“تشيلي 1976”.. امرأة تتمرد على الطبقة المخملية وتخدم الثوار على حكم الانقلاب

من أنتِ؟ هل أنت من هذه المنطقة؟ تبدين غريبة عن المكان هنا، هل أنت أجنبية؟ شكلك يوحي بأنكِ أوروبية؟

بل أنا من تشيلي.. من العاصمة. زوجي طبيب ولدينا منزل في هذه المنطقة.

أنت إذن من دنيا غير دنيانا. هل تدركين أين أنتِ، وماذا يمكن أن يحدث لكِ؟

أدى الانقلاب العسكري الدموي الذي وقع في تشيلي عام 1973 بقيادة الجنرال “أوغستو بينوشيه” إلى وقوع آلاف الضحايا من المدنيين، وخلق حالة من الرعب والفزع استمرت سنوات لدى أبناء الشعب، حتى أولئك الذين لم يكن لهم دور في الثورة على النظام. وهذا تحديدا ما يصوره ببراعة كبيرة الفيلم الجديد “تشيلي 1976”.

انقلاب تشيلي.. سرد بمنظور امرأة من الطبقة الميسورة

يشير عنوان الفيلم إلى السنة التي جرت خلالها أحداثه، أي بعد ثلاث سنوات من وقوع الانقلاب، فلم ينتهِ الأمر بالسيطرة على السلطة واعتقال وتعذيب وقتل الآلاف، بل ظل النظام العسكري الديكتاتوري يمارس عمليات الاستهداف بالقتل والخطف والتعذيب والتنكيل بكل من يشتبه أنه منضم إلى صفوف المعارضة أو حركة الاحتجاج، ناهيك عن النشطاء السياسيين الذين ظلوا يواجهون بطرق مختلفة نظام الانقلاب.

الفيلم هو التجربة الأولى للمخرجة “مانويلا مارتيلي”، وقد ساهمت قطر في إنتاجه مع تشيلي والأرجنتين، وعرض في دورة مهرجان “كان” الماضية (2022) في تظاهرة “نصف شهر المخرجين”، واستقبل بحفاوة كبيرة، فهو من الأفلام القليلة التي تناولت الانقلاب العسكري في تلك الدولة الواقعة في جنوب أمريكا اللاتينية من خلال أسلوب غير مباشر، ومن وجهة نظر امرأة من الطبقة الوسطى الميسورة، أي لا تنتمي أصلا إلى الثوار أو المعارضين.

كانت بطلة الفيلم “كارمن” منذ البداية تقف على الهامش، تستمتع بالحياة في إطار طبقتها، فزوجها يعمل طبيبا في مستشفى بسانتياغو العاصمة، وقد جاءت إلى تلك المنطقة الساحلية لقضاء عطلة الشتاء، ولإعادة تصميم ديكورات منزل العائلة الريفي، وإعادة طلائه حتى يكون مناسبا للعطلة الصيفية.

البلدة هي لاس كروسس، وهي منتجع يقع على ساحل البحر قريبا من سانتياغو العاصمة، ومن اسمها الذي يعني “الصلبان” تحتل الكنيسة موقعا بارزا. وشخصية المرأة التي تجاوزت منتصف العمر شخصية متدينة محافظة، تتمتع بالاستقامة وتتردد على الكنيسة، وتربطها علاقة ود وتقدير مع قس الكنيسة الأب “سانشيز”.

أجواء التوتر الخانقة.. محاكاة لقصر الدوق الإيطالي

في البداية، وفي المشهد الأول في الفيلم، نرى “كارمن” تشتري بعض مواد الطلاء من دكان بالبلدة، وهي تفتح كتابا سياحيا عن مدينة البندقية الإيطالية، وتتوقف أمام صورة لقصر الدوق الشهير الذي شهد تعذيب آلاف السجناء في القرون الوسطى، وما زالت أقبيته الواقعة تحت الأرض شاهدة على ذلك التاريخ الرهيب.

التشيلية كارمن من أمام منزلها المطل على البحر

ولا شك أن لهذه الصورة -التي تتوقف أمامها الكاميرا طويلا- علاقة رمزية بالوضع القائم في تشيلي نفسها، وستتضح هذه الإشارة الرمزية أكثر فيما سيأتي، بعد أن تستقر “كارمن” على اختيار الألوان المناسبة لطلاء منزلها الريفي الساحلي، ويغلب عليها اللون الأحمر لون الدم.

من خارج المشهد تتناهى إلينا أصوات جلبة وضجيج في الخارج، لا نعرف بالضبط ماذا يحدث، فنحن لا نرى شيئا، لكننا نستنتج أن قوات الأمن اعتقلت امرأة من المعارضين للنظام الديكتاتوري، فهي تصدر صرخات احتجاج ورفض، وعندما تعود “كارمن” إلى سيارتها يلفت نظرها حذاء نسائي يبرز من تحت السيارة، لا بد أن يكون هذا حذاء المرأة التي كانت تقاوم وتصرخ، بينما يقوم رجال الأمن بجذبها بالقوة إلى داخل السيارة.

هذا المشهد وحده يقول الكثير في بلاغة واقتصاد، فهو يضعنا منذ اللحظة الأولى في قلب أجواء التوتر التي تُخيّم على البلاد بعد ثلاث سنوات من وقوع الانقلاب.

لسان الصحافة.. أحداث سياسية تؤثر على حياة الأبطال

عنوان الفيلم مقصود، فهو يشير إلى حدث آخر مهم، فبينما وقع انقلاب تشيلي في 1973، وقع انقلاب عسكري آخر في الأرجنتين المجاورة في 1976. و”كارمن” لا صلة لها بالانقلاب ولا بالثورة على الانقلاب، فهي تعيش في أحلامها المحدودة التي ترمز في تجديد منزلها المطل على البحر، ليتخذ شكلا يليق باستقبال ابنتها وزوجها وأطفالها الثلاثة وصديقاتها وأقاربها وأصدقاء زوجها الطبيب الناجح، والاحتفال بعيد ميلاد حفيدتها الصغرى.

“كارمن” امرأة تتمتع بالثقة في نفسها وفي طبقتها، وفي تماسكها الأخلاقي النابع من قيم الكاثوليكية، وقد كانت قبل ثلاثين عاما أو أكثر متطوعة في الصليب الأحمر لرعاية المرضى، والآن نحن نتابع من منظور خافت ومستتر كثيرا أجواء التوتر القائمة في البلاد، من خلال عناوين الصحف ونشرات الأخبار التي نلمحها على شاشة التلفزيون، لكن مع استمرار السرد السينمائي وتطوره نلمح القلق على الوجوه، من دون أن يتحدث أحد عن “انقلاب” أو “جيش” أو “نظام حكم”.

الممثلة “ألين كوبرنهايم” التي قامت بدور كارمن مع أحفادها الثلاثة

من هنا تنبع براعة الفيلم ومخرجته التي كتبت السيناريو مع “أليخاندرا موفات”، بحيث تصبح “كارمن” وما ينعكس عليها ويطرأ من تطور على شخصيتها هي مقياس الحالة السياسية في تلك السنة. وكأن المخرجة “مارتيلي” تسترجع من خلال شخصية “كارمن” (الممثلة “ألين كوبرنهايم”) ما علق بذاكرة الجيل الذي عاصر تلك الفترة القاسية، بفضل السيناريو البديع، وعناصر الإخراج التي تصنع من المشاهد المتتالية عملا متماسكا يتمتع بالوحدة والسلاسة ووضوح الرؤية رغم خفوت المغزى، دون تعرجات مصنوعة، أو قفزات غير محسوبة، بحيث تبدو كل لقطة في موضعها تماما.

أزمات السياسة.. قلق يلاحقنا في مخابئنا السعيدة

تستخدم المخرجة “مانويلا مارتيلي” الألوان الداكنة والمباشرة الصريحة، والملابس والديكورات الداخلية وقطع الأثاث التي تتناسب مع ما كان موجودا في السبعينيات، وتجعل بطلتها في البداية تتألق وسط خضرة الحدائق وأمام أمواج البحر الزرقاء، تمرح مع أحفادها، وتبدي اهتماما بكل ما يبتعد عن السياسة والمشاكل الموجودة في العاصمة التي غادرتها ولو إلى حين.

لكننا رغم ذلك الجو المرح أو السعادة الخارجية، يمكننا أن نلمح على وجهها علامات حزن وإحباط وقلق. هل تخفي “كارمن” شيئا لا نعرفه؟ أغلب الظن أن ما تخفيه أكثر مما تظهره، فملامحها تعبر عن قلق ما، عن شعور بالخوف من قبل أن تظهر لحظات الخوف في الفيلم.

هي إنسانة محبة للخير، تتبرع بملابسها القديمة للكنيسة، وتخصص جلسات للقراءة للمكفوفين، وتحاول أن تنأى بنفسها عن الواقع، لكن الواقع سيقبض عليها، وكأن القدر أراد أن يضعها أمام اختبار أكبر منها.

“الأب إلياس”.. مهمة طبية في خدمة الثورة داخل الكنيسة

يطلب “الأب سانشيز” قس الكنيسة من “كارمن” ذات يوم أن تعتني بشاب يخبرها أنه من المجرمين العاديين، وقد أصيب بطلقة رصاص في ساقه، ويسميه القس “الأب إلياس”، وكأنه ينتمي أيضا للكنيسة.

قس الكنيسة الأب سانشيز

لا تطرح “كارمن” الأسئلة، بل تُقبل على أداء المهمة، أي نزع الرصاصة وتطهير الجرح ورعاية الشاب، لكنها تدرك من الوهلة الأولى أنه بشعره الطويل المنسدل على كتفيه وجرأته وقوة شكيمته، لا يمكن أن يكون لصا ولا قسا، بل لا بد أن يكون من الثوار المناهضين للنظام، والواضح أنه أصيب خلال مطاردة قوات أمن النظام له.

ينعكس هذا الحدث على شخصية “كارمن”، بحيث يغير نظرتها للعالم وعلاقتها بالحياة، والمحيط الاجتماعي، وهي لن تصبح مناضلة تلتحق بالثوار في الغابات، لكنها ستقترب أكثر فأكثر من ذلك الجانب الآخر، جانب الثوار، ومع نمو وعيها تزداد رغبتها في التحرر من كل ما قيدها في حياتها الشخصية ومنعها من التفكير الحر المستقل.

تلجأ “كارمن” إلى معالجة جرح “إلياس”، فتتصل بزوجها الطبيب في المستشفى تطلب منه تزويدها ببعض المضادات الحيوية، بدعوى أنها لفتاة أجرت عملية إجهاض، لكنه يرفض بعد أن يشك في روايتها، وفي اليوم التالي تذهب بنفسها إلى المستشفى، وتخترع هناك قصة أخرى عن إصابة كلبها الضخم بجرح، تشك الممرضة في القصة، لكن بعد أن تستخدم اسم زوجها ومكانته الطبية والوظيفية، تنال ما تريد.

رسائل الثوار.. شكوك أمنية تلاحق سيدة الطبقة الثرية

ليست “كارمن” سعيدة مع زوجها المنشغل عنها باستمرار، فنراها من وقت لآخر تتعاطى بعض الحبوب المهدئة، كما نعلم من خلال مشهد يدور مع ابنتها أنها كادت تتمرد على حياتها الزوجية في الماضي، بعد أن فقدت قدرتها على التحمل، وعندما تستمع إلى ما يدور من حوار بين زوجها ورئيسه في العمل، وكيف أنهما استفادا كثيرا من نظام “بينوشيه” الدموي؛ تشعر بالغثيان وتتقيأ.

لقد بدأت تحمل رسائل من “إلياس” إلى أقرانه الثوار في البلدات والقرى الفقيرة، وأصبحت بالتالي أكثر قربا من أبناء الشعب الحقيقيين خارج محيط طبقتها المستفيدة من النظام.

ومع تكرار هذه المهام تصبح “كارمن” مثارا للشك من جانب قوات الأمن التي تراقب المنطقة مراقبة دقيقة، لكنها تستخدم أيضا سطوة زوجها للإفلات من المآزق التي تتعرض لها، كما أن الأمن أيضا يريد أن يتجنب الإضرار بسيدة من الطبقة الثرية لا يمكن أن تكون منهمكة في المقاومة المسلحة، فهم يكتفون بالمراقبة والتخويف.

كارمن وهي تقوم بتغسيل الشاب الثائر الجريح

تتردد “كارمن” بين وقت وآخر على فندق صغير لاستخدام الهاتف، وعندما تتصل بابنها تسمع ما يوحي بأن الهاتف قد أصبح مراقبا، حتى أنها تسمع العمال الذين يطلون منزلها يتهامسون حول شخص اختفى بعد أن اعتقله الأمن.

طابع الفيلم البوليسي.. توجس يقلق المشهد وخطر يطرق الأبواب

في الثلث الأخير يتخذ الفيلم طابع الفيلم البوليسي، فيلم المطاردة وارتفاع حدة الأدرينالين في الدم وتصاعد التوتر، من خلال مشاهد مختلفة، فعندما تذهب “كارمن” إلى قرية مجاورة للحديث مع قس في كنيسة تريد أن تنقل “إلياس” إليها، تعود إلى سيارتها لتجد بابها مفتوحا، وكل محتويات الدرج الداخلي مبعثرة.

وبعد ذلك تتعقبها سيارة غامضة، وبعد أن تتوقف وتدخل إلى مطعم شعبي على الطريق، يتطلع إليها الجالسون في توجس، ثم يقترب منها رجل، ويتجاذب معها أطراف الحديث متسائلا عن من تكون، وما الذي أتى بها إلى تلك المنطقة، وهل هي أجنبية، وماذا كانت تفعل؟ يمكننا أن نلمح على وجوه الجميع نظرات الشك والقلق والتوجس.

ثم هناك مشهد رابع عندما تكون قرب ساحل البحر مع أحفادها ثم يختفون فجأة، فتصاب بنوبة فزع، لكن ببراعة المخرجة التي تتبع أسلوب الاقتصاد في الزمن، ننتقل من هذا المشهد إلى مشهد يدور أمام المنزل و”كارمن” تدخل أحفادها وتغلق بوابة المنزل عليهم. لقد عثرت عليهم، ولا بد أنها كانت تتخيل الأسوأ. الانتقال على هذا النحو يعبر عن الفكرة، وينقل المعلومة دون شروح أو استطرادات.

لا حاجة هنا إلى الثرثرة البصرية والتكرار والضغط على الفكرة، ولا اللجوء إلى الشرح من خلال الحوارات التي تكشف كل شيء، فالسرد المقتصد الذي يعتمد على الإشارات الكامنة والتعبير بالوجه وبنظرات العينين، خصوصا من جانب تلك الممثلة الراسخة التي أدت دور “كارمن” ببراعة وثقة؛ يكفي ويصل للمشاهد بمغزى الفيلم في بساطة ويسر.

رسالة الأمن.. زيارة خفيفة تحمل في طياتها تحذيرا حاسما

يكفي أن نرى لقطة لوجه “كارمن” أمام “إلياس” لكي ندرك أن رعايتها وعطفها عليه ليسا نابعين من إعجاب شخصي أو عاطفي، بل من عاطفة أمومة وفهم، ورغبة في أن تفعل شيئا لذلك الجانب من شعبها الذي لم تكن تراه من قبل. لقد تحررت من سجن الطبقة العليا الذي عاشت فيه طويلا، و”إلياس” من جانبه يكنّ لها كل تقدير واحترام، ولا يطالبها بما لا تقدر عليه.

كارمن تشعر بالقلق بعد أن تلقت رسائل تحذيرية من الأمن

إنه فقط يعرب عن خشيته من أن يدفع الخوف “الأب سانشيز” إلى الإبلاغ عنه. والسيناريو البارع يجعلنا نرى في مشهد تالٍ “كارمن” وهي تنقل إلى “الأب سانشيز” مخاوف “إلياس”، فيقص عليها القس أن هناك من احتمى به قبل ثلاث سنوات وقت وقوع الانقلاب، وقد آواه في الكنيسة، لكن شعوره بالخوف دفعه إلى الوشاية به، فقبض الأمن عليه وعثروا فيما بعد على جثته في الأرجنتين وعليها آثار التعذيب.

ستتلقى “كارمن” التحذير الحاسم عندما يزور المنزل فجأة رجل واضح أنه مسؤول في الأمن، وزوجها يعرفه، فيناديها لكي تقابله، فيبرز الرجل حزمة من أوراقها الشخصية يقول إنهم عثروا عليها قرب الشاطئ، ويسألها ماذا كانت تفعل في هذا المكان. صحيح أنها تفلت بحصافة من هذا الموقف المزعج، لكن الرسالة تكون قد وصلت.

“تشيلي 1976”.. نص مقتصد يصنع متعة العين والعقل

في فيلم يقوم على الدراما ذات الطابع السياسي يكون طبيعيا أن تحتوي الحبكة على بعض الالتواءات والمفاجآت التي تبقي شهية المتفرج مفتوحة لاستقبال كل ما يدعم ويضيف إلى معالم هذه الشخصية النسائية المرسومة جيدا، لكي تعكس الجو العام الاجتماعي والسياسي، فهي أيضا امرأة في مجتمع ذكوري تشعر بالقهر، ولا تجد ما كانت تسعى إليه في مقتبل حياتها، وتشعر بالرغبة في التمرد على واقعها، وهو دافع إضافي للقيام بدور في حركة التغيير دون أن تتورط، بحيث تصبح ضحية للنظام.

إن فيلم “تشيلي 1976” يصلح نموذجا أمام صانعي الأفلام في السينما العربية، لكونه يعتمد على سرد مقتصد دقيق، وشخصيات محدودة، واستخدام جيد للصورة والتعبير -من خلال الإشارات الخافتة- عن ما يفيض به الفيلم من أفكار، دون أن يفتقد للمتعة، فهو متعة للعين وللعقل.


إعلان