“سمريت”.. مهاجرة إريترية تلاحقها الذكريات القديمة في سويسرا

حينما هربت “سمريت داويت” من بلدها إريتريا ونفذت بجلدها وقرّرت أن تُقاطع الماضي وتكبح جماحه، لم تكن تعرف بأن الذكريات سوف تتسرب مثل الرمال من بين أصابعها المرتعشة، فالأبناء يجبرون آبائهم وأمهاتهم على البوح والاعتراف ومواجهة الذكريات القديمة، خاصة المأساوية أو المُخجلة التي حدثت نتيجة خطأ ما.

فيلم “سمريت” (Semret) للمخرجة السويسرية “كاترينا مونا” يتمحور حول هذه اللحظة الفارقة التي ظنت فيها “سمريت” أنها قد توارت في غياهب النسيان، بينما هي قريبة منها، كوشم في ظاهر يدها.

إجبارية التجنيد.. هروب من الوطن ولجوء إلى سويسرا

لم تكن سلاسة هذا الفيلم الدرامي وانسيابيته متأتية من مواضيع الهروب والهجرة والذكريات البعيدة فقط، وإنما من تطعيم جسد القصة السينمائية التي كتبتها مخرجة الفيلم نفسها بموضوعات لا تقل أهمية عن سابقاتها، مثل الهُوية والاندماج الاجتماعي والأمومة والمراهقة، والحب الذي يمكن أن يستفيق ثانية وثالثة ليستقر على صدر دافئ، سواء أكان أجنبيا أو من أبناء جلدتها الذين أغراهم الحلم الأوروبي بالثروة والنجاح والعيش الكريم، فغامروا بكل شيء، بما في ذلك أرواحهم العزيزة التي لا تُقدر بثمن.

يحتاج الفيلم في بعض مواضعه إلى البحث في ممارسات سلطة النظام القائم في إريتريا، فحينما تتقدم “سمريت” بطلب مواصلة الدراسة في قسم التوليد لتصبح قابلة، نكتشف أنها التحقت بمركز التدريب الدفاعي “ساوا”، وفيه يرسل الطلبة في الصف السادس الإعدادي إجباريا إلى التدريب العسكري الأساسي الذي بدأ في إريتريا منذ عام 2003، لكن الطلاب أخذوا يفرون من البلاد لتفادي الانخراط في هذه المعسكرات التي يتعرضون فيها لانتهاكات ممنهجة وتعذيب شديد وظروف عمل شاقة جدا.

هذا هو السبب الرئيسي الذي دفعها للهروب من إريتريا واللجوء إلى سويسرا التي عملت فيها ممرضة، لكنها ظلت تحلم بأن تكون قابلة متخصصة، وتبذل قصارى جهدها لتحقيق هذا الحلم.

“جو”.. سويسرية ينتمي هواها إلى القارة السمراء

“جو” ابنة “سمريت” هي طالبة في المرحلة الثانوية، ولديها صديقة سويسرية مقربة منها تُدعى “هانا”، وهي نموذج للفتاة الأوروبية المتحررة التي تمتلك صديقا تخرج معه إلى السهرات أو المقاهي.

ومن خلال أسئلة “جو” لبعض صديقاتها تكتشف أن هناك عددا من الفتيات السويسريات لا يعرفن آباءهن البيولوجيين، كما ستكتشف “سمريت” أن بعض الفتيات السويسريات الحوامل ليس لهن أزواج، وأن حملهن قد جاء نتيجة علاقات عابرة مع أصدقاء غابوا عن حياتهن، فلماذ تخبئ “سمريت” بعض الجوانب في قصتها الشخصية عن ابنتها، ولماذا لا تبوح بكل شيء دفعة واحدة وتتخلص من هذا الحِمل الثقيل الذي تنوء به منذ سنوات طوالا؟

ترفض “جو” ادعاء أمها بأنها سويسرية، وإن كانت تحمل جواز هذا البلد وتتمترس خلف أوراقه الثبوتية، لأن لون بشرتها لوحده يقتل شكها باليقين بأنها تنتمي إلى القارة السمراء، فلا غرابة أن تسأل “جو” عن جذورها الإريتيرية، وتلح على أمها لكشف الحقيقة، خاصة بعد أن تعرفتا في حفل أقامته الجالية الإريتيرية في زيورخ على “يماني” وابن أخته “تشيما”، فلم تستطع الأم قمع ماضيها وتغييبه نهائيا، كما أن البنت بدأت تجد لذة خاصة في كل شيء إريتيري، بدءا بالأطعمة والأشربة مرورا بالتراث والأزياء الشعبية، وانتهاء بالأغاني الشبابية الرائجة.

سمريت تحاورر ابنتها جو في التقاليد الأسرية الموروثة

تحاول الأم غير مرة أن تمنع ابنتها من الخروج مع أصدقائها الأريتيريين وصديقاتها السويسريات، لكنها تفشل في النهاية، وتظل تلاحقها كلما خرجت من المنزل وتأخرت بعد حلول الظلام، وعلى الرغم من أن “سمريت” تعمل مع “يماني” في المستشفى نفسه، فإن حفلة الجالية الإريتيرية قد وفرت لهما مساحة أكبر للبوح والكلام المستفيض الذي لا تفضله “سمريت”، فهي معزولة بطبعها ولا تريد الانخراط في أجواء وفضاءات الجالية الإريتيرية التي يمكن أن تستدرجها إلى ما لا يُحمَد عقباه.

“أتصدقين ذلك؟”.. أمواج البحار تغسل عار الأخطاء العاطفية

حينما تنفرد “جو” بصديقها الجديد “تشيما” ويسألها عن المدة التي قضتها في زيورخ وأين هو أبوها وسط هذا الجمع الإريتيري الغفير، تجيبه بأنها وُلِدت هنا، وأن أباها قد غرق بينما كان يهرب من وطنه، فيغمز لها مستغربا “أتصدقين ذلك؟”. في إشارة إلى أن كثيرا من النساء الإريتريات يختلقن قصة الغرق في عرض البحار ليدارينَ على خطأ عاطفي يفضي غالبا إلى الحمل والإنجاب، الأمر الذي يدفع “جو” إلى نبش الماضي وتحريض أمها على الاعتراف والبوح بالقصة الحقيقية للعلاقة العاطفية التي جاءت بها إلى الوجود.

تضطر “جو” في أكثر مرة لأن تكذب على أمها بتحفيز من صديقتها السويسرية “هانا”، وذلك بحجة أنها تراجع معها فروضها الدراسية، ثم أن ما تفعله خارج منزلها ليس خطأ، وأن من حقها أن تسهر مع أصدقائها وصديقاتها في الحفلات المخصصة لهذه الأعمار الشابة.

تهتز العلاقة بين الأم وابنتها على خلفية السهر خارج المنزل ومجاراة ما تفعله الصديقات السويسريات، لكن الأم تحاول فرض سيطرتها، وتشديد الحصار على ابنتها التي تستجيب لمنظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية السويسرية، وتنفر من العادات والتقاليد الاجتماعية التي حملتها الأم من البلد الذي هربت منه، ومن دكتاتورية نظامه القمعي الذي لا يجد ضيرا في تجنيد الطلاب وتدريبهم في معسكرات الجيش ومؤسسات الدفاع الوطني.

أمّ مرحة وأخرى تبكي على السرير.. ما بعد الانفصال

تركز المخرجة “كاترينا مونا” على قضية الانفصال في المجتمع السويسري، فوالدة “هانا” منفصلة عن زوجها، لكنها لا تتحدث عنه بسوء، ولا تشير إلى مواضع الاختلاف، وكأن الأمر مسألة طبيعية يمكن أن تحدث بين أي زوجين تنعدم بينهما أواصر المحبة والانسجام. ومع ذلك فإن الأم تعيش حياتها الخاصة بمنتهى المرح والسعادة، ولا تشكو من فقدان الزوج أو غيابه عن حياتها اليومية التي تسير على خير ما يرام.

أما “سمريت” بوصفها أما إريتيرية، فهي لا تتمتع بهذه الشخصية المستقلة أو المرحة، فهي قلقة ومهمومة على الدوام، وأكثر من ذلك فهي تنام في غرفة ابنتها على سرير واحد معها، والأغرب من ذلك أنها تحلم وتبكي في الليل، وكأن كوابيس العلاقة العاطفية تلاحقها آناء الليل وأطراف النهار.

“يماني”.. حاجات جسدية تنتج حبا مشوّشا

تتضايق “جو” من تكتّم والدتها وتحفِّظها على أسرارها الشخصية، لكن إلحاح البنت يضطرها للبوح بكل شيء، فلم يعد بمقدورها التستر على الماضي الذي بات يؤرقها ويقلب حياتها رأسا على عقب.

كلما تأخرت “جو” لبعض الوقت ليلا تأتي “سمريت” إلى منزل “يماني” الذي يدعوها لتناول القهوة، فتتطور العلاقة بينهما إلى الإعجاب المتبادل أول الأمر، ثم الاستلطاف الذي يقترب من حالة الحُب المشوّش المدفوع بالحاجة الجسدية، ويغبطها لأن لغتها الألمانية قد تحسنت كثيرا بفضل عملها وتواصلها مع طاقم العمل الطبي في المستشفى.

أما “يماني” الذي يعمل منظفا في المستشفى ذاته فهو لم يندمج تماما في المجتمع، لا سيما وأن الراتب الذي يتقاضاه من العمل قليل ولا يكفي لسد احتياجاته الشخصية، لذلك فهو يضطر لكسب النقود من العمل بطريقة غير شرعية، وإذا حدثت له مشكلة فإنه يتعرض إلى الطرد والترحيل.

صراع الأم وابنتها.. اختلافات التأقلم في المجتمع الأوروبي

تتناول القصة السينمائية قبل الوصول إلى ذروتها أوجه الشبه والاختلاف بين أساليب حياة الشباب في المجتمعين السويسري والإريتيري.

الأم سمريت في مواجهة ابنتها جو صراع الأجيال واختلاف وجهات النظر

ورغم أن “جو” قد وُلدت هنا وبلغت 14 عاما، فإن أمها لم تتكيف بعد مع قيم هذا المجتمع الأوروبي ومنظومته الأخلاقية، وظلت طوال هذه السنوات تعيش حياة أشبه بجزيرة معزولة وسط بحر متلاطم الأمواج، لكن ابنتها بدأت تتذمر وتتمرد على عقلية الوالدة وطريقة تفكيرها التي تريد أن تحبس البنت بين جدران المنزل، ولا تتيح لها الاندماج بالمجتمع السويسري الذي يحيط بها من كل الجهات.

لهذا نراها تخرج في مرات متعددة مع “تشيما” وتساعده في ملء الاستمارة، بينما هو يُريها صور أقربائه على شاشة هاتفه النقال، لكن الأم لا تريد لابنتها أن تعرف أشياء معينة لها علاقة بوالدها على وجه التحديد، بل إنها لا تريد أن تتعرف جيدا على موروثها الإريتري الذي قد يقربها مما تريد الأم أن يكون بعيدا عنها.

انهيار العلاقة.. أزمة نفسية وخطأ في المستشفى يؤدي للاستجواب

تتطور علاقة “سمريت” و”يماني” الذي يزورها في بيتها ويجلب لها هدية ويراقصها ويحتضنها، وحينما يتمادى في مداعبتها تنفجر في وجهه وتتصرّف كأي امرأة عصبية ومنهارة نفسيا، لتطرده من البيت في خاتمة المطاف، مع أن ابنتها قد رحبت بهذه الفكرة، وكانت تتمنى أن تُتوج بالزواج، لكن تسير بالاتجاه المعاكس، وتنتهي هذه العلاقة العاطفية الجديدة قبل أن تولد وتكتمل شيئا فشيئا، الأمر الذي ينعكس على أدائها في العمل.

وعلى الرغم من حذر “سمريت” ودقة عملها في المستشفى، فإن خطأ ما يحدث مع “نعومي” الطفلة المولودة توا، إذ تُصاب بانهيار الدورة الدموية، ويتهمون “سمريت” بالتقصير، وتتعرض للاستجواب، لكنها تُصر على الدفاع عن نفسها حتى الرمق الأخير، فهي تشعر بأنها لم تقترف خطأ طبيا، رغم أن الطفلة كانت تعاني من “النيكونيوم” (المادة الخضراء التي تشكل البراز الأول للرضيع حديث الولادة)، ولم يكن ذلك هو السبب الوحيد، بل هناك أسباب أخرى كانت “سمريت” قد دونتها وعثرت عليها الآن، إذ كتبت بدقة ما يلي:

سمريت تعاني من تهمة الخطأ الطبي وهي بانتظار الاستجواب

“في الساعة 3:24 هناك انسداد مؤلم في الدِقاق، أو جزء من آخر الأمعاء، مع أعراض أخرى، وهي بطن متورمة وقيء والتهاب البنكرياس الحاد الذي يعدّ نادرا لدى المواليد الجدد، لكنه يمكن أن يؤدي إلى انهيار الدورة الدموية”.

ارتباك مقلق ووقوع في المحظور.. كرسي الاعتراف

تتفاقم الأحداث على “سمريت”، فالبنت تريد أن تعرف قصة أبيها، وهل غرق فعلا أم أنها حكاية مُختلَقة اجترحتها مُخيّلة الأم، بينما تحاول “سمريت” الاقتراب من “يماني” وتطوير علاقتها به، لكنها تصطدم بالثوابت الأخلاقية التي جلبتها من موطنها الأول.

وحينما تجد نفسها متورطة في خطأ لم تقترفه تفقد أعصابها، فتطرد “يماني” من منزلها شرّ طردة، وتصفع “جو” لتُحدث نوعا من القطيعة مع ابنتها الوحيدة التي تُبدد عزلتها المنزلية على وجه الخصوص.

ورغم هذا الارتباك المُقلق الذي تجد نفسها فيه، فإنها تنجح في الدفاع عن نفسها، وتبرِّئ ذمتها من الخطأ الذي حاولوا إلصاقه بها، فتبذل قصارى جهدها لإصلاح ما يمكن إصلاحه، فتعترف لابنتها بأنها وقعت في المحظور وهربت من تداعيات الفضيحة، لكن هذا لا يمنع فرارها من الضغوط السياسية أيضا، فقد كانت مضطرة لقبول فكرة التجنيد بالضد من إرادتها الشخصية.

عاصفة البحر.. هاربون ينتظرون رحمة السماء على الزورق

ثمة مَشاهد مشوشة تصوِّر فعل الهروب على متن زورق يعوم على سطح البحر الهادئ، لكن ما إن تهبُّ عاصفة قوية حتى تنقلب الأمور رأسا عقب. ولعل أجمل ما في هذا المَشهد أن جميع الهاربين الذين يمثلون قوميات متعددة وديانات شتى ولغات مختلفة توحدهم المحنة، ويصبحون في ظل الهلع والخوف والإحباط كائنا واحدا يتطلع إلى رحمة السماء وحنوّها.

ومن المشاهد المعبرة مَشهد الهروب بسيارة “تويوتا” تحمل خمسين شخصا يمكن أن يسقط أحدهم على قارعة الطريق من دون أن يُثير اهتمام المهرِّب، فهو لا يفكر إلا بالوصول إلى الهدف من أجل كسب المال، على حساب الضحايا الذاهبين إلى المجهول.

تشتد الأزمة بين الأم وابنتها، فهي تريد أن تمنعها بالقوة من مغادرة المنزل، لكن ابنتها تتهمها بأنها مريضة نفسيا، ولعل مرضها متأتٍّ من كونها لا تمتلك حبيبا أو صديقا عابرا ينتشلها من قلب العُزلة القاتلة التي تحبسها في منزل لا يُطل عليه أحد.

فترة التجنيد.. لحظة عابرة في الجحيم تصنع مستقبلا مربكا

تقرّع “جو” أمها على الدوام، لأنها لم تستطع أن تقول الحقيقة ولو لمرة واحدة في حياتها، فلا غرابة أن تكون مضطربة وغير قادرة على التصالح مع نفسها ومع الحلقة الضيّقة من الناس المحيطين بها. وتحت وطأة هذه الضغوط لا تجد الأم مَهربا من قول حقيقة أنها ارتكبت خطأ فاحشا في فترة التجنيد، ولم تأتها الدورة الشهرية لبعض الوقت، فعرفت أنها حامل وحاولت إسقاط الجنين، لكنه ظل عالقا ومتشبثا برحم الأم المذعورة.

وعلى الرغم من كونها وحيدة وهي تعيش في ذلك الجحيم القاتل، فإنها شعرت للمرة الأولى بأن هناك كائنا حميما قد حطّم جدران العزلة التي تعيشها، وقد حاولت إغراق الجاني في مياه البحر الأبيض المتوسط، لكنها لم تفلح في مسعاها.

جو ترتدي الشال الذي أهداه إياها تشيمّا وفرحت به كثيرا

تعتذر الأم لابنتها لأول مرة، وتعترف بخطئها الفاحش، لكن هذا الاعتذار المتأخر لم يطفئ غضب البنت الذي يتأجج كلما سببت الأم مشكلة جديدة، ومثلما تغادر البنت إلى منزل “هانا” لأن امتحاناتها على الأبواب، يغادر “يماني” البلاد لعدم حصوله على الإقامة، ولا يريد أن يُسجن ويُعامل معاملة المجرمين.

نهاية سعيدة.. تصالح وانسجام بين الأم وابنتها

ينتهي الفيلم نهاية سعيدة، إذ تتلقى “سمريت” رسالة من الجهة المُستجوِبة لها فتشعر ببعض الراحة، وتبتسم لأنها دافعت عن نفسها بكل ما تملك من صبر وجلَد وقوة، ورغم مغادرة “يماني” البلاد وانكسارها عاطفيا، فإنها ذهبت إلى المدرسة وانتظرت ابنتها عند البوابة الرئيسية، كما انهمكت معها في حديث هامس يوحي بالتصالح والانسجام أكثر من إيحائه بالقطيعة والنفور.

ومن الجدير بالذكر أن المخرجة “كاترينا مونا” من مواليد زيورخ سنة 1973 في سويسرا، وقد درست الأدب الإنجليزي قبل دراسة السينما في المعهد الوطني العالي للفنون المسرحية في بروكسل، كما تخرجت كمونتيرة وكاتبة سيناريو في عام 2001، ومنتجت حتى الآن 13 فيلما لمخرجين معروفين، أمثال “ماتياس فان غونتن” و”أولغا بايليف” و”هاينز فينتر” و”أليس شميت” وغيرهم، كما عملت في مهرجاني لوكارنو وبرلين السينمائيين.


إعلان