“هجمات الجمرة الخبيثة”.. جريمة تتداخل فيها أصابع الساسة وعصابات الدواء

بعد أسبوع من هجمات سبتمبر/أيلول 2001 والعالم يحاول استيعاب ما جدّ، تناقلت وسائل الإعلام الأمريكية أخبارا متواترة عن رسالتين حاملتين للجمرة الخبيثة موجهتين إلى صحفيين من “إن بي سي” و”نيويورك بوست”، وبعد ثلاثة أسابيع أخرى تُوجّه رسالتان شبيهتان إلى عضوين من مجلس الشيوخ، ثم توجه رسالة خامسة إلى مؤسسة وسائل الإعلام الأمريكي (AMI).

لقد كانت الحصيلة إصابة 22 أمريكيا لقي خمسة منهم حتفهم، بينما اتجهت الأنظار إلى ما سُمّي بالإرهاب الإسلامي، لكن سريعا ما أخذت أوراق أخرى في قلب هذه الرواية رأسا على عقب.

يعود المخرج “دان كروس” بعد 20 عاما في فيلم “هجمات الجمرة الخبيثة” (The Anthrax Attacks) إلى قطع اللعبة المربكة (Puzzle)، لعلّه يعيد تركيب المشهد تركيبا صحيحا، فيفتح ملف قضية حفظت قبل حسم نتائجها، رغم ما تثيره وقائعها من الأسئلة الخطيرة.

“الجمرة الخبيثة”.. بكتيريا تعيش لتقتل وتقتل لتعيش

حتى نفهم هول الوقائع التي جدت قبل نحو عقدين من الزمن يستهل فيلم “هجمات الجمرة الخبيثة” (2022) مادته بإبراز فظاعة الجمرة الخبيثة، فهي بكتيريا مكوّنة لخلايا التكاثر غير الجنسي يصطلح عليها بالأبواغ.

تظل هذه البكتيريا حيّة في محيطنا عدة عقود، وحال احتكاكها بالجسد واختراقها له تسيطر عليه وتشرع في إبادته. ذلك دأبها، فلكي تعيش لا بد أن تقتل، ومن الجسد العليل تنتقل إلى المحيط من جديد متأهبة تنتظر جسدا يمنحها دورة حياة جديدة.

تهدّد هذه البكتيريا الماشية عادة، وقد تنتقل إلى البشر عبرها، لكن ما يضاعف فظاعتها في حالنا هذا أنها مثلت وسيلة لهجوم إرهابي بيولوجي، أو هكذا حدثنا السياسيون على الأقل، فأرسلت بالبريد واستهدفت الإعلاميين والسياسيين مباشرة، وهزت الرأي العام في الولايات المتحدة الذي لا يزال يلملم جراحه.

سفر البكتيريا.. قاتل طليق في أرجاء البريد الأمريكي

كان للرأي العام الأمريكي أن يفزع، ولكل مواطن يشعر بأنه مهدد، وللرعب أن ينتشر في مصلحة البريد وهي تواجه خطرا لم يكن يخطر على بال، فاستعمال البريد يعني سفر البكتيريا بحُريّة وبسرعة، وقدرتها على أن تجوب الولايات المتحدة بأسرها عبر الطائرات والقطارات والبواخر في أيام معدودات، فلا يمكن إيقاف خطر هذا المسحوق المسافر الذي يمكن أن ينثر بعضه في كل حين وفي كل مكان، ضمن اقتصاد لا يزال يتعامل مع الوثائق الورقية أساسا.

بكتيريا الجمرة الخبيثة تسافر عبر مصلحة البريد

تجسّد مشاهد ملتقطة من مؤسسة “أمريكا ميديا” في فلوريدا التحقّق من وجود الجمرة الخبيثة، وهي من الصنف الرئوي الذي ينتقل عبر الاستنشاق، وهو أكثر أشكال الإصابات فتكا، ثم يعرض الفيلم عبر شهادة “جوان جاكسون” تجربة أخيها “جوزيف كريسين” الذي يعمل بالبريد نموذجا لفظاعة هذا المرض، فرغم حذره لمعرفته بالخطر المحدق بعد أن انتشر الخبر عبر وسائل الإعلام فقد وقع ضحية للإصابة، ثم لقي حتفه.

يشرح “بول كيم” العالم المختص في بكتيريات الجمرة الخبيثة الأعراض، وتشمل الحُمّى والصداع وآلام البطن والصدر المسببين للغثيان والقيء وصعوبة التنفس وفقدان الشهية، ثم يعجز الجسد عن التحمّل، فينهار ويفقد صاحبه حياته.

“الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل”

لقد تضمنت الرسائل ورقة مكتوب فيها “11 سبتمبر 2001، الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، الله أكبر”. وهي مباركة صريحة لهجمات القاعدة، لكن هل المرسل متعاطف مع هذه الهجمات؟ هل هو من خلايا القاعدة المنتشرة في الولايات المتحدة الأمريكية؟

الرسالة التي تمجد هجمات 11 سبتمبر وتطلب الموت لأمريكا

لم يتوقف الفيلم كثيرا عند هذا المحتوى الذي يدفع بأصابع الاتهام صوب القاعدة على غرابته، فستثبت التجارب المخبرية أنّ البكتيريا قد صنعت في مختبرات الولايات المتحدة، ومسؤول كبير في مكتب التحقيقات الفدرالي ذكر صراحة دور المسؤولين في البيت الأبيض ومكتب التحقيقات الفيدرالي في جعلهم أميَل إلى اتهام تنظيم القاعدة في هجمات الجمرة الخبيثة. لماذا هذا التمويه؟ أليس عملا سياسيا؟ وهذا ما يعني أن توجَّه أصابع الاتهام إلى الساسة النافذين الذين لهم اليد الطولى على العلماء.

“يريدون أن تكون سلاحا بيولوجيا”.. وقود حروب الشرق

أعلن الرئيس الأمريكي “بوش الابن” حينها في مؤتمر صحفي أن الصلة بين هذه الهجمات ومنظمة بن لادن تظل محتملة بقوله “لا نملك أدلة”، ثم تحوّل الشك إلى ما يشبه اليقين في خطاب الناطق باسم البيت الأمريكي لاحقا، مصرحا بأن “الإرهابيين يريدون أن تكون هذه البكتيريا سلاحا بيولوجيا”.

وفي مرحلة ثانية يقدم الرئيس الأمريكي -وهو يؤبّن ضحيتي هجمات الجمرة الخبيثة “توماس موريس” و”جوزيف كريسين” موظفي هيئة البريد- ما حدث باعتباره نموذجا لما يمكن أن يفعله الإرهابيون.

وجليّ أن هذا الخطاب يعلن النفير العام، ويحاول تأجيج الإسلاموفوبيا التي وجدت في هجمات 11 سبتمبر أرضية خصبة للازدهار، فأعداء الحرية -وفق هذا الخطاب- قد دخلوا طور الحرب البيولوجية لتدمير القيم الغربية، وذلك بعد أن حوّلوا الطائرات المدنية إلى أسلحة دمار شامل قبل أقل من شهر.

وقد بدأ يتشكل رأي عام متضامن مؤمن بضرورة الضربات الاستباقية، وإعلان الحرب على الإرهاب في دياره، واستغل الحادث لتوقيع مشروع مكافحة الإرهاب الذي كان يواجه ترددا باعتباره ينتهك خصوصيات المواطنين، وتحت عنوان ملاحقة الإرهابيين تدخلت الولايات المتحدة بقوتها التدميرية لتغيير النظام في أفغانستان، ثم في العراق.

قتلة المختبرات.. هوس الاكتشافات العظيمة الذي يسكن الباحثين

أفادت المقارنة بين البيانات المتحصل عليها من الرسائل الملوثة والبيانات الخاصة بالمختبرات الأمريكية تطابق البكتيريا المرسلة مع سلالة “إيمز” التي لا تصنع إلا في الولايات المتحدة، وعلى نطاق ضيق جدا.

هذا يعني أن الجاني ذو خلفية علمية كبيرة، فضلا عن كونه في وضع يسمح له بالوصول إلى الأبواغ القاتلة، ويعني أيضا حصر الشبهة في عدد قليل لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين. المعضلة هنا، فالمحقّقون في حاجة إلى التعويل على هؤلاء الخبراء ليسعفوهم بالمعلومة العلمية الدقيقة والمختصة من جهة، والعلماء جميعهم في دائرة الشك والاتهام.

ما عقّد القضية أكثر هو انعدام الثقة بين الطرفين، فالمحقّقون باتوا يتوجسون من تلاعب العلماء بهم، والعلماء أيقنوا أنهم في دائرة الاتهام، وأن بعضهم يمكن أن يعتقل، وبالفعل اتجهت شكوك مكتب التحقيقات الفيديرالي نحو العالم الحكومي السابق “ستيفن هاتفيل”، ثم إلى الباحث في علم البكتيريات بوزارة الدفاع.

وفي معهد الأبحاث الطبية للأمراض المعدية بالجيش الأمريكي تتجه أصابع الاتهام تحديدا إلى “بروس إيفينز”، فمدار مشروعه العلمي حول إنتاج لقاح جديد ضد الجمرة الخبيثة لا يتضمن آثارا جانبية بعد ظهور مضاعفات للقاح سابق، فقد يكون هوس الاكتشافات العظيمة الذي يسكن الباحثين هو حافزه لارتكاب الجريمة، أو لعله يريد إصابة بعضهم لاختبار لقاحه. ومن يدري فربما يسعى لغايات ربحية عبر ترويج لقاحه بالاشتراك مع مخابر الصناعات الصيدلية.

“بروس إيفينز”.. جرعة مسكنات تقطع لسان المتهم الأول

كان على مكتب التحقيقات الفيدرالي أن يبحث في كل الاتجاهات ويختبر كل الفرضيات، ويؤكد “براد غاريت” عميل المباحث الفيدرالية بعد إقصاء فرضية “الاعتداء الإرهابي الإسلامي” أن نقطة البداية تتمثل في معرفة كيفية الإصابة بالعدوى، لذلك فالمكتب يدرك تماما أنه لا يملك ناصية أخطر خيوط التحقيق بشكل مباشر، وأن عليه أن يلاعب الجاني في مقابلة غير متوازنة، فيواجه خصما ذكيا عارفا بقانون اللعبة أكثر منه.

وبعد تحريات عدة استطاع التحقق من نوع المادة المرسلة عبر البريد وإثبات تطابقها مع مادة وجدت بقنينة محجوزة بمختبر “بروس إيفينز” على ذمة التحقيق. لقد مثّل الأمر كشفا للغز وحصرا للشبهة في قنينة واحدة تعود لرجل واحد هو “بروس”، وهكذا وجهت إليه في نوفمبر/تشرين الثاني 2007 التهمة، وأبلغ بالشروع في اتخاذ اجراءات قضائية وشيكة ضده.

العالِم الأمريكي بروس إيفينز المتهم بهجمات الجمرة الخبيثة في أمريكا

وبالموازاة مع العمل القضائي أسهم الادعاء في تأجيج محاكمة الباحث إعلاميا، ورغم إشارته إلى أن كم الأدلة ضده ليس كافيا لتأكيد إدانته جنائيا، فقد واصل التصريح بأنه الجاني المحتمل. ويبدو أن “بروس إيفينز” لم يتحمّل الضغط الكبير المسلط عليه، فقد وجد ميّتا إثر ابتلاعه جرعة كبيرة من المسكنات، فهل انتحر بسبب ضغط جهاز التحقيقات الفيدرالي، أم هل فعل ذلك بفعل اليأس والندم؟

مماطلة التحقيقات.. أدلة واهية تغلق قضية مثيرة للجدل

رغم تأكيد الكونغرس أن بكتيريا الجمرة الخبيثة مصنوعة محليا في المخابر الأمريكية، وأن القاعدة وصدام حسين غير مسؤولين عنها، على خلاف رغبة الرئيس ودائرته المقربة؛ فقد ظلت احترازات كثيرة تطرح نفسها بقوة.

ولا مناص من الاعتراف بأن القضية شائكة حقا، لكن لا مناص أيضا من الإقرار بأن الشبهات حول سلامة التحقيق كانت كبيرة، فمكتب التحقيقات الفيدرالي ظل يماطل على مدار ست سنوات ولا يصل إلى نتيجة، أما اتهام “بروس إيفينز” فكان ضربا من التلفيق يسعى إلى غلق ملف القضية أكثر من عمله على كشف الحقيقة.

ومن الاحترازات التي أثيرت وقتها، ولم يعرض الفيلم بعضها أن عينات من شعره لم تتطابق مع بصيلات شعر وجدت داخل صندوق بريد استخدم في توجيه إحدى الرسائل في برنستون بولاية نيوجرسي، وأن مكتب التحقيقات الفيدرالي أهمل اختبار عينة من الحمض النووي الموجودة في رسالة الجمرة الخبيثة الموجهة إلى السيناتور “ليهي”.

نتيجة هذا التراخي أو التواطؤ دُفع ببريء (لم تثبت إدانته) إلى الانتحار. وزملاؤه من العلماء يؤكدون فعلا أن حجة القنينة ليست قاطعة، فالمادة المحجوزة فيها قد تداولتها عدة مختبرات.

لوبيات الدواء.. تحقيق محكوم بحسابات السياسة والمال

يميل الفيلم بشدة إلى أن التحقيق ظل محكوما بحسابات السياسة والمال، فقد جدّت الهجمات لتمنح أمريكا ذريعة الخروج من معاهدة حظر الأسلحة الجرثومية، ودفعت وقائعها مجلس الكونغرس المتردد إلى الموافقة على قانون “باتريوت”. وتتساءل تقارير: هل من قبيل الصدفة أن توجَّه الرسائل الملوثة إلى أعضاء من الكونغرس يحتمل أن يعارضوا قانون “باتريوت”؟

ولعل مما زاد في دعم نظرية المؤامرة كشف تقرير سُرّب إلى وسائل الإعلام، ومفاده أن “ويليام باتريك” مخترع الجمرة الخبيثة المصنعة قد كُلّف عام 1999 بالقيام بتحليل هجوم افتراضي بالجمرة الخبيثة عبر رسائل البريد لصالح وكالة المخابرات المركزية، أما حسابات المال فتشير إلى إنقاذ شركة “باير” من الإفلاس، بعد أن تولت ترويج أقراص عقار “سيبرو” بعقد أبرمته مع الحكومة، وتشير إلى طلب وجّه إلى الكونغرس لتخصيص نصف مليار دولار إضافية، لشراء لقاحات لسكان الولايات المتحدة.

لقد باتت نظرية المؤامرة تحيط بكل الظواهر والأحداث الكبرى، فتردّ المبالغة في خطر الكوليسترول وربطه آليا بالذبحة الصدرية إلى لوبيات تجارة الدواء، والهواجس نفسها رافقت جائحة كورونا. حيث الفاصل بين الحق والزيف.

لعل من يتذكر محاضرة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “كولن باول” في مقر الأمم المتحدة حول أسلحة الدمار الشامل الذي يوشك صدام أن يستعمله لانتزاع الموافقة الأممية على تدمير العراق؛ أن يحمل مضمون الفيلم محمل الجد.


إعلان