“جيرسي”.. لاعب الكريكت الذي ضحى بنفسه وفاء لابنه

تبقى السينما البوليودية موطنا لمفارقة كبرى، فهي الأكثر إنتاجا في العالم، أما حضورها في المهرجانات الكبرى أو في دراسات النّقد فدون حجمها بكثير، وهذا يعني أنها لا تحظى عند النقّاد بالتقدير نفسه الذي تجده عند المتفرّج. فقد سرت قناعة غير معلنة مدارها أن مقوماتها قد ضبطت، وليس كل ما ينتج منها سوى تقليب على أصل واحد، فيفتقد إلى الأصالة ولا يثير إلا الأذواق البسيطة. ويحتاج هذا الرأي أن يكون موضوع تفكير. ولعل فيلم “جيرسي” (Jersey) في نسخته النهائية (2022) للمخرج الهندي “غوتام تينانوري” الذي لاقى نجاحا تجاريا كبيرا أن يكون عينة ننطلق منها للخوض في هذه السينمائي.
يمزج الفيلم بين الدراما والرياضة، فيجعل مدار قصته على لاعب كريكت يعود إلى ميادين اللعب بعد الاعتزال بمدة، لمواجهة مشاكله المالية، ولتحقيق رغبة ابنه في رؤيته يحمل القميص الوطني، ويأخذ المتفرّج إلى ميادين اللعب ليثير حماسته بوقائع المقابلات وتقلباتها وإلى تفاصيل حياة لاعب الكريكت “أرجون تالوار” ليثير تعاطفه مع محنته.
بوليود.. مدرسة سينمائية تفوق هوليود وتتقاصر عنها
يشار إلى صناعة السينما النمطية الهندية بعبارة بوليود كما هو معلوم، والكلمة نحت من كلمتي بومباي، وهو الاسم السابق لمدينة مومباي عاصمة الترفيه في الهند، وهوليود مركز صناعة الأفلام الأمريكية. وفيه تعبير عن تعلق صناعة السينما هناك بنمط الإنتاج السينمائي الأمريكي.
ولا شكّ أن جميعنا يعلم أن هذه الصناعة أضحت اليوم ضخمة، لا تفتأ تكتسح الأسواق الجديدة، ولكن تقارير المختصين تذهب إلى أبعد من ذلك، فتؤكد أنها باتت تتفوق على السينما الأمريكية نفسها في مستويات كثيرة، فهي تنتج اليوم -فضلا عن الأفلام الوثائقية- نحو ألف فيلم روائي طويل سنويا، وتبيع حوالي 800 مليون بطاقة لأفلامها. أما على المستوى المالي، فزيادة على خلقها للنجوم الكثر، فهي تمثل مصدر الدخل الرئيسي لنحو عشرة ملايين مواطن في الهند فحسب.
ولكنها تبقى دون سينما هوليود طبعا من جهة الموارد والتأثير في تشكيل الرأي العام، وذلك لاقتصارها على أنماط معينة من الأفلام تقريبا، واستهدافها شرائح بعينها، وافتقادها لأذرع إعلامية واقتصادية تدعمها أو سياسية تجعلها أداة للغزو الثقافي ولتشكيل العقول وتصورات سكنى العالم، وفق رؤية محدّدة سلفا، كما هو الشأن بالنسبة إلى سينما هوليوود.
العشق الجارف.. قصص جامحة تصنع سحر الأفلام الاستهلاكية
تجمع بوليود عناصر جامعة تخترق مختلف أفلامها، فتقارب بينها وتمنحها هوية خاصة، وأهم تلك العناصر صدورها عن قصص شيقة تأخذ المتفرّج إلى عوالم الخيال وتدفعه إلى الحلم بحياة أخرى، حياة مثالية غالبا مع أبطال نموذجيين.

ويمثل العشق الجارف المتمرّد على الأعراف البالية مدار هذا السينما، فيعشق شاب فقير فتاة من الطبقة الراقية أو العكس، ويمثّل التباين الاجتماعي الحاجز الأساسي الذي يحول دون تتويج هذا العشق بزواج مستقرّ.
وكما يحدث في السينما الاستهلاكية عامة يكون الحبيبان على نصيب وافر الجمال واللطف، ويتمتّع الفتى بقدرات جسدية خارقة تخوّل له أن يتجاوز أعتى المصاعب، ثم تكون النهاية مؤثرة، سعيدة غالبا، حزينة محبطة أحيانا، ولكنها تظل مفروضة على مساق القص فرضا، متماشية مع النزعة الميلودرامية التي تحفّز مشاعر المتفرّج للتعاطف مع البطلين، وتتطوّر القصة غالبا دون أن تطرح قضايا المجتمع الشائكة لحرصها على أن تكون الفرجة متعة محضا.
سينما الاستعراض.. خيال يلوذ به المتفرج من الواقع المقرف
من مصادر الإمتاع في هذه الأفلام الاستعراض، فبوليود سينما استعراضية بالأساس عمادها الغناء والرّقص، وأشهر ممثليها من المغنين الرّاقصين، فتكون أغانيها جميلة معبّرة عن عواطف الحبيبين الملتهبة، يصحبها إيقاع سريع ينسجم مع الاستعراضات الشيقة ومهرجان الألوان الذي تعكسه الملابس، ومن هنا مأتى انجذاب عشاقها إليها. ولكن منه ما يلحقها من قدح عند مناوئيها. فكثيرا ما يشار إليها بشيء من الاستهجان على أنها أفلام الخمس عشرة أغنية والثلاث ساعات (الفيلم النمطي الأمريكي يدوم نحو ساعة ونصف)، ويُسخر من جوقة الراقصين الذين يظهرون فجأة ليؤدوا رقصات منغمة منسجمة على أنغام موسيقى جاهزة لا نعرف مصدرها.

وهي الاحترازات نفسها التي يبديها النقد الواقعي تجاه السينما الاستعراضية في موطن نشأتها الولايات المتّحدة الأمريكية، أو في مصر في الثلث الثاني من القرن الماضي خاصة، أو في سينما إيران ما قبل الثورة. وحجة أنصارها أنّ هذه السينما نمط خاصّ يقتضي تعاونا من المتفرّج ليسلّم بما يفارق منطق الأشياء في الواقع، فهي في النهاية خيال بديل يلوذ به المتفرج من الواقع المقرف.
“أرجون”.. شظايا الماضي المجيد تمزق الحاضر المنهك
يجعل فيلم “جيرسي” البلاء الحسن في رياضة الكريكت موضوعه الرئيسي، فلتلك الرياضة الجماعية الإنجليزية المنشأ وقع خاص على متابعيها في شبه الجزيرة الهندية، فيها يسدد الرامي الكرة بالمضرب، وعلى لاعب الفريق المنافس صدّها باستخدام مضرب أقل سمكا من مضرب الرّامي، ومن هذا التنافس الشديد تتولد الحماسة وتشتد.
يتخذ الفيلم من “أرجون تالوار” الشخصية الخيالية التي يبتكرها السيناريو بطلا لها، فيقدّمه على أنه لاعب هندي استثنائي في تاريخ هذه اللعبة، وحين يبلغ ذروة المجد مع فريقه “شانديغار” وهو ابن 26 عاما، ويحقّق أعلى معدل ضرب بعد نهائيات كأس دوليب 1985-1986، يُختار لتمثيل المنتخب، ثم يستغنى عنه بتعلّة حدوث خطأ في طباعة قائمة المدعوين، فيقرر في لحظة غضب أن يعتزل اللعب، ومن هنا تنقلب حياته رأسا على عقب.
يبدأ الفيلم بعد عشرة سنوات خلت، ويخبرنا بالماضي الماجد عبر لقطات فلاش باك، أمّا الحاضر فمختلف تماما، فالبطل “أرجون” اليوم عاطل عن العمل بعد تهمة كيدية بالفساد جعلته يفقد وظيفته في قطاع الأغذية، وبعد تلكؤ المحامي الذي يريد مبلغا ماليا كبيرا بدعوى رشوة القضاة، ليعيدوه إلى عمله، أما المنزل الذي يسكنه فخرب.

كل ذلك فضلا عن العذاب الذي يعيشه لشعوره بكونه خذل حبيبته فيديا ابنة الطبقة الراقية، فقد تحدّت الأعراف وتزوجته رغم ممانعة والدها، وهي تكافح اليوم من خلال عملها موظّفة للاستقبال في نُزل لتتدبر نفقات الأسرة، وها هو يشعر اليوم بأنه يخذل ابنه “كيتو” المغرم برياضة الكريكت، والذي يريد أن يهديه والده في عيد ميلاده قميص الفريق الوطني، وهو باهظ الثمن كثيرا بالنسبة إلى رجل عاطل عن العمل ومفلس.
كفاح الملاعب.. صناعة ابتسامة محفوفة بأشواك الطريق
يحاول المخرج أن يجعل “جيرسي” أكثر من فيلم عن رياضة الكريكت، فيفتح الحكاية على أكثر من محور، ويجعلها مدحا للأبوة بما تحمله من فداء وعطاء، فرغم ما يعيشه “أرجون” من فاقة ومن قهر لم يكن يشغله إلا أمر واحد، وهو كيف يجعل ابنه فخورا به وسعيدا بالقميص الذي يطلبه في عيد ميلاده.
ويبدو الفيلم في مستوى ثان مدحا للدور الاجتماعي والتربوي للرياضة، فـ”أرجون” الذي خاب ظنه بلعبة الكريكت قبل عشر سنوات كاملة يعود إلى الملاعب من جديد وينضمّ إلى فريق البنجاب، ثم يتحدّى قوانين الطبيعة، ومعارضة زوجته، ومكائد زملائه الذين يحاولون التخلّص منه، واحتراز رئيس الفريق الذي يريد أن يمنح فرصة التباري إلى شبان يكونون دعامة المستقبل.
وبعد بلاء خرافي يقلب كل المعطيات، ثم يقود فريقه للفوز بالكأس، ويتمكّن من زرع الابتسامة على شفتي ابنه “كيتو” بعد أن فشل قبل ذلك في إهدائه القميص الذي يريد.
قميص المنتخب.. وفاء الأب بعد الانتقال إلى العالم الآخر
أثناء مجريات المقابلات يصاب “أرجون” بوعكة صحية، ولكنه يصر على تحديها ليلعب المقابلة النهائية، ولكن بعد الفوز بالكأس تتعكر حالته الصحية بشكل متسارع وتنتهي بموته، ولا نعلم بهذه التفاصيل إلا سنة 2022، وقد غدا “كيتو” شابا ناجحا.
كما يدون “جاسلين شيرجيل” الصحفي الذي دعم أرجون باستمرار سيرته الذاتية بعنوان “جيرسي”، فتلقى نجاحا كبيرا، وفيها يكشف “جاسلين” أنه عثر مؤخرا على قائمة باللاعبين الذين اختيروا للمنتخب الهندي المتجه إلى إنجلترا سنة 1996، وكانت تتضمن اسم “أرجون” قبل أن يحول الموت دون تحقيق رغبته، ثم يستدعى ابنه ليحصل على القميص الذي كان سيرتديه وعليه اسمه.
هكذا يفي الأب من حيث لا يعلم بوعده لابنه بعد 16 سنة، وتكون حياته ثمنا للقميص، ولكن المفاجأة الأكبر تتمثل في كشف الطبيب أنّ معاناة “أرجون” من عدم انتظام ضربات القلب قديمة تعود إلى سنة 1986، فهو قد اتّخذ من عدم استدعائه لتمثيل المنتخب الوطني ذريعة لينفّذ وصية الطبيب بالانقطاع عن ممارسة الرياضة بسبب مرضه، ليحفظ خصوصيته فلا يعلم أحدا بحقيقة مرضه. وحينها فقط ندرك أنه لم يعد إلى هذه الرياضة إلا مرغما بعد أن ضاقت به الحال، وبات عاجزا عن أن يكون ذلك البطل في عيني ابنه.
أغاني الفيلم.. قيود بوليود التي لا يمكن الإفلات منها
هذا الفيلم هو نسخة معادة من فيلم 2019 باللغة الهندية، وهو تقليد سينمائي هندي شائع، ويحاول المخرج فيه أن يفتح الفيلم على آفاق جديدة، فيغذّي فكرة الروح الوطنية، ويرمز إليها بقميص منتخب الهند للعبة الكريكت ونضال “أرجون” من أجل تمثيل الراية الوطنية، كما ينفتح على الشأن العام، فيشير إلى الفساد الإداري والقضائي.
يسعى الفيلم إلى أن يتخلّص من الميلودراما التي تسم أفلام بوليود عامة، ومن القصة الرومنسية حدّ السذاجة، ومن مشاهد الرّقص المقحمة إقحاما غير مبرّر، ولكنه لا ينجح كثيرا في مسعاه، فتدور الأحداث خلال ثلاث ساعات على أنغام الأغاني المؤثرة، وترد في شكل صوت من خارج الإطار يعبر عن معاناة “أرجون” النفسية، معتمدة ضمير الأنا.
ما تنفك الأغاني تعضد عمل الكاميرا وهي تحاول أن تلتقط المؤثر العاطفي عبر الأداء وعبر ملامح البطل، مجسّدة إلحاح المخرج على استدراج المتفرّج إلى عوالم “أرجون” الوجدانية، بما فيها من شعور بالخذلان، ومن قهر لتقلّب الزمن الذي يمعن في إذلاله بعد سنوات النجاح والمجد، وتُوزّع هذه الأغاني على مفاصل من الفيلم بعينها، لتعيد إثارة تعاطفنا مع البطل كلّما خشي تحرّرنا من هذه المشاعر.
ولا يخلو الفيلم من مبالغات السينما البوليودية المعتادة، فـ”أرجون” بطل مثالي يمارس لعبة مثالية للغاية وينجح في رفع التحدي، ولكن نجاحه الباهر لن يكون بلا ثمن، فالسيناريو يخفي لنا انقلابا مفاجئا قد لا يخطر على بال المتفرّج، ولكنه يعدّ ضروريا لرفع منسوب التشويق وإكساب الفيلم هويته البوليودية.
خارج السرب.. أعمال متميزة تخرج من الغابة إلى العالم
كثيرا ما تختزل السينما الهندية في النموذج البوليودي الذي يستجيب لتطلعات استهلاكية معينة، وهذا صحيح إلى حدّ ما، فحيث تتوفر الظروف التي تسمح بتركيز صناعة سينمائية تميل السينما إلى نماذج جماهيرية، وإلى فرجة مسلية أيضا لكنها مسطحة للوعي، ومنتزعة لما للفن من دور الإزعاج وطرح الأسئلة العصية وحث على التفكير ومراجعة المسلمات، كذا شأن السينما في السوق الأمريكية أو البرازيلية أو المصرية حتى نهاية القرن الماضي على الأقل، أو النيجيرية.
وبالتوازي مع هذه الصناعة الضخمة لا نعدم وجود سينما مستقلة، لا تبحث عن الرّبح الأقصى بقدر ما تنشد الفن، فتنشغل أفلامها بالبحث عن لغتها السينمائية المميّزة قدر انشغالها بقضايا الحياة اليومية الهندية المعاصرة، ولكن قليلا منها فقط استطاع التسلل إلى الشاشات الأوروبية وحقّق نجاحا جماهيريا ونقديا شأن فيلم “رانغون” (Rangoon) الذي أخرجه “فيشال بهاردواج” (2017)، و”جرائم مومباي” (The Mumbai Murders) الذي أخرجه “أنوراغ كاشياب” (2016)، و”بادلابور” (Badlapur) الذي أخرجه “سريرام راغافان” (2015).
فمثل هذا المصير العالمي غير مضمون دائما، بل إنّ إدراكها لشاشات العرض المحلية يظل مغامرة لا تقلّ صعوبة عن توفير ميزانياتها المحدودة لإنجازها، فتبقى شجيرات منفصلة تحجبها غابات بوليود الكثيفة.