“أم الفيل”.. ناشطة تايلاندية تكرس حياتها لإنقاذ الفِيَلة من استغلال البشر

في شمال تايلاند تكرس “ليك تشايلر” حياتها كلها من أجل إنقاذ الفِيَلة التي تتعرض للأذى بسبب استخدامها في أعمال شاقة، أو تستغل للترويج السياحي، وغالبا ما يستخدم مروضوها وسائل القوة والعنف لإجبارها على القيام بحركات جاذبة لانتباه السياح القادمين لرؤيتها مقابل المال.

وقد أثمرت محاولاتها عن إقامة مُتنزه خاص للفِيَلة تأوي فيه أعدادا منها، بعد أن نجحت في تخليصها من بؤسها، من خلال شرائها من أصحابها ونقلها إلى المُنتزه الذي يواجه مقاطعة وكراهية عصابات الفِيَلة التايلاندية الذين يجدون في عملها تحديا لهم، وتهديدا لمصالحهم التي تدر عليهم أموالا هائلة.

الوثائقي البريطاني “أم الفيل” (Elephant Mother) ينقل التجربة بكل تفاصيلها، ويسعى للكشف عن مضامينها الإنسانية لشدة ارتباط العلاقة بين الإنسان، وبقية الكائنات التي تعيش معه على نفس الكوكب.

إنقاذ الفيَلة البئيسة من الاستغلال.. وعد الطفولة

يدخل المخرج “جيز لويس” إلى حياة التايلاندية “ليك تشايلر” من خلالها طفولتها التي ارتبطت بحب الفِيَلة وإنقاذها، ويستخدم الرسوم المتحركة ليجسد بداية حكايتها المنقولة على لسانها، على غرار قصص الأطفال الشعبية؛ من قرية تايلاندية بسيطة خرجت فتاة صغيرة نحو الغابة المطيرة، وشاهدت فيها فيلا ضخما، لكنه كان يعاني من جروح عميقة ويتوجع من الألم، حالما اقتربت منه، وعدت بتخليصه من آلامه.

تحكي أمام كاميرا الوثائقي -الذي سيلازمها طويلا، وينقل مساحة جيدة من تجربتها- أن والدتها شجعتها على تحقيق حلمها في إنقاذ الفِيَلة من بؤسها الذي يسببه الإنسان لها، وكانت والدتها تمدها دوما بطاقة إيجابية تُعينها على تحقيق ما تراه عدلا.

لقد وضعت لنفسها هدفا متمثلا بتحرير الفيلة المستخدمة لأغراض العمل، مثل نقل الأحمال الثقيلة، ونقل الركاب على ظهورها وهي مقيدة بسلاسل حديدية، إلى جانب تخليص المستخدمة منها في عروض السيرك التي ينظمها أصحاب المتنزهات للسياح الأجانب، وتحيل وجودها إلى شقاء لا نهاية له.

ترويض الفيل.. حيوان مقدس يصبح آلة مدرة للأرباح

توضح “ليك تشايلر” العلاقة المختلة بين وجود السياح في تايلاند واستغلال الفِيَلة، وتقر بجهلهم بما يجري خلف الكواليس، وأنهم غالبا يأتون لرؤيتها بدافع الفضول، وخوض تجربة الركوب على ظهورها، لا يعرفون كيف تُعامل في أماكن حجزها، وليس لديهم فكرة عن الوسائل المستخدمة لتخويفها وإجبارها على تنفيذ ما يطلبه منها مروّضوها.

تتحدث عن الجروح العميقة التي يسببها نوع من المناجل الحادة المستخدم خصيصا لتخويفها وإجبارها على إطاعة الأوامر، والتي تبدو أمام السائح ظاهرا كأنها حركات عفوية تعبر عن ذكائها ومهارتها، فهم لا يعرفون أن كثيرا منها يموت أثناء التدريب على تنفيذ حركات معينة، وأيضا بسبب الطعون بالمناجل والعمل الشاق.

الناشطة التايلندية “ليك تشايلر” التي تربطها علاقة وثيقة بالفِيَلة

تشير إلى اختلال النظرة المقدسة للفيل في تايلاند، وكيف تغيّرت خلال العقود الأخيرة أساليب التعامل معه، فتحول من مرتبة حيوان مقدس إلى مجرد آلة تدر الربح على أصحابه. لقد أدى تغيّر الموقف منها إلى تهديد وجودها بالكامل، وكان يوجد منها في تايلاند قبل عقود قليلة ما يقارب 300 ألف فيل، أما اليوم فلا يزيد عددها الكلي في البلد عن ستة آلاف فيل لا أكثر.

تذاكر السياح.. مبالغ تمول عصابات استغلال الفيلة

كانت توعية السائح بالحقائق أول أهداف “ليك تشايلر”، لكن من أجل نجاح مشروعها وتسديد تكاليفه، عملت على تحصيل مبالغ من زوّار متنزهها، مقابل رؤية الفِيَلة والاكتفاء بعيش تجربة مصاحبتها لساعات، من دون إجبارها على فعل شيء يضر بها.

إنها تنبههم إلى الخدمة التي يقدمونها للعصابات من دون درايتهم، وذلك من خلال دفعهم أثمان تذاكر الدخول مقابل رؤيتهم للفِيَلة وهي تقوم بحركات بهلوانية، أو محاولتهم الركوب فوق ظهورها. تعرض عليهم تسجيلات مصورة للطريقة الوحشية التي تُعامل بها.

ما تقوم به “تشايلر” من دور مهم في توعية السائحين بالحقائق، تقابله عصابات استغلال الفيَلة بالتكذيب وتوجيه تهديدات صريحة لها بالقتل، يدعون أنها تكذب وأنهم يعاملون الفِيَلة بشكل لائق.

تنقل الناشطة البيئية للوثائقي تفاصيل ما تعرضت له خلال الفترة التي عملت بها مع زوجها لتأسيس المتنزه الخاص بهما “منتزه الفيل الطبيعي”. وتحكي عن المحاولات المتكررة لتصفيتها وتعرض زملاء يعملون معها لإطلاق النار من قبل رجال العصابات الذين لا يريدون أن يهدد أحد مصالحهم، أو يقلل أرباحهم التي تقدر بالمليارات سنويا.

أيام كورونا.. فرصة الفيلة لالتقاط أنفاسها في غياب السائحين

رغم التهديدات تتحرك “ليك تشايلر” وتسافر لمسافات بعيدة، من أجل تخليص فيل مريض تُرك على قارعة الطريق، بعد أن بات عاجزا عن تقديم ما يريده منه أصحابه، وهي ترفق تحركاتها دائما بنشاط مواز على صفحات التواصل الاجتماعي مع أمثالها من المدافعين عن البيئة والحياة البرية.

تنقل باستمرار الفِيَلة التي تشتريها وتحررها في المتنزه، تترك لها حرية الحركة داخلها والدخول إلى مياه النهر، على عكس ما يفعله أصحاب بقية المتنزهات، إذ يُقيّدون حركاتها ويمنعونها من الخروج، ويسجنونها طيلة الوقت داخل زنزانات حديدية.

يترافق حضور الوثائقي للمتنزه مع انتشار وباء كورونا، وهو حدث كوني أثر كثيرا على أحوال الناس، وراح ضحيته الملايين، لكنه بالمقابل خدم بعض الحيوانات مثل الفِيَلة التي تُركت لحالها، بعد أن كفّ السياح عن القدوم لمشاهدتها.

مثل الجميع انسحب الوضع المعاشي والصحي الصعب على “ليك تشايلر”، لكنها تعاملت معه بحكمة وصبر، ووجدت فيه مناسبة لتحسين علاقتها مع متنزهات أخرى أضحت مهددة بالإغلاق، وبالتالي تعرض العاملين فيها لخسارة مصدر عيشهم الوحيد.

مشاعر الفيلة.. سر التعامل مع الكائنات الحساسة

من أسباب نجاح تجربة “ليك تشايلر” فهمها الجيد لطبيعة الفِيَلة والإحساس بما تشعر به، إذ تصفها بأنها أقرب إلى مشاعر الإنسان، فهي تعيش حياة عائلية جماعية، ولا تترك الأم طفلها حتى بعد أن يكبر، وهي شديدة الحساسية، محبة للذين يعاملونها بحسنى، وعلى العكس حين تتوتر وتخاف فإنها تدافع عن نفسها بقوة.

ينقل الوثائقي حالات اعتداء قامت بها الأفيال ضد الناس، بسبب اقترابهم منها وهي في حالة خوف وتوتر، ومصدره سوء معاملة أصحابها لها. تدافع الناشطة البيئية عنها، وتُحيل السبب إلى سوء معاملتها، فكلما أحسن الإنسان التعامل معها وجد منها كل الحب.

الفيل حيوان عائلي قريب للإنسان

ينقل الوثائقي تفاصيل العلاقة القريبة بين الناشطة وبين حيواناتها التي تعاملها كجزء من عائلتها، وتغدق عليها الحب، لكنها رغم ذلك تتمنى مجيء اليوم الذي يستغنون فيه عن وجودها حولهم، لأن وجود الحيوان ينبغي أن يكون في الطبيعة، حيث يتوافق عيشه مع البيئة التي يوجد فيها بعيدا عن الإنسان وتداخلاته التي غالبا ما تؤدي إلى تدميرها.

ينقل الوثائقي مشهدا لغابات تايلاندية محترقة بفعل الإنسان، والفِيَلة الجائعة تدور بين رمادها بحثا عن عشب تسد به جوعها.

رعاية المتنزه الجار.. بادرة حسنة تغير المواقف

ينقل الوثائقي في خضم فترة انتشار وباء كورونا مشهدا مُتغيّرا يحدث خلالها، فقد قرر مالك متنزه خاص قريب من متنزه “تشايلر” أن يترك متنزهه ويسافر إلى مدينة أخرى، بسبب سوء إدارته وعدم تحمل مسؤولياته الأخلاقية إزاء عماله، ولم يعد العاملون فيه يجدون ما يكفي لسد رمقهم، أما الفِيَلة فلم يعد عندها ماء تشربه ولا أعشاب تأكلها.

تقرر الناشطة التايلاندية تقديم المساعدة لهم تعبيرا عن حسن نياتها، فتنقل لهم بعض ما هو موجود لديها من طعام، كما تقوم برعاية قطيع الفِيَلة.

الناشطة التايلندية المسماة بـ”أم الفيل”، والتي خصصت منتزها للاهتمام بالفِيَلة

إنه تصرّف سليم سيُغيّر موقف خصمها السابق، وأحد رجال عصابات المافيا ويدفعه للتعاون معها، بل يذهب أبعد من ذلك حين يعلن احترامه العميق لها، واعتبارها مثالا حقيقيا للإنسان الصادق في دعواته وتصرفاته، حيث يطلب منها أن تأخذ فيلة أنثى يملكها كانت قد ولدت للتو، لتعتني هي بها وبرضيعها بدلا منه.

أم الفيل.. صرخة في وجه الجشع ونداء للتعايش

يسجل الوثائقي رحلة نقل الفيلين عبر القرى التي كان سكانها يصطفون على طول الطريق يسلمون عليها ويرحبون بها وبمبادرتها، وتعبر “ليك تشايلر” أمام الكاميرا عن رغبتها الصادقة في جمع أكبر عدد من الناس حول مشروعها الهادف لتحسين حال حيوانات برية تتعرض للأذى، كما تدعو الجميع للتفكير بالعلاقة المتشابكة بين الإنسان وبقية الكائنات التي تعيش معه على نفس الكوكب.

التجربة المنقولة شديدة الإقناع، وتقدم نموذجا نادرا يقف في وجه تيار جشع قوي يريد تحويل كل ما على الأرض -حتى الحيوان البري- إلى وسائل إنتاج. نموذج إنساني ملهم يريد جعل الأرض مكانا سويا يعيش فيه الجميع بسلام.

هذا ما عبر عنه بعفوية عمالٌ جدد انتقلوا إلى “متنزه الفيل الطبيعي” طوعا، بعد أن وجدوا في معاملة صاحبته ما يؤكد صدق نياتها في معاملة الجميع بحب وبضمير حي، لا يقبل بظلم الإنسان لبقية الكائنات البرية التي بدونها لا يكتسب العيش على الأرض معناه الحقيقي.

بهذا المعنى أيضا فإن فيلم “أم الفيل” المشحون بالعواطف النبيلة لا يكتسب معناه الحقيقي إلا بمشاهدته والتمتع حقا بعيش تجربة سينمائية لافتة في قوة مضامينها الإنسانية.


إعلان