحرمون من أبسط الحقوق، أي السهر مع زملائهم الآخرين في فضاء واحد، وهي قمة العنصرية.

كما لم يكن من حقهم الرد على السكان البيض الذين كانوا ينعتوهم بأبشع العبارات العنصرية، حتى جاء اليوم الذي كسر فيه تلك القاعدة، وقد استند على نضال اللاعبين القدامى من الذين حطموا أغلال الصمت، على رأسهم اللاعب الأشهر “نيل وينمار” (56 سنة) الذي رفع قميصه وأشار بإصبعه إلى لون بشرته، وكأنه يقول إنها بشرة سوداء ويفتخر بها لكونه من السكان الأصليين، وهذا في أحد المباريات المهمة سنة 1993.

تحولت صورة “وينمار” إلى أيقونة شجعت كثيرا من اللاعبين من السكان الأصليين عن عدم الصمت ومواجهة العنصرية بكل أشكالها، حتى أنه نصب له تمثال كبير على شجاعته تلك.

صك التنازل عن اللغة والثقافة والقبيلة.. ثمن المواطنة

من الأشياء المهمة التي ظهرت في فيلم “محاربون في الميدان” خلال حديث الضيوف أو أبطال الفيلم، حرصهم الشديد على إظهار الامتنان الواجب اتجاه أسرهم وأقاربهم، انطلاقا من الدعم الكبير الذي قدموه لهم، من خلال التشجيع وزرع حب اللعبة في نفوسهم، إضافة إلى التضحيات الكبيرة التي قاموا بها من أجلهم، حتى أنهم تنقلوا من مدينة لأخرى حتى يعانقوا أحلامهم المؤجلة، إضافة إلى غيرتهم على ثقافة السكان الأصليين من رقص وغناء ولغة، تلك التي منعت في يوم ما في أستراليا.

وكان على أي فرد من السكان الأصليين إن أراد تسجيل نفسه كمواطن، أن يمضي على صك يتنازل فيه عن لغته وثقافته وقبيلته وكل ما اتصل بهويته، وقتها يمكن أن يكون مواطنا أبيض كامل الحقوق، وهذا ما وقف عليه “أولفلين” عندما زار أحد الأقارب من والده، فقد أراه الوثيقة التي أمضى عليها في خمسينيات القرن الماضي، من أجل أن تنعم أسرته ببعض الحقوق.

طريق التعدد الثقافي.. مصدر قوة الشعب الأسترالي المتنوع

تنعكس قيمة الفيلم الوثائقي “محاربون في الميدان” في مستويات جمالية متعددة، أبرزها الموضوع القوي الذي اختارته المخرجة “لاريسا بهرندت”، ولم يأتِ هذا الاختيار من عبث، بل لأنها تملك عليه مرجعيات قوية التزمت بها طوال مسارها الطويل في التأليف والإخراج والعمل الميداني، لهذا ظهر بتلك القوة وبذلك الوضوح. إضافة إلى جماليات البوح التي تجلت في العلاقات الأسرية، والحديث بكل تلقائية عن الأوجاع والأحزان التي سببها التمييز العنصري.

ثلاثة لاعبين من ثلاثة أجيال مختلفة وقعوا ضحايا للعنصرية

 

كما عبّدت طريقا مليئا بالأمل عن التعدد الثقافي الذي يمكن أن يحدث في أستراليا إن حوفظ عليه، لأنه سيكون مصدر قوة ونهضة، وهو السبيل الوحيد لهدم جدران العنصرية العالية، كما أظهرت عن طريق التصوير البانورامي الخاصية الجمالية البصرية التي تتمتع بها أستراليا، وهي امتداد الحقول والأراضي على مد البصر.

وكل هذه المعطيات دعمتها “لاريسا” بمواد أرشيفية مهمة خدمت بها موضوعها وقوته، ليكون هذا الفيلم وثيقة أخرى مهمة من وثائق “لاريسا بهرندت” الكثيرة، لتواجه بها مرض العنصرية الذي ما زال ينخر جسد بلدها إلى اليوم.