“الزرق والإليزيه”.. رهانات الرؤساء الفرنسيين على شعبية الساحرة المستديرة

هذا ليس بجديد، لطالما كانت الرياضة وكرة القدم على وجه الخصوص أداة للتأثير السياسي. في فرنسا كان هذا هو الحال لعدة عقود، ومع انطلاقة كأس العالم 2022 لكرة القدم في قطر، اختارت المحطة الفرنسية الخامسة “فرانس 5” بثّ فيلم وثائقي فرنسي يستعرض لحظات الابتهاج أو خيبة الأمل الكروية التي ميزت الذاكرة الجماعية، حيث ترتبط صورة “الزرق” (الفريق الفرنسي) بصورة الرؤساء المختلفين للجمهورية الخامسة، فهل كرة القدم والسياسة يسيران يدا بيد؟

في فيلم “الزرق والإليزيه” (Les Bleus et l’Elysée) الذي أنتج عام 2022، يحاول الفرنسي محمد بو حفصي أن يبين الروابط الوثيقة أحيانا بين كرة القدم والسياسة، وكيف استفاد رؤساء فرنسا المختلفون من مآثر لاعبي المنتخب الفرنسي بعض المرات، بينما انعكس أداء الفريق السيئ عليهم في مرات أخرى.

ويقول بو حفصي -وهو صحفي مختص باللعبة- إن مشروع فيلمه الوثائقي الأول هذا وُلد من خلال فكرة ظلت تراوده لمدة عام عن السياسة من منظور كرة القدم، لأن هذه الرياضة لعبت دورا مهما في ظل الجمهورية الفرنسية الخامسة (منذ 1958 لغاية اليوم)، وهو يعتبرها موضوعا سياسيا، لأن “كل رئيس دولة أراد أن يترك بصمته على علاقته بفريق فرنسا”، ولأنه وجد تشابها بين عالم السياسيين ولاعبي كرة القدم، فأراد إبداء هذا التقارب.

أبطال الملاعب والسياسة.. علاقة سرية منذ ميلاد الجمهورية

يسترجع الفيلم خلال ساعة ونصف عصارة 50 عاما من ما يمكن أن نطلق عليه لعبة “إغواء” بين الرؤساء الفرنسيين والمنتخب الوطني الأزرق، وذلك من خلال عودة إلى أرشيف تلك السنوات، ومشاركة طاقم مُنوّع من المتحدثين، ممن كانوا على قرب من هذه اللعبة من لاعبي كرة قدم أو سياسيين أو صحفيين كشفوا عن بعض الخفايا، وأثاروا ذكريات وأدلوا بمعلومات قد لا يعرفها المتابع لهذه اللعبة الشعبية.

وعلى سبيل المثال ظهر لاعبون سابقون، مثل “ميشيل بلاتيني” و”ليليان تورام”، ولاعبون حاليون مثل “أوليفييه جيرو، كما تحدث رؤساء فرنسيون مثل “إيمانويل ماكرون” و”فرانسوا هولاند”، ووزراء سابقون مثل “روزلين باشلو” و”ماري جوزيه بوفيه”، وغيرهم كثيرون أبدوا وجهات نظرهم في هذا التاريخ “الحميم” بين الزرق والإليزيه، وهذه العلاقة “السرية” بين الفريقين.

“جاك شيراك”.. حيلة الرئيس المحبوب في عيون الفرنسيين

بدأ الفيلم مع ذكرى تثير عواطف كلّ الفرنسيين، فالجميع ما زال يتذكر فوز المنتخب الفرنسي في كأس العالم عام 1998، حينها كان “جاك شيراك” رئيسا قد فاز بصعوبة عام 1995، وهو ما أجبره على تسمية حكومة يسارية، لكن بعد فوز المنتخب الوطني قفزت شعبيته قفزة غير مسبوقة في استطلاعات الرأي، وأحيل ذلك إلى بهجة عمّت الجميع آنذاك، وأزاحت معها المخاوف والهموم اليومية إلى الخلفية، وبالتالي لم تعد تلك في الواجهة لتلحق الضرر بصورة القادة.

جاك شيراك يحتفل بفوز الفريق الفرنسي في الإليزيه مع المدرب إيميه جاكي

ومن المعروف -وهذا ما يذكّر به الفيلم- أن “شيراك” المخضرم في السياسة كان يعرف تماما كيف يتعامل مع نشوة انتصار هذا الفريق الذي يجسد ألوان فرنسا الثلاثة (أصفر أبيض أحمر)، والتي تعبّر عن مكوّنات الشعب الفرنسي من ذوي الأصول المتعددة (آسيوية وأوروبية وأفريقية). ومن خلال استقباله اللاعبين في الإليزيه، كان يبدي إحساسه بأهمية التواصل الشعبي والإنساني، وإدراكه أن لا شيء يتفوق على الاعتماد على أبطال العالم لكسب التعاطف.

“شيراك وجوسبان.. الأول يحبُّ الرياضيين والثاني يحب الرياضة”

كان المشاركون في الفيلم يثيرون ذكرى “شيراك” بحبّ وإعجاب بقدرته العفوية على التواصل، إذ كان معلما في هذا المجال. لقد ظهر -كما أكدّ معظمهم- وكأنه هو من ربح كأس العالم، وكأن مجد الفريق هو مجده هو، مع أنه في الواقع لم يفعل شيئا لهذا، لكنه استطاع أن يصبح محبوبا في عيون الفرنسيين من جديد، بينما كان رئيس وزرائه اليساري “ليونيل جوسبان” منزعجا من هذا “الظلم”.

قال النجم الفرنسي “ميشيل بلاتيني” حينها مقولة شهيرة عبرت عن شخصية الرئيس ورئيس وزرائه بالنسبة لكرة القدم: “شيراك وجوسبان، الأول يحبُّ الرياضيين والثاني يحب الرياضة”. ويبدو -كما ذُكر في الفيلم- أنها أزعجت الرئيس آنذاك، على الرغم من واقعيتها التي تبين أن “شيراك” كان يفضّل الناس على اللعبة.

وحدة فرنسا.. استثمار ناجح أفسده كابوس الجزائر

كان الرئيس مدركا أن استثماره سيربح، وأن الرياضة لن تحلّ المشاكل، لكنها مهمة لتوحيد فرنسا في تنوعها العرقي. كانت هناك رغبة في الحلم بأن فرنسا هي كما نحب لها أن تكون، وبأن ما حدث لا يجب أن يكون مؤقتا.

نجم كرة القدم ميشيل بلاتيني متحدثا في الفيلم

كل هذا تدمّر -كما يبدي الفيلم- في عرضه التاريخي مع صفحة مؤلمة في تاريخ الرياضة الفرنسية، وهي مباراة منتخبي فرنسا والجزائر عام 2001، فبدلا من أن تكون كما أراد لها السياسيون والرياضيون استمرارية للفوز الفرنسي العالمي ولروح التفاؤل والوحدة اللتين سادتا في البلد؛ فقد تحولت إلى كابوس بل كارثة.

يسرد الوثائقي كل ملابسات وخلفيات هذه المباراة التي شهدت صفيرا عاليا عند عزف النشيد الوطني الفرنسي، لقد وضعت “جوسبان” الموجود في الملعب في موقف حرج، بينما كان “شيراك” غائبا وكأنه تنبأ بما سيحصل، وقد بيّن مشاركون في الفيلم كالوزيرة “بوفيه” بأن هذه المباراة لعبت دورا في صعود حزب اليمين المتطرف في الانتخابات التي تلت.

“نيكولا ساركوزي”.. هوس وعلاقة فاشلة مع فريق الضواحي

من ناحية أخرى أبدى الفيلم أن خليفة “جاك شيراك” لم يستفد من نفس التأثير، فعلى الرغم من أن “نيكولا ساركوزي” بخلاف “شيراك” مهوس بكرة القدم ويعرف سِير اللاعبين كلهم، فإن العلاقة بينه وبين الفريق الفرنسي كانت فاشلة تماما.

لقد أراد منذ وصوله للرئاسة عام 2007 التدخل، وبدا وكأنه وزيرا للرياضة وليس رئيسا، فكان يدعو نفسه لملاقاة الفريق والبقاء طويلا معه، لكنه لم يكن محبوبا، ويعود هذا في جزء منه -كما فسر اللاعب الفرنسي السابق “ليليان تورام”- إلى تصريحات “ساركوزي” العدوانية بخصوص سكان الضواحي، فمنها يأتي معظم أعضاء الفريق الفرنسي.

مصور روسي صور فرحة الرئيس الفرنسي في كأس العالم في روسيا بعد تسجيل الفريق الفرنسي

ومع هذا كان سيتعين على الرئيس إدارة أزمة المنتخب الفرنسي التي ستنفجر خلال كأس العالم 2010 في جنوب إفريقيا، لقد ذهب اللاعبون إلى حدّ الإضراب، وبدوا كأنهم مجموعة من الأطفال المتغطرسين والمدللين في أعين الجمهور.

بلغ حجم الكارثة حدا خطيرا، لا سيما مع خلاف اللاعب “أنيلكا” مع المدرب، مما جعل “ساركوزي” يتدخل من خلال وزيرة الرياضة ووزيرة خارجيته. كشف الفيلم من خلال معاصرين للحدث كل خلفيّاته، وما جرى من مداولات في الإليزيه للخروج من هذه المصيبة.

كانت هناك آراء بأنه لم يكن على الرئيس إعطاء هذا البعد السياسي لأمر كان على فيدرالية فرنسا لكرة القدم أن تحلّه، كما جرى ربط بين ما يجري في المنتخب وما يجري في المجتمع الفرنسي من أزمات الاندماج، ليتبين من خلال هذه القضية أن كرة القدم ليست قضية إعلامية وسياسية كبقية القضايا.

“هولاند” و”ماكرون”.. عقلانية خائبة وطفولية رابحة

انتقل الفيلم إلى عهد الرئيس التالي الذي منعته الظروف من جني الفوائد الكاملة لمآثر الفريق الفرنسي في نهائي بطولة أوروبا عام 2016. كان “فرانسوا هولاند” -كما عبّر في مداخلته بالفيلم- مدركا لأهمية كرة القدم وكونها رهانا مهما في فترة حكمه الذي شهدت فيه فرنسا اعتداءات إرهابية.

وكان “هولاند” مؤمنا أن انتصار الفريق عالميا وأوروبيا له دوره في تغيير الأجواء وإعطاء القوة من جديد للمجتمع، لكنه كان حذرا في التعامل مع اللعبة، ولم يرد التصرف مثل سلفَيه.

أما الرئيس الحالي “إيمانويل ماكرون” فيرى أن النصر “مهم لتحسين نفسية البلد”، وقد استفاد من انتصار المنتخب الفرنسي في مونديال 2018 لاستعادة شعبيته، حيث طغت صورته بحركته الشهيرة وهو يقفز في منصة الملعب بعد تسجيل فرنسا هدفا في مونديال 2018.

الرئيس الحالي “إيمانويل ماكرون” يرى أن النصر “مهم لتحسين نفسية البلد”

 

ومع أنه صرح في الفيلم بأنه كان حينها المشجع وليس الرئيس، فقد أثارت حركته هذه تعليقات كثيرة بين مؤيد ومعارض، ورأى “هولاند” فيها “طفولية”، فهو لا يتخيل “ميتران” أو “شيراك” يقومان بها.

ما قبل الرياضة.. سلاح فات الرؤساء الأوائل

مرّ الفيلم سريعا على علاقة رؤساء فرنسيين سابقين بكرة القدم والفريق الفرنسي، في إشارة ذكية إلى تغير الزمن ووجهات النظر، حين لم تكن للرياضة وكرة القدم على وجه الخصوص هذه المكانة التي هي عليها منذ عقود قليلة.

في السابق كانت المكانة الرفيعة مخصصة للثقافة والفنون، حتى أن الرئيس “فرانسوا ميتران” الذي هبطت شعبيته في استطلاعات الرأي عام 1984 خلال فترة رئاسته (1981-1995) لم يفكر في اللجوء إلى هذا السلاح لتحسينها، فصحيح أنه منح وساما للاعب الفرنسي الشهير “ميشيل بلاتيني”، وكان ينظر إليه بإعجاب، لكن الأمر توقف عند هذا الحدّ كما يتذكر “بلاتيني” ضاحكا.

كما اهتم الفيلم بذكر حوادث تاريخية عن العلاقة بين “ديغول” وكرة القدم، لا سيما في مرحلة حرجة خلال حرب الجزائر، فقد تخلى جزائريون كانوا يلعبون في الفريق الفرنسي عن اللعب فيه، وذهبوا للقتال في بلدهم الأم.

كرة القدم والسياسة.. ما وراء العلاقة الحميمية المفاجئة

رغم أن الفيلم بدا ممتعا في قدرته على استخلاص ذكريات مهمة من المشاركين فيه، وكشف آراء رؤساء وسياسيين في علاقتهم بهذه اللعبة الشعبية، وخلفيات مباريات مهمة في تاريخ الفريق الفرنسي، فإنه بقي على السطح فيما يتعلق بتحليل بعض القضايا، وأهمها هذا الدور المتصاعد لعلاقة الرؤوساء الفرنسيين بالرياضة عامة وكرة القدم خاصة. فلماذا أصبحت هذه العلاقة حميمية اليوم بينما لم يهتم لها الرؤساء فيما قبل؟

يشير الفيلم سريعا إلى احتلال كرة القدم المكانة الأولى على حساب الثقافة، بحيث أصبحت لها وزارتها هي الأخرى، فلماذا غدت الميداليات وأوسمة الشرف توزع على لاعبين لمجرد إدخالهم أهدافا في شباك الآخرين، وليس لتضحيتهم في سبيل الوطن مثلا؟

لقد كان بإمكان الفيلم أن يربط على نحو أكثر عمقا بين تغيّر النظرة الرئاسية إلى الرياضة، وبين تحولات المجتمع التي دفعت في هذا الاتجاه، لكنه بدا غير معنيا بهذا الأمر.


إعلان