“لا سبيل إلى العودة”.. أهوال طريق الهجرة الأوروبية من لاغوس إلى طنجة

يعود المخرج النيجيري “آيكي نابو” إلى نفس الطريق التي سار عليها قبل 26 عاما، متوجها للهجرة من بلده إلى أوروبا، لكنه لم يصل إليها، لأنه قرر الذهاب قبل بلوغ حدودها إلى بلد أفريقي آخر، ليمضي فيه سنوات ويعود منه مهتما بدراسة فن السينما التي احترفها.

وها هو ذا ينجز في عام 2022 فيلما ينشغل فيه بمعرفة ما إذا كانت الرغبة في الهجرة إلى أوروبا باقية كما كانت عليه من قبل، بسبب بقاء نفس الظروف المعيشية الصعبة التي دفعته للتفكير بالرحيل، وتدفع كثيرا من سكان دول غرب أفريقيا -وبشكل خاص شبابها- للهروب منها، أملا في عيش حياة جديدة أفضل من تلك التي يعيشونها في بلدانهم. إلى جانب تحريه عن المتغيرات الحاصلة في آليات الهجرة ومسالك الوصول إلى الوجهات المرجوة.

لمعرفة كل ذلك، لا يكتفي صانع فيلم “لا سبيل إلى العودة” (No U-Turn) بسرد تجربته الشخصية المعبَّر عنها بمقاربة عنوانه مع الإشارة المرورية (يوترن) التي تحذر سائقي السيارات من الاستدارة الحادة، بل يمضي بنفسه مع بعض المهاجرين الأفارقة، ويظل ملازما لهم في رحلتهم الطويلة حتى بلوغهم النقطة الحرجة التي تضعهم بين خيارين؛ إما عبور البحر إلى الجهة الأخرى، أو الاستدارة والعودة إلى بلدانهم التي جاؤوا منها.

اختلاف اللسان.. أولى عقبات الهجرة في ميناء كوتونو

يسرد “آيكي نابو” بأسلوب شاعري ذكرياته، ويدمجها مع ما تلتقطه عدسته من مشاهد وثّقها أثناء الرحلة البرية التي يقطع فيها المهاجرون طريقا طويلا، يمرون خلاله بأراضي دول متعددة من بينها بنين وتوغو وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا وصولا على المغرب.

يلاحظ أن تغييرا قد حدث في اختيار الطرق المُوصِلة إلى الهدف، ففي رحلته الأولى من مدينة لاغوس في نيجيريا نحو أوروبا بصحبة ثلاثة من أصدقائه، كان الطريق البحري أكثر شيوعا، أما اليوم فعدد السائرين عليه أقل بكثير.

للتأكد من التغير الحاصل يذهب أولا إلى ميناء كوتونو في بنين. يوم وصل إليه كان شابا يافعا مفعما بأمل تحقيق حلمه بالهجرة، لكن بعد مرور وقت قصير على المكوث فيه يتغير موقفه من المكان، ويشعر بأنه يُشكل له أولى المواجهات مع الصعاب، وفي مقدمتها اللغة، فسكان دولة بنين يتحدثون الفرنسية، أما هو فمن نيجيريا الناطقة بالإنكليزية.

جهة البحر الأخرى.. رحلة إلى معقل التسخير والاغتصاب

يواجه الواصلون إلى ميناء كوتونو مشاكل كثيرة، من أشدها إرهاقا الانتظار الطويل وصعوبات الإقامة التي تتطلب مالا لا يملكه الفقير القادم من مكان بعيد، كل الذي سمعه ممن سبقوه كان يدور حول سهولة الوصول من الميناء إلى أوروبا من دون تأشيرة دخول، لكنه لم يسمع عن الاستغلال البشع للمهاجرين المنتظرين ولا عن جرائم الاتجار بالبشر الحاصلة على نطاق واسع، ولا عن العمل بالسخرة.

الاغتصاب والمتاجرة بالبشر والعمل الرخيص أشكال لاستغلال النساء الأفريقيات المهاجرات

رغم كل ذلك ما زال الميناء نقطة عبور لكثير من الحالمين، ويقابل في إحدى المقاهي القريبة منه شبابا قرروا ترك الميناء والتوجه بالحافلات إلى المغرب، ومن بين ما لاحظه أنهم يتعمدون تغيير معلوماتهم الشخصية المدونة في هوياتهم الشخصية، ويحرصون على إبقاء الاسم الصحيح والبلد مجهولين، حتى لا تكتشف سلطات البلدان التي يمرون بها هوياتهم الحقيقة.

من بين ما لفت انتباهه هو كثرة النساء المحاولات الوصول إلى الجهة الأخرى من البحر، وسيتوقف عند تلك الملاحظة طويلا لأنها تكشف عن حجم الانتهاكات الواسعة بحق النساء المهاجرات اللواتي يتعرض الكثير منهن إلى الاغتصاب، ويجبرن على العمل في بيوت الدعارة.

طفولة في محل بيع قطع الغيار.. ضرورات الفقر

يقرر المخرج النيجيري ركوب الحافلة مع المهاجرين المتوجهين نحو المغرب، ويتحدث مع شاب نيجيري يريد الوصول أولا إلى بوركينا فاسو، على أمل إكمال دراسته لفن الرسم هناك، بعد أن عجز في بلده عن توفير المال اللازم للدراسة.

يتذكر صانع الوثائقي طفولته، وكيف أجبره الفقر على ترك الدراسة حال تخرجه من المدرسة الابتدائية بتفوق، حينها طلبت منه أمه التي كانت تعيل عائلته أن يبحث عن عمل يؤمن له رزقه، ويتعلم منه حرفة يمكن له العيش منها مستقبلا، لذا أطاع كلام أمه، وذهب للعمل وهو طفل في محل لبيع قطع غيار السيارات المستخدمة.

التسول وسيلة لعيش بعض المهاجرات في المغرب

كان يأمل بعد سنوات من العمل أن يفتح محلا خاصا به، بعد تعهد صاحب العمل بمساعدته لتحقيق ما يريد، لكن ظروفا مالية قاهرة مر بها جعلته يتراجع عن وعده، فما كان منه إلا التفكير بالهجرة والعمل في الخارج لمساعدة والدته وإخوته.

“مسلخ النساء”.. دعارة قسرية تحت عيون شرطة الحدود

منذ لحظة صعوده إلى الحافلة، يبدأ الوثائقي بتسجيل عدد الكيلومترات المقطوعة، من مدينة لاغوس إلى المدن التي تصل إليها الحافلة. عند توقفه في مدينة داغونكون في التوغو، تسجل الكاميرا مشاحنة بين راكب وشابة سمراء. يتضح أنه يريد تنبيهها إلى أخطار الطريق الذي تسير فيه، إذ يفضي حسب تجربته إلى مهالك مثل الخطف أو العمل في المطاعم بأجور زهيدة لن تحقق لها حلمها بالتخلص من فقرها.

لم تُصغِ له الشابة فلزم الصمت، لكن الحديث تشعب بين ركاب الحافلة وبعض النساء اللواتي تحدثن عن “مسلخ النساء” في المناطق الحدودية القريبة من بوركينا فاسو، حيث يسحب المُتاجرون بالبشر بعض الشابات القادمات من الخارج إلى قرى بعيدة، وبعد اغتصابهن يجبروهن على العمل في بيوت الدعارة، وإذا رفضن فإن مصيرهن قد يكون الموت على أيديهم.

يذكرن أن بعض رجال شرطة الحدود الفاسدين يلتزمون الصمت ويقفون مع رجال العصابات، ولهذا لا يتدخلون ولا يبلغون عن الحوادث الحاصلة هناك.

عشرون عاما في محطات الطريق.. تجارب نسائية مؤلمة

يتذكر صانع الوثائقي أنه في رحلته الأولى لم يكن عدد النساء المهاجرات لوحدهن كثيرا، فأغلبهن كن يأتين مع أفراد من العائلة، أما اليوم فكثير منهن يضطررن للسفر بسبب الفقر ويتحملن أخطاره.

الكثير من النساء المهاجرات يضطررن للسفر بسبب الفقر ويتحملن أخطاره

توثق عدسته أيضا تأكيد أغلب المهاجرين الذين يلتقي بهم، على أنهم لن يتخلوا عن حلمهم في الوصول إلى أوروبا، وأنهم لن يعودوا صفر اليدين أبدا، حتى إذا مكثوا في بلدان أخرى غير بلدانهم.

في مدينة أبيدجان يقابل الوثائقي مجموعة من النساء من بينهن عاملة في مطعم، تعيش في المدينة منذ عشرين عاما، ولديها ٤ أطفال، وتحكي قصة رحيلها وكيف تركها زوجها وحيدة مع أطفالها، ولكن بفضل وجود أختها معها حصلت على فرصة عمل كنادلة.

ما تحصل عليه من أجر لا يكفي لضمان عيش جيد لعائلتها، ورغم مرور وقت طويل على إقامتها فإنها لم تتخلَ عن حلمها بالهجرة إلى أوروبا، وهذه المرة ليس من أجلها فحسب، بل من أجل أولادها الذين تريد أن تضمن لهم مستقبلا أفضل.

نيجيريا.. حسرة على بلد غني بالثروة والفن

كلما سمع قصة محزنة من أحد المهاجرين من بلده؛ يشعر “آيكي نابو” بالحسرة على نيجيريا الغنية بالثروات الطبيعية وبالبشر، ومع ذلك يعيش أهلها ظروفا قاهرة تجبرهم على ترك وطنهم.

كلام الموسيقي الشاب الذي يسمي نفسه “غولدن غوتشي”، يذهب في نفس الاتجاه، فهو يريد الوصول إلى إيطاليا مرورا بالجزائر وليبيا، ويأمل بعد حصوله على عمل وإقامة هناك بإرسال المال لوالدته التي يحبها ويريد ضمان حياة أحسن لها. يغني أمام كاميرا الوثائقي أغنية “راب” كتب كلماتها بنفسه، وتعبر عن حال البلد الذي يريد تركه إلى حدود لا يعلم ما إذا كان سينجح في اجتيازها يوما ما.

رحلة طويلة في كل منعطف فيها هناك قصصص حزينة

يسمع صانع الوثائقي قصصا كثيرة حزينة ومؤلمة من الركاب وغيرهم من الواصلين قبلهم إلى أماكن غريبة، لكنه ينتبه رغم كل ذلك إلى فعل ملازم لها، يتمثل بحبهم للغناء والرقص رغم الحزن الكامن في دواخلهم. يشير “آيكي نابو” إلى العلاقة القوية بين الغناء والإنسان الأفريقي، فثمة علاقة وجودية تجمعهما، فأينما حل الأفريقي سيلازم الغناء والرقص وجوده.

ينقل الوثائقي مشاهد صورها لشباب استغلوا توقفات الحافلة للاستراحة، فاتخذوها فرصة للتعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم من خلال الرقص والغناء.

باماكو.. إحجام عن الخطر وتشبث بالقارة السمراء

عند الوصول إلى باماكو عاصمة مالي، يأخذ السرد شكلا جديدا مشحونا ببعض الفرح والامتنان للمدينة التي شهدت الانعطافة الحادة في مسار حياة المخرج السينمائي، حين قرر التخلي عن فكرة السفر إلى أوروبا، وبدلا منها توجه إلى غامبيا.

يتذكر يوم قابل مع أصدقائه رجلا من نيجيريا قال لهم إنه يعرف سبب وجودهم في المدينة، ثم سرد عليهم قصته والصعاب التي واجهها منذ خروجه من بلده وإقامته خارجه، فقد رأى بأم عينيه كيف يُستغل المهاجر في العمل ويتاجر به ويسرق القليل الذي يجمعه، ثم حذرهم من مغامرة ركوب البحر بقوارب صغيرة غالبا ما تحطمها الأمواج العاتية، فتغرق وتُغرِق كل من عليها.

ما سمعوه منه أثار مخاوفهم وزاد ترددهم بالمضي في رحلتهم، لذا أبعد “آيكي نابو” فكرة السفر إلى أوروبا من رأسه، وبدلا منها قرر الذهاب إلى بلد أفريقي آخر، ربما يجد فيه فرصة مناسبة، فعاش في غامبيا مدة سنتين، وبعد أن عمل فيها وزاد اهتمامه بالسينما، قرر العودة إلى بلده وإكمال دراسته، وكان له ما أراد.

المخرج آيكي نابو يستعيد ذكريات الرحلة الأولى

رغم ما يطرحه من أفكار مشجعة للبحث عن فرص عمل وعيش داخل القارة الأفريقية، انطلاقا من تجربته الخاصة، إلا أن الحماسة في الوصول إلى أوروبا لم تفتر عند الركاب الذين اقتربوا من “النقطة الحرجة”، بوصولهم إلى الأراضي المغربية.

أفارقة الدار البيضاء.. وسيلة عيش مذلة في طريق الهجرة

يلاحظ الوثائقي في الدار البيضاء حضورا لافتا للأفارقة القادمين من بلدان مختلفة، ففي مطعم على الطريق يدعوه شاب تعرف عليه، وفهم منه أنه مقيم هناك منذ عشر سنوات، يشرح له ظروف عيشه ويطلعه على بقية من المهاجرين يحصلون على رزقهم من أعمال بسيطة على أمل جمع مبلغ من المال، يمكنهم من دفع تكاليف العودة إلى بلدهم بعد فشلهم في الوصول إلى إسبانيا، كما كانوا يأملون.

وجودهم غير الشرعي يجعلهم عرضة لمطاردة الشرطة، وطريقة عيش بعضهم تزيد من شدة ملاحقتهم. يقابل الوثائقي امرأتين اتخذتا من التسول وسيلة للعيش، يطلبن المساعدة من سائقي السيارات وسط الشوارع المزدحمة، وعلى الأرصفة يمددن أيديهن للمارة.

يتحدثن له عن صعوبة العودة خاليات الوفاض إلى وطنهن. إحداهن كانت تعمل حلاقة في وطنها، وتثير الحزن في نفس صانع الوثائقي حين تخبره أن المبلغ الذي تحصل عليه من التسول في الشوارع المغربية، هو أكثر من ما كانت تحصل عليه من عملها. وتخبرانه أيضا بنيتهما شراء قارب صغير تعبران به البحر نحو إسبانيا.

سواحل المغرب.. رحلة استطلاع حول النقطة الحرجة

يلازم الوثائقي رحلة الاستطلاع التي تقوم بها المرأتان بمساعدة مُهرّب بالقرب من مدينة مغربية متاخمة للبحر، وقريبة من منطقة جبل طارق، فتدخلان أحراشا كثيفة تحجب الرؤية للوصول إلى الطريق التي وصفها لهما المهرب، والتي عليهما اتخاذها خط سير نحو إسبانيا.

تصلان إلى حافة البحر من دون أن يلاحظهما أحد، وعند صخرة كبيرة تبدأ إحداهما وضع خطة تتجنبان بها مراقبة شرطة خفر السواحل المغربية.

عند هذا الحد ينتهي الوثائقي، عند النقطة الحرجة التي يتحدد فيها مصير المهاجر؛ فإما الوصول إلى الطرف الآخر من البحر أو العودة، ويسميها الوثائقي “الاستدارة الكاملة” نحو الوطن الذي تركه ولا يريد العودة إليه، من دون الوصول إلى الهدف الذي ترك بلده من أجله.


إعلان