“ضحية”.. أوكرانية فرت من جحيم الحرب إلى عنصرية أوروبا الغربية

لم تكن تدري بأن حياتها ستتغير رأسا على عقب، وأن ما حدث لابنها الصغير سيجعلها مادة إعلامية دسمة أخرجتها من حياة الظل إلى الواجهة مباشرة، خاصة أنها أوكرانية هاربة من أتون الحرب لبلد غير بلدها، فما الذي حدث لها حتى وصلت لذلك الحد؟
ينطلق الفيلم السلوفاكي “ضحية” (Victim) للمخرج “ميشال بلاسكو” والكاتب “جاكوب ميدفيكي” (2022)؛ من فكرة الاستغلال والتلاعب وتغيير الحقائق لخلق جبهة أو واجهة تنتفع منها جهات عدة لخدمة أغراض سياسية معينة يستفيد منها الأفراد، انطلاقا من انتمائهم الفكري وبرامجهم الانتخابية، ولا يهم إن كان كل هذا على حساب الضمير الإنساني ومدونات الأخلاق ومآسي المهاجرين، أولئك الذين فرّوا من أتون الحرب وروائح الموت.
لاجئو أوروبا الشرقية.. هجرة من أتون الحرب إلى جحيم العنصرية
جاء فيلم “ضحية” (إنتاج سلوفاكيا والتشيك وألمانيا) ليظهر صورا متعددة لهذا الاستغلال، خاصة أن تاريخ إنتاجه يتناسب حاليا مع ما يحدث في أوكرانيا نتيجة الهجوم الروسي عليها، وما تفرزه تلك الهجمات من مآس ودموع ودماء، ليس في خطوط المواجهة بين الجنود فقط، بل في صفوف المدنيين الذين يسقطون يوميا، وهو المعطى الأساسي الذي حتّم على بطلة الفيلم “إيرينا” (الممثلة فيتا سماشليونك) الهروب من بلدها أوكرانيا، خوفا على نفسها وعلى ابنها الوحيد “إيغور” (الممثل جليب كوتشوك) من جحيم القصف.
ورغم أن الحرب التي استغلها المخرج “ميشال بلاسكو” لتكون محورا أساسيا في هذا الفيلم، هي حرب 2014 التي تعرضت فيها أوكرانيا لهجوم عنيف من روسيا؛ فإن المعطيات والدماء ومآسي المهاجرين واحدة لا تتجزأ، ليكون الفيلم في مجمله صورة شاملة لما يمكن أن يحدث للمهاجرين من أوروبا الشرقية خلال توجههم لدول أوروبا الغربية، ورغم ما عاشوه وعايشوه من جحيم الحروب، فإن المعاملة العنصرية واستغلالهم السياسي في البلدان المستضيفة يزيد من معاناتهم.
“إيغور”.. اعتداء يقتل الأحلام الرياضية في المهجر
تتمحور قصة الفيلم حول الأم “إيرينا” اللاجئة في دولة التشيك بعد فرارها من الحرب، وهناك تبدأ حياتها الجديدة رفقة ابنها، حيث تقيم في شقة ضيقة ومتواضعة تتسرب منها المياه من كل جهة، لكنها تكافح من خلال عملها مربية في أحد دور الرعاية، إضافة إلى عملها الإضافي في التجميل، وهذا من أجل تحقيق حلمها في فتح مشروعها الخاص، وهو صالون تجميل.
في إحدى المرات تركت ابنها “إيغور” في البيت وحده وسافرت إلى أوكرانيا من أجل جلب بعض الأوراق لتقديمها لأجل تقديم ملف الإقامة والجنسية، لكن في الطريق وصلها خبر بأن ابنها تعرض إلى اعتداء وهو يرقد في المستشفى، لترجع بسرعة رغم القصف والحرب وخطر الطريق، وعندما تطمئن عليه يتواصل معها طبيبه الخاص الذي وضعها في الصورة الشاملة لحالة ابنها.
أخبرها الطبيب بأن ابنها تعرض إلى كسور وكدمات، إضافة إلى تضرر عضو داخلي، وقال إنه لا يستطيع أن يمارس رياضة الجمباز التي يحبها، وقد انهارت الأم، خاصة أن ابنها تقدم فيها كثيرا، لدرجة أنه بات لديه مستقبل في هذه الرياضة ليصبح منافسا دوليا، لكن الحلم تبخر، لأنه إذا مارسها سيصبح مهددا بالموت.
“إيرينا”.. لعبة سياسية بيد النازيين الجدد
فتحت الشرطة تحقيقا موسعا بعد أن قال الابن إنه تعرض إلى اعتداء من طرف ثلاثة شبان لا يعرفهم، وقد قبضت الشرطة على أحد الأطفال المشتبه بهم ووضعته في السجن، وقد سمع أحد الناشطين السياسيين بالحادث وجاء لها، وأخبرها بضرورة القيام بمظاهرة للكشف عن الحقيقة، لأن ظاهرة الاعتداء تتزايد بشكل يومي، وقد اتهم الغجر بهذا الاعتداء، وأحضر لها قناة تلفزيونية بعد أن وجهها إلى الفكرة التي أرادها.

من هنا تتدخل عمدة المدينة وتخبرها بأن هؤلاء يريدون أن يدخلوها في متاهات سياسية، خاصة أنهم عنصريون ونازيون جدد يرفضون أي وجود للملونين والأجانب في بلادهم، كما أعطتها شهادة استفادة من سكن جديد، ومبلغا ماليا من البلدية، وأخذت معها صورة ونشرتها في الصحافة، لتتحول “إيرينا” إلى لعبة سياسية بين هؤلاء.
في نهاية المطاف تبين بأن ابنها لم يتعرض إلى أي اعتداء بعد أن أقر لها أنه سقط من سور السلالم، بعد أن أراد استعراض مهاراته أمام صديقته التي أحضرها إلى البيت، لتدخل الأم في حالات تأنيب الضمير، لأن هناك طفلا بريئا دخل السجن لجريمة لم يرتكبها.
تبدأ بعدها رحلة لاستعادة ما بقي من ضميرها، خاصة أنها حصلت على أوراق الجنسية بتوصية من العمدة، كما أنها أعادت المبلغ المالي الذي رأت بأنها لا تستحقه، لتكتشف في الأخير بأنها ضحية بين الأطراف، فقد استغلت جهاتٌ عدة ضعفَها لتحقيق مكاسب سياسية على حساب ضعفها وحيرتها وعدم خبرتها، وهي الهاربة من جحيم الحرب، فوقعت في جحيم آخر.
“ميشال بلاسكو”.. رؤية إخراجية تحسن العزف على وتر الحرب
استطاع المخرج “ميشال بلاسكو” أن يتعامل مع موضوع “اللجوء” في فيلمه بذكاء، فقد نقل المآسي والأوضاع البائسة التي يعيشها هؤلاء، وذهب أبعد من ذلك حين عرض صورة قاتمة عن ما يتعرضون له من عمليات ابتزاز سياسية، مما حوّلهم إلى ضحايا انطلاقا من الحرب التي تجري في بلدانهم، ثم إلى ضحايا في البلدان التي لجأوا لها.

في حالة “إيرينا” الأوكرانية أحسن المخرج الذهاب صوب الراهن الذي يعيشه العالم حاليا، وذلك انطلاقا من الحرب على أوكرانيا من قبل روسيا، وهو الأمر الذي حوّل حياة عدد من الناس إلى جحيم، وحطّم أحلامهم، كما فعل مع “إيرينا” التي وجدت نفسها وسط دوامة من المشاكل، إضافة إلى وأد حلم “إيغور” بأن يصبح رياضي جمباز.
جاء كل هذا من إفرازات الحرب ومآسيها، ويدخل هذا الأمر ضمن سياق الفيلم وجمالياته المتعددة، إذ أن اختيار الموضوع وحسن معالجته يقدم قيمة فنية وجمالية للفيلم، ويخلق نوعا من المصداقية بينه وبين الجمهور، وهو الأمر الذي حدث في “ضحية”، إذ استطاع المخرج أن يوصل آلام “إيرينا” وحزن “إيغور” الذي تبخر حلمه وهو مراهق صغير.
“فيتا”.. إبداع الممثلة التي أتقنت دور الأم ببراعة
كان التمثيل من بين العناصر التي رفعت مستوى فيلم “ضحية”، خاصة ما قامت به الممثلة “فيتا سماشليونك” (41 سنة)، فقد استطاعت أن تجسد دور الأم المجروحة والمحبطة والحزينة التي أظلمت الدنيا في وجهها.
انعكست هذه المعطيات العاطفية القوية كملامح “فيتا” على وجهها أو عن طريق الأحداث، وهذا ما يدل على أنها فهمت الدور جيدا ودرست أبعاده، لهذا أعطت الشعور بأنها الأم “إيرينا” وليست الممثلة “فيتا”، فقد توحدت مع تلك الشخصية وعكست تفاصيلها بكل اقتدار، وهو أمر يحسب للمخرج أيضا، لكونه أحسن إدارتها وتوظيف قدراتها، لهذا أعطت من خلال هذا الدور دفعة كبيرة للفيلم، وأوصلته إلى دائرة الانسجام، وهو نفس المعطى الذي قام به باقي فريق التمثيل.

من هنا استطاعوا تثبيت أركان الفيلم، وجعلوه يشع بتلك العاطفة التي زرعت فيه، أي أن كل ممثل أعطى ما عنده، حتى أصبحت كل تلك الأدوار جزءا من الواقع وليست بعيدة عنه.
“ضحية”.. تجربة ثرية لمخرج ذي جوائز دولية
حصد فيلم “ضحية” الذي أنتج سنة 2022 على تنويه خاص من خلال مشاركته في مسابقة أسبوع النقاد الدولية بالدورة الـ44 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (13-22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022).
وتشكّلت لجنة تحكيم هذه الجائزة من المخرج البريطاني “بن شاروك”، والممثل المصري كريم قاسم، والناقدة الفرنسية اللبنانية هدى إبراهيم، كما شارك الفيلم في عدد من المهرجانات الأخرى، مثل مهرجان البندقية الدولي في مسابقة آفاق في دورته الـ79.
زاد هذا الفيلم من تجارب المخرج “ميشال بلاسكو” الذي درس الإخراج السينمائي في أكاديمية الفنون الأدائية في براتيسلافا، وأكاديمية ميروسلاف أوندريتشيك السينمائية في مدينة بيسك، كما واصل تألقه الذي بدأ من خلال عرض فيلمه القصير “أتلنتيس” (Atlantis) في مهرجان “كان” السينمائي، إلى جانب حصده لعدد من الجوائز في المهرجانات الدولية، كما فاز بجائزة الأسد التشيكي لأفضل فيلم طلابي.