“شيطان غير مرئي”.. تلوث يصبغ الأنهار ويقتل الطبيعة في عاصمة الهند

اللون الأبيض الطافي مثل زغب البحر على مياه النهر الذي يقطع مدينة دلهي الهندية، ليس من هبات الطبيعة كما يتبدى، بل هو أحد تجليات التلوث الذي يضرب المدينة ومواردها الطبيعة، كما يشرح بسينمائية رفيعة الفيلم الهندي التسجيلي “شياطين غير مرئية” (Invisible Demons) للمخرج الهندي “راهول جين” الذي وصل إلى صالات عرض أوروبية، وعُرض في مهرجان “كان” السينمائي.
كثير مما يظهر في الفيلم يخفي تحت طبقته الظاهرة أخرى مخادعة وأحيانا مغايرة، وتبين التأثيرات المدمرة التي تشهدها المدينة العملاقة، وهي لا تختلف كثيرا عن حال كثير من مدن العالم التي افترستها وحوش الاستثمار والتوسع، ودُمّرت بمنهجية تقتل الطبيعة من حولها.
ظهرت في افتتاحية الفيلم حديقة هادئة كان يرش عامل فيها مادة ما، وسنعرف لاحقا أن هذه المادة هي مبيد حشري، من أجل وقف تكاثر الحشرات القاتلة التي تصيب الكثير من سكان المدينة الفقراء بالأمراض، بيد أن هذه المبيدات نفسها مسؤولة أيضا عن تلوث بيئي كبير.
تطل النافذة على حديقة عائلية تشي بغنى أصحاب البيت، وهم في الواقع يعانون من تبدل المناخ من حولهم، كما يكشف تعليق ابن العائلة الشاب الذي يذكر أنه لم يعش يوما من حياته بدون التكييف المركزي لمواجهة الحر، فقد زاد في العقود الأخيرة بدرجات لم تعرفها المدينة والبلد من قبل.
يوميات المدينة المنهكة.. نظرة على جحيم المستقبل
لا يختار الفيلم مقاربة تقريرية تلفزيونية لموضوعاته، بل يهرب تماما من المعالجات الصورية التقليدية، ويركز على الابتكار والبحث عن صور ومشاهد شديدة السينمائية، فعندما يريد الحديث عن التوقعات بخصوص تحول الهند في العقود القادمة إلى نادي اللاعبين المهمين في الاقتصاد العالمي؛ فإنه يعرض مشاهد مصورة عن طريق طائرات مسيّرة فوق التقاطعات المرورية المزدحمة في المدينة. كان المشهد من السماء يظهر مئات المركبات وآلاف الهنود العابرين دون نظام حول هذا التقاطع، وكأنه مشهد من جحيم المستقبل، أما الرخاء الاقتصادي الذي ينتظر الهند فكان بعيدا كثيرا عن ذلك التقاطع والعابرين عليه.
تجول الكاميرا في الفيلم في المدينة المنهكة، فتقف قليلا في موضع ما، ثم تحلق مرة أخرى إلى موضع آخر، وفي كل مرة تقف هذه الكاميرا في موضع نكتشف فيه فصولا وصورا جديدة من المدينة المتعبة وما يواجهها من تحديات.
تدخل الكاميرا في بيت غني يكشف تلفازه المفتوح عن تظاهرات في المدينة، غضبا على أوضاع اقتصادية وصحية لها علاقة بالتبدلات المناخية والتلوث. تتجول الكاميرا كثيرا في الحيز العام، وتوجه عدستها على نماذج وممارسات تكرس الصورة القاتمة للمدينة، مثل ما يحدث عندما تلحق شابا كان ينقل قالبا من الثلج بدأ قليلا في الذوبان بسبب الحرارة العالية، أو ذلك المشهد لعجلة معمل قديم تدور وتصدر أصواتا عالية، وكأنها تطحن كل شيء في هذا العالم.

يتوقف الفيلم أحيانا دقائق لينقل بدون تعليق مشاهد من الحياة العامة، كمشاهد شديدة الشاعرية والقسوة لحافلة نقل عام متهالكة كانت تنقل بشرا بدا عليهم الفقر، وكانوا عائدين من يوم عمل متعب. لقد غاص ركاب الحافلة في همومهم الذاتية وفقرهم والهامش الاجتماعي الذي ينتمون إليه، بينما غلب النوم البعض الآخر. كل ذلك في مشهد يختزل حياة كثيرين في المدينة الصعبة.
آلات التكييف الدخيلة.. مشهد يكشف مأساة الأحياء الفقيرة
“أحرّ أيام السنة”. هذا ما تنقله لنا الصحفية الشابة عبر محطتها التلفزيونية المحلية، وهي الشخصية الوحيدة في الفيلم، وستظهر في عدة مناسبات عبر زمن الفيلم، لتنقل مآلات التغيرات المناخية على المدينة التي تعيش فيها، بل إنها ستكون الشخصية الوحيدة التي يرافقها الفيلم في عدة مشاهد وهي تسجل من الشارع لقاءات مع أطفال مشردين.
تمر الكاميرا على أحد الجالسين في أحد الأحياء الفقيرة، وتنقل على لسانه أن الحر هو مشكلة الفقراء، ثم ينتقل الفيلم بعد ذلك إلى بنايات قديمة من عصر ما قبل تصاعد درجات الحرارة، فيركز على المكيفات المتعددة التي بدت دخيلة وشوهت هذه البنايات.
لم يكن الحر يحتاج إلى تقديم أو صور، فهو كان باديا على وجوه الناس الذين يقطر العرق من وجوههم، خاصة الفقراء الذين لا يملكون الأموال لشراء مكيفات أو مراوح هوائية.
“ضاع العمر بانتظار الماء”.. وعود الوهم في مدينة يلتهمها التلوث
“لم أشاهد نهرا نظيفا في حياتي، إما أن يكون أبيض أو أسود”. هكذا تحدث الشاب الذي كان يقف على جانب نهر في مدينته، وكان يوما رمزا للحياة يتدفق في قلب المدينة، ويحمل لها الحياة والتجدد، لكنه اليوم يغطيه تلوث غير مسبوق، فقد بدا -كما ظهر في الفيلم- وكأنه طبقة من الصابون الأبيض.

أما صاحب القارب الذي يعمل في جولات سياحية على النهر، فينقل أن بعض الذين كانوا عازمين على أخذ جولة في النهر، يغيرون رأيهم عندما يرون تلوث المياه، وهو يعود في جزء منه لمياه المجاري التي تصب في النهر دون محاسبة السلطات هناك.
الماء المتوفر بغزارة في النهر هو شحيح على أحياء الفقراء، كما يظهر الفيلم دون تعليقات زائدة، بل يكتفي بنقل حال الشارع. ويسجل وصول شاحنة نقل المياه الصالح للشرب إلى أحد أحياء الفقراء، وبعدها يتابع بعض أبناء الحي وهم ينقلون الماء إلى بيوتهم عبر أكوام القمامة والحيوانات المشردة.
تتنهد امرأة في منتصف عمرها وهي تلتقط أنفاسها بعد نقلها للماء، وتقول “ضاع العمر بانتظار الماء ونقله”، أما جارتها التي كانت تقف إلى جوارها فستتحدث بحرقة عن وعود السياسيين أثناء الانتخابات بتوفير الماء إلى هذه الأحياء الفقيرة، وأن هذه الوعود تتبخر بعد فوزهم بالانتخابات.
غضب السماء.. جفاف قاحل وأمطار مغرقة
كل شيء يميل إلى التطرف في المدينة، والطقس لا يمكن التكهن به، حيث ينقل الفيلم في مشاهد طويلة مطرا لا يتوقف ويُغرق أحياء كاملة، خاصة تلك التي يسكن فيها الفقراء وتنعدم فيها البنى التحتية. تعود المذيعة التي ظهرت في أحرّ أيام السنة لتنقل أن أخبار موجات الأمطار التي أغرقت قرى كاملة جاءت قبل أوانها في تطور مناخي متطرف جديد، وحولت آلافا من الهنود إلى مشردين، ظهر بعضهم برؤوسهم فقط فوق الماء، وهم يتنقلون إلى أماكن آمنة.
هناك تطرف في كل شيء، والمطر الذي كان ينتظره الناس في الماضي لغسل المدينة من أوساخها تحوّل اليوم إلى أحد مصادر قلق الناس، إذ يمكن أن يغيب سنوات، أو أن يهطل كل يوم، وتحولت مواسم الأمطار الموسمية إلى مواسم لانتشار البعوض الذي يشكل مصدرا لا ينتهي للإزعاج والأمراض الخطيرة.

ينقل الفيلمُ في مشهد -تتكشف أسراره مع الزمن- مرورَ سيارات الحكومة التي تضرب الأحياء الفقيرة ببخار المواد الكيمائية. يبدأ المشهد ذاك بضباب كثيف، وعندما ينجلي الضباب تظهر الأحياء الفقيرة نفسها فارغة من السكان، إذ يختبئ أهلها في بيوتهم هربا من المادة الكيمائية التي توجد في المواد المعالجة.
شخير التنفس.. سعال وضيق في الرئة يخنق السكان
بنفس الأسلوبية البصرية التي تقترب من الشاعرية، يخصص الفيلم جزءا مهما من وقته للغور في أحوال أهل المدينة الذين يعانون صحيا من التلوث حولهم. يقول أحد سائقي سيارات الأجرة بينما يجلس بجوار زملائه منتظرا الزبائن: “ابني عمره أربع سنوات وهو مريض دائما، قبل يومين عاد من رحلة علاج جديدة في المستشفى استغرقت أسابيع”. بينما يرد عليه أحد زملائه بأن السعال الذي يعاني منه منذ سنوات لا يكاد يتوقف أبدا، بل ازدادت حدته في السنوات الأخيرة.
أما أطفال الشوارع الذي سجل الفيلم يوميات من حياتهم، فهم أكثر مأساوية من كل الضحايا الآخرين. يخبر طفل لم يتجاوز عامه السابع فريق الفيلم بأنه مريض دائما وسعاله لا يتوقف، بينما طفل آخر يشير إلى صدره، ويشكو من ألم لا يتوقف في صدره.
يزور الفيلم عيادة طبية خاصة، حيث ينتظر مرضى دورهم لفحص رئاتهم التي تضيق مع الزمن. بدا الجميع في العيادة الطبية وكأنه يعاني من مشاكل معقدة في التنفس، إذ يصل صوت تنفسهم العالي إلى مسجل الفيلم، وكأن البعض في العيادة يستخدم أجهزة تنفس صناعية.
“عندما أغمض عيني، فأول ما يخطر على بالي هو لون السواد”
يلمس الفيلم -بنفس الأسلوب الخاص الذي يميزه- الأسبابَ التي ربما أدت إلى ما تعاني منه المدينة، فيذهب إلى واحدة من الغابات المجاورة للمدينة، ويقابل عالما شابا يؤكد أن ما يخنق المدينة هو قطع الغابات عبر العقود، وأن وحشية الإسفلت تبتلع المزيد كل عام.

كثير من المساحات الخضراء يُضحّى بها من أجل صناعة إطارات السيارات، وهي الصناعة التي لا تعرف لليوم كيفية التخلص من نفاياتها الكيميائية، وهذا ما يمر عليه الفيلم بمشاهد واسعة لإطارات مستعملة مرمية خارج المدينة.
تقول فتاة زارها الفيلم في مدرستها الخاصة: “عندما أغمض عيني، فأول ما يخطر على بالي هو لون السواد”. يخبرنا أحد الأطباء الذين تحدثوا للفيلم بأن حوالي 50% من أطفال مدينة دلهي يعانون بشدة من مشاكل صحية ترتبط مباشرة بالتلوث من حولهم.
معدلات التلوث.. لغة فنية قاسية تنذر بكابوس المستقبل
يورد الفيلم إحصائياتٍ عدة، بعضُها يضع الحاضرة الهندية في قوائم معدلات التلوث في العالم، فهي تأتي في المرتبة الرابعة عشر من حيث قياسات التلوث، وهو الأمر الذي يستدعي أسئلة عن المدن الأخرى في هذه القائمة، وكيف حال سكان هذه المدن.
لم يكن الفيلم يحتاج إلى الكثير من الأرقام والإحصائيات، فالصور المعبرة والصادمة التي عرضها كانت كفيلة بفعل هزة عنيفة.
يتميز الفيلم بلغته السينمائية التي هي مزيج ما بين القسوة والشاعرية، ويعبر عنها تماما ذلك المشهد الذي يقطع الأنفاس لقارب كان يسبح في الفجر، وتحت الضباب نرى مسيرته الهادئة عبر نهر المدينة، بيد أن ابتعاد القارب عن الكاميرا يوضع حقيقة المشهد الواسع، فما بدا كأنه ضباب إنما هو تلوث قادم من مكان ما من المدينة الملوثة.
تتجسد القسوة في مشاهد عدة، مثل تلك التي ترافق أطفال الشوارع في سعيهم اليومي لطلب المساعدات، أو المشاهد التي صورت من مناطق جمع نفايات المدينة، وهي تصور أطفالا آخرين ينتظرون قوتهم من فضلات المدينة في مشاهد كابوسية.
يختم المخرج فيلمه بمشهد شاعري له علاقة بالكاميرا التي تصور الفيلم نفسه عندما يتركها تتجه إلى ضوء خافت، مما يسمح لعدسة الكاميرا بأن تصور حبيبات التلوث التي بدأت تضرب العدسة، وكأنها تذكير فني بالكارثة التي تنتظر المدينة والعالم.