“علَم”.. حيرة المراهق الفلسطيني الباحث عن أمجاد المقاومة

حيرة الشباب بين مفاهيم غير ناضجة يمكن أن تجعله يكتفي بالرموز فضلا عن مجابهة الواقع، ولعل معاناة الفلسطيني فيما وراء الخط الأخضر -أي داخل فلسطين المحتلة- تصبح مضاعفة مع تزايد الشعور بالاغتراب الثقافي والسياسي.

من الأفلام العربية التي عرضت داخل المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة بمهرجان القاهرة السينمائي الـ44، الفيلم الفلسطيني “علم” (2022)، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه فراس خوري، بعد أن أخرج فيلمين قصيرين، وقد فاز بجائزة الهرم الذهبي في مهرجان القاهرة السينمائي الذي اختُتم الثلاثاء 23 نوفمبر/تشرين الثاني، وهي أرفع جوائز المهرجان. وقد سبق عرضه أيضا في مهرجان تورونتو ومهرجان روما خارج المسابقة.

سحر التصوير وتنسيق الديكور.. جماليات الصورة

من ناحية الشكل، يتميز الفيلم بصورة شديدة الجمال حتى أنك ربما تتساءل عن تناقض هذا الجمال، مع الوضع الكئيب القائم الذي يريد الفيلم تجسيده لواقع العيش تحت الاحتلال داخل إسرائيل. والفضل في جمال الصورة والتكوينات البصرية، يعود إلى مديرة التصوير الفرنسية التونسية الأصل فريدة مرزاق، وهي التي سبق أن تميزت كثيرا في تصوير فيلم “البجعة السوداء” (Black Swan) لـ”دارين أرونوفسكي” (2010)، وفيلم “حياة أديل” (La vie d’Adèle) لعبد اللطيف كشيش (2013).

العامل الثاني الذي يساهم في جمال الصورة وتنسيق المناظر يعود إلى مصمم الديكور الفلسطيني ربيه سلفيتي، فقد أضفى ملامح شديدة الجمال والخصوصية على منزل الجد الذي يعيش فيه بطل الفيلم أو شخصيته الرئيسية “تامر” وحيدا.

ينتمي بطل الفيلم تامر إلى عائلة فلسطينية ثرية كما هو واضح، وقد فضل أن يترك منزل العائلة وينتقل للإقامة في منزل جده القريب بعد وفاة الجد، غالبا لكي لا يتركوا المنزل خاليا.

“المدمرة بوتمكين”.. ظلال الجد الشيوعي المعلقة على الجدار

تتجسد المفارقة في شخصية “صفوت”، وهو زميل تامر في المدرسة وصديقه، حين ينفجر في وجه المدرس الفلسطيني الذي يقوم بتدريس منهج في التاريخ يتناقض بعض الشيء مع الرواية الفلسطينية لأحداث عام 1948، وكيف استولى اليهود على منزل عائلته وكيف طُردت من قريتها، فكيف نكون بصدد فيلم عن “الطرد” و”الاستبعاد” و”التهجير القسري”، بينما نشاهد بطله يعيش حياة الملوك داخل منزل فسيح مزين بالنقوش البديعة والصور والأثاث المدهش.

إنه يضع على الجدار صورة شهيرة من الفيلم السوفياتي الكلاسيكي الثوري “المدمرة بوتمكين” (Battleship Potemkin) لـ”سيرغي أيزنشتاين” (1925). كثيرا ما يمسك هذه الصورة ويتأملها. هي لقطة لامرأة كانت تدفع عربة يرقد فيها طفلها الرضيع، وفي مشهد سلالم الأوديسا الشهير في الفيلم، يهجم عسكر القوزاق على الجنود البحارة الثائرين ويطلقون الرصاص، فتصاب المرأة برصاصة تخترق عدسة نظارتها، وتصيبها في عينها مباشرة.

الصورة الموجودة لدى تامر ملونة، وتظهر فيها الدماء الحمراء تصبغ جزءا من وجه المرأة، في حين أن الفيلم بالأبيض والأسود. إنها تعبر عن شعور مزدوج، بالرثاء والإعجاب بالشجاعة كذلك. وهناك أيضا صور لـ”ستالين” وأعلام حمراء، مما يشي أن الجد كان ينتمي إلى اليسار الشيوعي.

معركة العلَم.. ماضي الأب الغامض يسد باب العمل السياسي

صفوت هو صاحب فكرة الاحتجاج الرمزي عن طريق رفع العلم الفلسطيني، فالشباب الذين يتزاملون في الدراسة بالمدرسة الثانوية المشتركة التي تضم البنين والبنات، يبدون امتعاضهم من وجود العلم الإسرائيلي فوق مبنى المدرسة. وبين آونة أخرى، يقوم أحدهم- سرا- بتمزيق قماش العلم فيعيد الإسرائيليون رفع علم جديد. والآن يقترح صفوت إنزال العلم الإسرائيلي ورفع العلم الفلسطيني مكانه.

أما تامر (الممثل محمود بكري) فهو متردد كثيرا في المشاركة مع زملائه بمظاهرة للاحتجاج على الاحتلال الإسرائيلي في يوم الاحتفال المسمى “عيد الاستقلال” عند الصهاينة، و”يوم النكبة الكبرى” كما هو راسخ في الذاكرة الفلسطينية والعربية. فهو يخشى الانغماس في عمل سياسي يمكن أن يؤدي إلى طرده من المدرسة.

وأما والده فهو موظف مستقر، لكن يبدو أنه عانى كثيرا في الماضي ودفع ثمن انغماسه في السياسة بشكل ما، دون أن يوضح لنا الفيلم ماذا فعل بالضبط، فهو دائم التحذير لابنه. تامر إذن نموذج للبورجوازي الذي يتمتع بحياة تبدو مختلفة عن حياة زملائه مثل شيكل وصفوت ورضا وعادل.

ميساء.. فاتنة تخطف القلب وتقلب المشهد

في البداية يبدو الشباب مشغولين فقط بالبحث عن المخدرات والتفكير في الفتيات واقتناص المتعة، فهم يرغبون في الهرب من الواقع، من حقيقة أنهم مواطنون من الدرجة الثانية داخل كيان الاحتلال.

الممثلة سيرين خاص التي قامت بدور الفتاة الجميلة ميساء، وهي مُغرمة بتامر ويتبادلون المشاعر

يبدو الوجود الإسرائيلي هامشيا في القسم الأول من الفيلم، فتظهر سيارة شرطة تجوب شوارع البلدة غير المحددة ليلا، وتحرق العلم الفلسطيني الذي يقوم البعض بتعليقه على الجدار، لكنه سيصبح أكثر حضورا في القسم الثاني حينما تقع المواجهة المباشرة.

لا يحسم تامر أمره إلا بعد أن تصل إلى البلدة الفتاة الجميلة “ميساء” (الممثلة سيرين خاص) التي تكرر وتصر أن اسمها “ميساء” كلما ناداها أحد الشباب بـــ”مايسا”، وهي قادمة من بلدة أخرى بعد طردها من مدرستها هناك بسبب نشاطها السياسي، وهي إذن فتاة مناضلة تتمتع بالوعي السياسي، على العكس من تامر الذي يفضل الحذر والاستماع لكلام أبيه.

الواضح أن تامر يصبح مغرما كثيرا بميساء، وهي أيضا تبادله المشاعر نفسها، وتذهب معه إلى منزل جده، وتشجعه على الانضمام إليهم في المظاهرة. وسينضم ويشهد ما يقع من ضحايا.

مباشرة الخطاب.. آفات السينما الفلسطينية العتيقة

تطلق قوات الأمن الإسرائيلية الرصاص وتقتل أحد زملاء تامر، كما تتعرض ميساء للضرب، ويصاب عدد كبير من المتظاهرين، وتحدث فوضى وهرج ومرج في أحد أفضل مشاهد الفيلم من ناحية التنفيذ والإقناع، غير أنه مألوف كثيرا، لكونه لا يختلف عن ما نشاهده عادة في التقارير التلفزيونية (الريبورتاج).

أما نقاط الضعف في الفيلم فتتركز أولا في طغيان كثير من الخطابات المباشرة خصوصا في مشهد المواجهة بين الطالب والمدرس، بل وفي المواجهة بين الشباب والسياح الأجانب من اليهود الذين يزورون قرية فلسطينية ينسبونها إلى اليهود.

لقطة دالة على انصراف الشباب عن الاهتمام الجاد بقضية تجمعهم

والخطاب المباشر آفة من آفات السينما الفلسطينية العتيقة التي كنا نتصور أنها أصبحت في طي النسيان، أي سينما الشعارات المباشرة والاحتجاج، منذ أن ظهرت سينما التعبير الدرامي الشعري الذي يتميز بوضوح الرؤية مع المهارة في السرد والتعبير الرمزي والشعري عن الواقع من دون خطابة ومباشرة. وهناك نماذج كثيرة على هذا في السينما الفلسطينية الحديثة التي بدأت في الظهور منذ “عرس الجليل” لميشيل خليفي (1987).

ومما يؤخذ على الفيلم ذلك الترهل الواضح في الإيقاع، سواء داخل المشاهد الفردية، أو في عموم الفيلم. فالمخرج يتمهل كثيرا قبل أن ينتقل من لقطة إلى أخرى، ومن مشهد إلى آخر، دون ضرورة درامية.

العم ناجي.. شخصية هشة ورمزية تائهة

يميل السيناريو إلى التصوير الخارجي للشخصيات، فتناقضات الفتيان غير مفهومة السبب تماما، فالفيلم فقط، يريد أن يقول لنا إن هؤلاء الفتية مترددون، لا يعرفون ما يريدون بالضبط، يتحدثون ولكن عندما تحين ساعة العمل يتقاعسون ويخشون العواقب. هل هو الخوف الذي زُرع في النفوس؟ ربما هذه هي الحالة النفسية التي أصبح عليها أبناء الأجيال الحديثة من فلسطينيي الداخل بسبب حرمانهم من كل ما يرتبط بهويتهم الوطنية.

ولا تبدو شخصية “ناجي” عم تامر شخصية مقنعة، فما يصل إلينا عنه يصلنا من خلال ما يرويه تامر لميساء، وهو يتلخص في أنه قد فقد عقله بعد أن اعتقله الاحتلال، وبعد خروجه من السجن توفي والده الذي كان مرتبطا به أشد الارتباط، فأصيب بصدمة نفسية أدت إلى اضطرابه العقلي، وأصبح لابد أن يحرق شيئا كل يوم.

العلم الفلسطيني يرفعه أحد الشبان ويرفرف على أحد الأعمدة داخل الخط الأخضر

في البداية ظهر ناجي وهو يطرق الباب على تامر ليذكره بما طلبه منه من خشب، فلا نفهم هل كان يقصد المخدرات أم شيئا آخر، لكننا سنفهم في النهاية أنه كان يقصد الخشب فعلا لكي يحرقه، والفيلم ينتهي به وهو يحرق شجرة كاملة دون أن يبدو الرمز المقصود واضحا أو مقنعا.

إشكاليات العُقدة.. ضعف الإجابات في النص السينمائي

لا تتطور العلاقة بين تامر وميساء، ولا نعرف ماذا سيحدث لهم جميعا بعد ذلك، بل إننا كثيرا ما نتساءل عن سبب غضبهم طالما أن الحضور الإسرائيلي المباشر غائب تماما عن المدرسة التي هي مدرسة عربية، فالمدرسون من العرب، والواضح أيضا أن ما يلقنون لطلابهم لا يغفل تماما ما وقع في 1948، بل يشير أيضا إلى طرد السكان وترويعهم وإجلائهم عن منازلهم.. إلخ.

ولا نلمح أي حضور إسرائيلي إلا عندما يمر جندي إسرائيلي شاب يسأل عن مكتب مدير المدرسة، فيقوم أحد الشباب الفلسطينيين بعرقلته ويسقطه على الأرض، ثم يحاول الاعتداء عليه بالضرب. ورغم أنه يحمل السلاح فإنه لا يهدد باستخدامه، ناهيك عن الشروع في استخدامه فعلا، بل يضبط نفسه ويبتعد. وهنا ليس من المؤكد أن يصبح المتفرج متعاطفا مع الشاب الفلسطيني طالما أنه لا يفهم أيضا سر أزمته.

الفكرة الأساسية في الفيلم تتعلق بغياب العلاقة بين الوعي الفردي والوعي الجمعي، ومتى يمكن التخلص من الروح الفردية والسلبية واكتساب الشجاعة في ظل غياب الثقافة الجمعية، مع الانشغال بالبحث عن الهروب عن طريق المخدرات ومشاهدة الأفلام الجنسية، بل والتمرد على الدراسة، والتعبير عن الغضب بطريقة رمزية طفولية.

بقي أن نذكر أن الفيلم من الإنتاج المشترك بين فرنسا وتونس وفلسطين والسعودية وقطر، أي أنه لا يعاني من ضعف الإمكانيات.


إعلان