“من هي ميهري؟”.. إعادة إحياء أول رسامة تركية تجوب أرجاء العالم

يروي الفيلم الوثائقي “من هي ميهري؟” (?Kim Mihri) للمخرجة “بيرنا غينتشالب” القصة المجهولة للفنانة التركية “ميهري راسم باشا” التي تكتنف حياتها ولوحاتها الغموض، حتى أن كثيرا من الباحثين والمؤرخين الفنيين لا يجدون حرجا في القول إن بورتريهاتها ظلت سنوات طوالا معلّقة على جدران المتاحف، أو مكدّسة في الغرف المنسية، سواء في بلدها الأم أو البلدان الغربية التي احتضنتها وحقّقت لها بعض الشهرة والذيوع.
وسوف يُسفر هذا الفيلم بعد جولات المخرجة الأربع الرئيسية في إسطنبول وروما وباريس ونيويورك عن معرض شخصي للفنانة ميهري عام 2019، أي بعد 101 سنة من المعرض الذي افتتحته في منزلها، وكأنّ المُخرجة تريد القول إنها استعادت ميهري ثانية، واستردت كثيرا من بورتريهاتها وأعمالها الفنية التي توارت في مدارج النسيان.
“طريق الفنان يطول مع كل خطوة”
يشكل عنوان الفيلم الاستفهامي “من هي ميهري؟” مفتاحا مهما لاختبار الذاكرة الجمعية للناس، سواء في تركيا أو في باريس أو غيرها من مدن وحواضر العالم.
ومن خلال الإجابات الصريحة للمستجوَبين نكتشف أن قلة من المتخصصين في الفن التشكيلي يعرفون هذه الفنانة المميزة، حتى أن مخرجة الفيلم نفسها قد سمعت بها أول مرة في عام 2013 عندما حضرت ندوة عن تاريخ الفن التركي فشعرتْ بالحرج والارتباك، فلا غرابة أن تكرّس سنوات عدة من حياتها لإنتاج أول فيلم وثائقي على الإطلاق يتناول الحياة الشخصية لميهري راسم، ويركز على بعض أعمالها الفنية الموزعة بين البلدان الأربعة المذكورة سلفا.
وقد كانت هذه الرحلات مليئة بالمفاجآت والاكتشافات الجديدة والطرائف والأكاذيب البيضاء التي اكتشفتها، لكونها أصبحت مؤرخة فنية لا تفوتها شاردة أو واردة.
وعلى الرغم من أن مدة الفيلم لم تجتز الـ90 دقيقة، فإن كاتبته ومخرجته “بيرنا غينتشالب” ناقشت فيه عددا من الموضوعات الحسّاسة، مثل الماضي والحاضر، والشرق والغرب، والحريات الخاصة والعامة، وضرورة المساواة بين الجنسين، والحُب والزواج والخيانة الزوجية، وما إلى ذلك من أفكار ووجهات نظر يكتظ بها متن الفيلم وسرديته الأدبية والبصرية الرصينة والشائقة.
أوضحت المخرجة في بيان صحفي لها أنها لم تُقدم ميهري على أنها مخلوقة أسطورية متفوقة أو ضحية فقيرة، وإنما بصفتها امرأة موهوبة تعيش الحياة بالطريقة التي تريدها، سواء أكان العالم الذي تعيش فيه مستعدا لذلك أم لا.
وأكثر من ذلك فقد كتبت ميهري رغم ندرة مذكراتها وقلة تصريحاتها بأن “طريق الفنان تطول مع كل خطوة”. تُرى، هل استطاعت المخرجة أن تتتبّع خطوات ميهري الشخصية وتتقصّى أعمالها الفنية والآثار التي تركتها على المتلقين ممن شاهدوا منجزها في البلدان الأربعة آنفة الذكر؟
قصاصات الأخبار والأشرطة والوثائق.. مصداقية الفيلم
يعتمد الفيلم في بنيته المعمارية على تقنية السؤال والجواب، وبعض التعليقات الصوتية كلما وجدت المخرجة ضرورة في التعليق أو المداخلة التوضيحية التي تفكّك إشكالية ما، وتعالجها بطريقة ذكية وجذابة.
كما استعانت “بيرنا” بمخرج الرسوم المتحركة “بيرات إيلك” الذي نجح في انتشال ميهري من جمودها، وحركها أمامنا بطريقة فنية لافتة للانتباه، مستثمرا قدرة الفنانة “فريدة جيتين” في تجسيد صورها. أما المشاركون في الإجابات فهم 23 شخصية، وغالبيتهم من الفنانين التشكيليين والمؤرخين الفنيين الذين كرسوا حياتهم للفن التركي.

لا تريد مُخرجة الفيلم أن تأخذ الأمور على عواهنها، وتضمّن سرديتها البصرية كل ما تسمعه من الآخرين، قبل أن تتأكد من كل خبر، وتُثبت صحته بالأدلة الدامغة التي لا يرقى إليها الشك، وهي لا تقتنع في الأعم الأغلب إلا عندما ترى وثيقة رسمية، أو تقرأ قُصاصة خبر منشور في صحيفة محلية أو عالمية، أو تسمع شريطا مسجلا يقتل شكها باليقين.
عوالم ميهري.. همزة وصل بين حقبتين وحضارتين
تنتمي ميهري راسم إلى العقود الأربعة الأخيرة تقريبا من نهاية الدولة العثمانية، والعقود الثلاثة الأولى من بداية الجمهورية التركية الحديثة التي انطلقت رسميا في 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 1923، وكأن حياة ميهري (1885-1954) التي امتدت لـ67 عاما وبضعة أشهر هي همزة الوصل بين الحقبتين العثمانية والجمهورية، وما تنطويان عليه من إرهاصات عسكرية وسياسية وثقافية واجتماعية أفضت بالبلاد والمواطنين الأتراك إلى الحداثة والتحرر بأشكاله المتعددة. وبقدر تعلّق الأمر بميهري راسم، تسعى مخرجة الفيلم لربط الفن العثماني بالتركي، وتعالق التركي مع الفن الأوروبي والأمريكي.
ارتأت المخرجة أن تقدم بعض المعلومات المتفرقة التي ستنتظم لاحقا ضمن سيناريو الفيلم المُعزّز بالأدلة الرصينة والشائقة. وبما أن القصص العاطفية هي الأكثر إغراء لمختلف الأعمار، فلا غرابة أن تأتي قصة “غابرييل دانونزيو” كزير نساء في مقدمة هذه القصص اللافتة للانتباه.
وكما أشرنا سلفا فغالبية المتحدثين لم يعرفوا الفنانة ميهري راسم، وإذا كان البعض قد سمع باسمها، فإنه لا يعرف شيئا عن بورتريهاتها وأعمالها الفنية الأخرى، كما هو الحال مع الفنانة “جانان شاهين”. فيما يعترف البعض الآخر بأنه لم يسمع باسمها أبدا، كما تصرّح الباحثة في علم الاجتماع “هُوليا أوغور”.

وعلى الرغم من أن “تومور عطاكوك” تعمل في متحف، فإنها لم تعرف ميهري راسم ولم ترَ عملا واحدا لها. أما المؤرخة المختصة بتاريخ الفن التركي “بورجو بيلفان أوغلو” فلا تجد حرجا في القول إنها كانت تبحث عن الرسامة “هالة آساف” ابنة أخت ميهري، فعثرت على أعمال ميهري الفنية، وتعرفت على حياتها الثقافية والاجتماعية والنفسية.
يمكن اعتبار الباحثة “بورجو” هي الثانية في أهميتها من حيث الدقة والرصانة في تتبع مسيرة ميهري الحياتية والفنية، لدرجة أنها باتت تعتبر ميهري مثل طفلها الثالث. ومن المعروف أن “بورجو” كانت منهمكة بالكتابة عن أكاديمية الفنون الجميلة للنساء في إسطنبول ومتابعتها لأعمال ميهري الفنية منذ عام 2009.
“أول رسامة تركية”.. كتاب يرسم جاذبية ابنة الأمراء الأنيقة
غالبا ما يجد الباحثون نقاطا مضيئة تدلهم على الطريق الصحيح، وتأخذ بأيديهم نحو كشوف جديدة لم يكن الوصول إليها سهلا من دون هذه الإضاءات، فقد عثرت “بورجو” على كتاب “ماهينور تونا” المعنون بـ”ميهري راسم (موشفيك) آجبا.. أول رسّامة تركية”، وقد ألهمها كثيرا وصحح لها بعض المعلومات الخاطئة التي تكوّنت لديها خلال مدة البحث والتقصي الطويلة نسبيا.
تعترف “ماهينور تونا” بأنها أبعدت عن مدار بحثها واهتمامها فنانة مهمة ذات قيمة كبيرة، لذلك بذلت قصارى جهدها من أجل إصدار هذا الكتاب، لكي تُعيد لميهري اعتبارها وتضعها في المكان المناسب لها. وعلى الرغم من أنها لم تكسب مقابلا ماديا لهذا الكتاب، فإنها تأكدت من وجود هذا الكتاب في جامعتي كولومبيا وبرنستون، وهذا مردود اعتباري كبير بحد ذاته.

يؤكد غالبية الأقرباء بأن ميهري كانت سلسة في التعامل مع أفراد العائلة والضيوف والأصدقاء، فهي امرأة ذكية واجتماعية، وجاذبيتها أبعد من الجمال الفيزيقي، فهي تعرف كيف تتحدث مع الناس وتوليهم الاهتمام المطلوب، كما كانت تهتم بمظهرها الخارجي بغض النظر عن طبيعة الملابس التي ترتديها.
ولا غرابة في ذلك، فهي ابنة الأمير أحمد راسم باشا طبيب التشريح، والمعلم في المدرسة الطبية العسكرية في إسطنبول، وأمها فاطمة نشيديل هانم، وكلاهما من أصول أميرية أبخازية.
معالم الوجه.. بورتريهات مليئة بالحيوية في ملامح العابرات
ينحصر دور مخرج الرسوم المتحركة “بيرات إيلك” بتحريك صورة ميهري الجامدة وجعلها تمشي على الحبال المشدودة كأي بهلوان (Tightrope walker)، لكنها بدلا من أن تمشي على حبل مشدود فقد مشت على شريط أحمرَ مربوط بين منارة جامع في إسطنبول والمدرج الروماني العملاق في روما، حيث تبدأ باستنطاق حياة ميهري، واستحضار أبرز الأحداث التي تراها المُخرجة مهمة من وجهة نظرها. ويبدو أن ميهري قد غادرت إسطنبول ما بين سنتي 1903-1905 م.
سمعت المخرجة “غينتشالب” باسم ميهري لأول مرة في ندوة عن تاريخ الفن التركي، قدمتها الباحثة “بورجو بيلفان أوغلو” في متحف الفن الحديث في إسطنبول عام 2013، وهناك “انتابتها مشاعر مختلَطة تجمع بين الخجل والانزعاج والذهول والغضب والسعادة”. الأمر الذي دفعها للبحث والتقصي العميق، فذهبت لمكتبة “بايزيد” الحكومية، وتصفحت بعض الكتب ولم تجد إلا معلومات شحيحة عنها، من قبيل أن رسام البلاط العثماني “زونارو” قد أعطى ميهري دروسا فنية، وكتب مذكرات مفصلة عن السنوات التي أمضاها في إسطنبول من دون أن يذكر ميهري أبدا، بينما استغرق في وصف الظروف التي جعلته فنانا مشهورا.

تؤكد “بورجو” بأن ميهري بدأت برسم بورتريهاتها الشخصية ثم الناس القريبين منها، إضافة لصور شخصية لنساء مجهولات وقفنَ أمامها في أمكنة وفضاءات مختلفة. تستعمل ميهري الباستيل غالبا، كما هو الحال في البورتريه الذي رسمته لأختها أنيسة، وتكمن صعوبة الباستيل في أنه يبقِّع سطح اللوحة ويلوثها في كثير من الأحيان.
يبدو أن الفنان التشكيلي “تانر جيلان” محظوظ أكثر من غيره، فقد صادف في متحف إسطنبول للرسم والنحت سنة 1984 لوحات ميهري المرسومة بالباستيل، ووجدها جميلة جدا وأعجب بدقتها، ومن بين اللوحات التي أثارت انتباهه وأسرتْ قلبه بورتريه شخصي للفنانة، كما أُعجب بلوحة “ليتّا عاصم في طريقها إلى حفلة راقصة”، ولوحة “الطفلة ليلى تورغوت” المليئة بالحيوية والحياة، وهذا لا يحدث دائما إلاّ عندما يكون الفنان مخلصا لفنه وأمينا لتجربته الإبداعية.
تركز ميهري في رسم البورتريه على معالم الوجه كما في لوحة “المرأة الطاعنة في السن”، أو لوحة “الفتاة العارية” التي بذلت فيها جهدا استثنائيا لافتا للأنظار، وهي اللوحة العارية الوحيدة التي رسمتها في حياتها.
“أحبُّ قصائدك جدا، وأريد أن أرسم لك بورتريها”
كانت ميهري معجبة بتوفيق فكرت (1867-1915)، وهو معلّم وشاعر تركي أصدر عددا من المجموعات الشعرية، من بينها “الربابة المكسورة” و”دفتر الصبي خلوق” و”أغنية الأمة”. ونظرا لإعجاب ميهري بشخصيه وبشعره الحداثي، فقد صنعت لوجهه قالبا، ورسمته في بورتريه شديد الدقة.
وجدير بالذكر أن الأدباء المنضوين تحت لافتة جماعة “ثروة الفنون” كانوا يستعملون اللونين الأزرق والأسود في رواياتهم وقصائدهم كرمزين للخلاص والأمل، وقد انعكس هذا الأمر في لوحات الآنسة ميهري التي تحضّ على التفكير وإعمال الذهن.
كانت ميهري تتردد على منزل الشاعر توفيق فكرت في منطقة آشيان وتقول له “أحبُ قصائدك جدا، وأريد أن أرسم لك بورتريها”. وهذا ما حصل، فقد أنجزت هذا البورتريه الشهير الموجود في منزل الشاعر الذي تحول إلى “متحف آشيان”، وهو يضم أعمال الشاعر ودواوينه ومقتنياته المهمة والقناع الذي صنعته له الفنانة ميهري بعد موافقة زوجته نظيمة.

يروي الفنان سروري انطباعه الأول حينما رأى الجمال الآسر للآنسة ميهري وهي تتبضع من أحد أسواق إسطنبول، حيث قال: حينما أدرتُ رأسي لأرى هذه الشابة كنت كأنني رأيت القمر بين الغيوم السوداء؛ بياضها الأنيق ووجهها المعبر يطوّق عينيها السوداوين وحاجبيها الدكناوين.
كانت تقتني كالعادة مجموعة من الفرش والأصباغ، وتتصرف كأي فتاة أوروبية لا تخشى الخروج في أي وقت، وسيعرف سروري أنها الآنسة ميهري موشفيك التي درست الفن في إيطاليا، وعادت إلى بلدها لتزرع قيما ثقافية واجتماعية جديدة قد تبدو غريبة عليهم، لكنهم سيعتادون عليها مع مرور الزمن.
مدينة الأضواء.. بورتريهات تزين جدران النخبة الباريسية
تمدّ المخرجة الوشاح الأحمر من إسطنبول إلى برج إيفل، وتمشي عليه ميهري بحذر، لتأخذنا إلى باريس مدينة الأضواء والحركات الفنية الكبيرة، فقد جاءت إلى باريس بحدود 1906-1907، وعاشت فيها حتى نهاية 1911. وقد واصلت تعليمها في باريس، فدرست في البوزار وحصلت على علامات جيدة، وعملت مع الفنان الأمريكي “جون سارجنت” والفرنسي “ليون بونات”.
تعلّقت ميهري بمتحف اللوفر في باريس، وأعادت رسم بورتريه الفنان الهولندي “فرانز هالز” الموجود حاليا في إسطنبول، ثم واصلت مهنتها كرسامة بورتريهات للنخبة الباريسية، وأحيانا كانت ترسم البورتريهات سواء بالتكليف أو بهدف البيع المباشر في الساحات العامة. وبحسب “لا غازيت دي بوزار” التي وجدتها المخرجة في الأرشيف، فإن ميهري استلمت جائزة في باريس سنة 1914م، وهي دليل دامغ على موهبتها الفنية المتفردة.

عاشت ميهري في مونبارناس الحي الباريسي المبهج، وقد استقبلت عدة رسامين من الخارج، فقد كان منزلها كبيرا جدا، لدرجة أنها أجّرت إحدى غرفها لمشفيك سلامي بيك، ثم تزوجته بعد مدة قصيرة، لكن يبقى السؤال الأهم: أين هي لوحاتها الباريسية؟ هل هي مكدسة في واحدة من العِليّات، أم أنها معلّقة على جدران بعض المنازل الباريسية؟
تعود ميهري إلى إسطنبول، فتتبعها المخرجة من خلال أعين الفنانين الأتراك في محاولة لإكمال رسم المشهد الفني لها، حيث ترسمها الفنانة التشكيلية “سيدا دوكماجي” لتشترك في المعرض الاستعادي المرتقب لميهري راسم.
أكاديمية الفنون الجميلة.. إنجازات سابقة للعصر في أسطنبول
لعل أبرز ما قامت به ميهري أنها تحدثت إلى الوزير العثماني عن تأسيس أكاديمية الفنون الجميلة للنساء في إسطنبول، فكل ما أنجز في الحقبة الدستورية الجديدة كان لمصلحة الرجال، بينما كانت النساء تبحث عن الحرية والعدالة والمساواة.
وفي الأول من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1914م أُسست أكاديمية الفنون الجميلة للنساء في إسطنبول، أي قبل نظيرتها في برلين بأربع سنوات، وسُجلت 26 فتاة غالبيتهن من بنات الرسّامين وأبناء الطبقة الأرستقراطية، ويبدو أن طالبات ميهري كن أكثر تطورا في الأسلوب لأنهن لم يستنسخنَ رسوم المحاضِرة، وإنما كن يرسمن شخصياتهن بعيدا عن التقليد.

كانت ميهري من أهم الأسماء في الفن التركي، ونظرا لجرأتها استطاعت في ذلك الوقت أن تأتي بعارضات أزياء نسوية عاريات، كما كانت تأخذ الطالبات إلى الهواء، أو تجلب العارضين من الرجال إلى الأكاديمية، وكان “زورا آغا” هو عارض الأزياء الأشهر الذي واظب على الحضور بانتظام، ثم ترك العمل لأن كل طالبة كانت تريده أن يستدير إلى الجهة التي تجلس فيها.
نظّمت ميهري عام 1917 معرضا شخصيا في بيتها، وحينما انتقلت إلى بومونتي حوّلته إلى معرض، وقد اعتبرت هذه المبادرة عملا استثنائيا يتيح للمتابعين معرفة كل صغيرة وكبيرة عن حياتها الفنية والشخصية.
رسم المشاهير.. تحف فنية لأول تركية تكتسب بفرشاتها
تذهب المخرجة إلى الأحياء التي عاشت فيها ميهري قبل مئة سنة، لكن لم يعرفها أحد أو يسمع باسمها في “شيشلي بومونتي” أو “آربا سويو”، ترى هل كانت منعزلة اجتماعيا، أم أنها كانت منهمكة بإنجاز بورتريهاتها وأعمالها الفنية الأخرى؟
تؤكد الباحثة “أوزلم غولن” بأن ميهري مهمة، لأنها أول امرأة فنانة كانت تحصل على قوتها اليومي من عملها الفني، ليس في إسطنبول فقط وإنما في كل الأمكنة التي عاشت فيها، وهي رسامة البورتريه الوحيدة في ذلك الوقت، كما مهدت الطريق للنساء الأخريات للخوض في هذا المضمار، رغم أن بعضهن لم يتبعن خطواتها بالضبط.
لقد رسمت ميهري بورتريهات لأناس أقوياء ومميزين وأصحاب نفوذ، مثل “أتاتورك” و”موسوليني” و”روزفلت” و”توماس إديسون” وغيرهم.

وتتوقف الباحثة “أوزلم” عند لوحة “إديسون” التي رسمتها ميهري حينما كانت تمر بظروف صعبة، وتصفها بالتحفة التي لم ترَ مثلها. وفيما يتعلق بأكاذيب ميهري البيضاء فقد كشفت المخرجة حقيقة ادعائها بأنها “ذهبت إلى ورشة إديسون في فلوريدا، وهناك وقف أمامها”. فهذا ليس صحيحا، لأنها رسمت هذا البورتريه من صورة نُشرت في صحيفة، ويظهر فيها إديسون مع شخصين آخرين.
تؤكد المخرجة بأنها سمعت عن أطروحة أوزلم التي كتبتها عن ميهري سنة 2016، فتحمست لقراءتها، لأنها الدراسة الأكاديمية الأولى في هذا المضمار.
“نتحدث عن امرأة مدهشة بشخصيتها وفنها”
هاجرت ميهري عام 1927م إلى نيويورك على متن سفينة تُدعى “أس. أس. كارامانيا”، وقد دُوِّن في قائمة المسافرين بأنّ مهنة ميهري هي فنانة تشكيلية. وفي عام 1931 حضرت ميهري حفل عيد الميلاد الثمانين للشاعر الأمريكي “إدوين ماركهام” صاحب “أبواب الجنة”، وقد أهدته في هذه المناسبة البورتريه الشخصي الذي رسمته له. كما أنجزت في هذه السنة بورتريهات “روزفلت” و”توماس إديسون”.
وفي عام 1938م ألقت كلمة في فندق ولينغتون عن تحرير المرأة التركية، فقد كانت ناشطة في هذا المجال، وكانت تسعى لمساعدة النساء من ذوات الدخل المحدود، وبعد سنة من وصولها إلى نيويورك افتتحت معرضها الشخصي الأول في غاليري مازيروف.
وعلى الرغم من إنجازها لبعض البورتريهات المهمة مثل “روزفلت” الذي باعته بثمن بخس بسبب ظروفها المعاشية الصعبة، فإن الصحف الأمريكية قد غطت هذا العمل الفني، ومع ذلك فقد اختفت ميهري، حتى أن مصمم الأزياء المشهور “تشارلز جيمس” قد نشر إعلانا في النيويورك تايمز يبحث عنها ويطلب الاتصال به في حال العثور على مكان إقامتها.
تلتقي المخرجة بـ”سيلين توران” التي تقول “إن ميهري بالنسبة لنا هي جرح مفتوح. نحن نتحدث عن امرأة مدهشة بشخصيتها وفنّها”. ثمة أخبار عدة نشرت عن معرضها ولوحاتها الفنية ومداهمة اللصوص لشقتها وسرقة مواد تقدّر بألف دولار في ذلك الوقت.
لم تتوقف الاكتشافات والمفاجآت، فقد وجدت المخرجة وثيقة زواجها الثاني من “سلفاتور فيرزي”، وقد ذكرت بأنه زواجها الأول الذي حدث في 16 يوليو/تموز 1932م، حينما كان عمرها 38 سنة، وهذه كذبة بيضاء أخرى، لأنها كانت متزوجة من مشفيك سلامي بيك.
تستنتج عالمة الاجتماع “هوليا أوغور” بأن ميهري لم تكن متجذرة في مكان محدد، وحتى في أعمالها الفنية حاولت أن تختار المكان الذي تريد أن تتجذر فيه. أما البروفيسورة فاطمة غول المتخصصة في العلوم السياسية ودراسة المرأة فترى أنّ كل ما تقوم به النساء يشبه ملابس “بنيلوب” التي تحيكها خلال النهار وتنقضُّ عليها ليلا، أما الأجيال اللاحقة فلم تكن واعية لهذا الأمر.
إرث الفن.. معرض استعادي لإحياء تجربة مندثرة
لقد نُسيت ميهري رغم كل إنجازاتها والتغطيات الصحفية الكثيرة عنها، لكن يبقى السؤال الأهم: أين هي لوحات ميهري، وأين البورتريهات الجميلة التي رسمتها لشخصيات قوية ومؤثرة في كل الدول التي وطئتها وعاشت بين ظهرانيها؟
ومع ذلك فإن المعرض الاستعادي هو بمثابة إحياء جديد لتجربتها الفنية، طالما أنّ غالبية النقاد والباحثين والمؤرخين الفنيين يؤكدون بأنها فنانة موهوبة لا يتلاشى ذكرها بتقادم الأعوام.
يُقدّم المعرض الذي نُظم عام 2019 صورة واضحة عن حياة ميهري وأعمالها الفنية، كما يرصد تناقضاتها ونواقصها.
ثمة مصادر وقصاصات جرائد سوف تكون متاحة للروّاد، وثمة رسائل قليلة موجودة لدى بعض أفراد عائلتها، لكن المخرجة لم تستطع الوصول إليها، كما أنها لا تمتلك مُذكرات شخصية، لكن هذا المعرض سيعطي فكرة جيدة عن فنها وتقنياتها والطريقة التي رسمت بها البورتريهات المميزة. وبهذا فإن المعرض يوحي لنا وكأن ميهري قد عادت إلينا ثانية.