“حلال سينما”.. رحلة المخرج والإمام لإحياء دار السينما المهجورة

تقع مدينة قصور الساف على الساحل الشرقي للجمهورية التونسية، وتبعد عن تونس العاصمة حوالي 200 كيلومتر إلى الجنوب، لم يتعرض لها المؤرخون كثيرا، ويبدو أنها مدينة حديثة العهد، ورثت مكانتها من بعض حواضر تونس المندثرة.

شددنا الرحال إلى هذه المدينة الوادعة، واصطحبَنا في هذه الرحلة المخرجُ التونسي الشاب أمين بوخريص، ورفيق دربه المهندس المعماري علي، وهو أيضا إمام ومدرّس قرآن في أحد مساجد المدينة.

كان الغرض من الرحلة متابعة أحد الأنشطة الثقافية الهامة في المدينة، إنه ترميم وإعادة تأهيل قاعة السينما في المدينة العتيقة، فهل تتخيلون إمام المسجد وهو يُعيد دار سينما مهجورة إلى الحياة؟

قناة الجزيرة الوثائقية كانت هناك، فقد أنتجت الفيلم الذي أخرجه أمين بوخريص عن إعادة تأهيل القاعة، وعرضته على شاشتها بعنوان “حلال سينما”.

“هذا هو وضع الثقافة في بلادنا”

كانت البداية من المسجد، علينا أن ننتظر قليلا حتى يفرغ الشيخ المهندس علي من حصة القرآن التي يعطيها للأطفال، ثم يخرج مصطحبا زميله المخرج أمين، وهو يقول له:

هذا المسجد من أكبر جوامع مدينتنا قصور الساف، بناه جدّي رحمه الله عام 1950، وقام أهل الخير بتوسعته في 2012. شيخنا، ما زال الجامع يعمل، مع أن السينما قد أقفلت، ألهذا الحد يخشون السينما؟ يا أمين، مع الأسف هذا هو وضع الثقافة في بلادنا. أذكر أنني شاهدت فيلم “الملك الأسد”، في هذه القاعة المهجورة، وكان عمري 7 سنوات، ولم أشاهد بعدها شيئا هنا.

في هذه الأثناء يصل الرفيقان مع بعض الأصدقاء إلى مكان متهالك ومهمل، وسقف متساقط وجدران متآكلة، إنها قاعة السينما الوحيدة في المدينة، هجرها روادها ولم تلق اهتماما من البلدية أو الحكومة، فصارت إلى هذا المآل.

في حوار هادئ على شاطئ البحر حول مستقبل السينما الحلال

ويتحدث علي إلى الأصدقاء:

رفيق وزياد، أنتما متخصصان في أعمال البناء، أريد أن تحسبا لي تكلفة ترميم هذه القاعة من الداخل والخارج، بما يشمل أعمال البناء والإصلاحات، دون النظر إلى تجهيزات العرض، نريد القيام بحركة رمزية لترميم الثقافة في مدينتنا. قد تتجاوز التكلفة 200 ألف دينار، لا تخف، فلا ضرر على الأعمدة والهيكل الأساسي للبناء، إنما هي صيانة للأعمال الخارجية التي لا تؤثر في صلب البناء. سينصبّ جهدنا على تزويق القاعة وتهيئة الفضاء الداخلي، نحتاج إلى ورشة بناء كاملة، وإلى جهود كبيرة وأموال طائلة.

بذرة السينما الهادفة.. مكان للترفيه عن أجيال المستقبل

لا مجال لتضييع الوقت، فمشروع الترميم وإعادة تأهيل قاعة السينما قد بدأ بالفعل، وها هم العمال يقومون بنقل عبوات الإسمنت والجبس إلى داخل القاعة، بينما عليّ وصديقه أمين يقومان بفحص بكرة الأفلام، والتروس التي ينتقل الشريط بواسطتها إلى غرفة العدسة والضوء.

 

مبنى السينما المتهالك قبل أن تتم عليه عمليات الترميم

أستاذ علي، هل توافق على وضع آلة العرض في مدخل القاعة؟ إنها تحفة جميلة، وستزيد المكان جمالا. هذا جيد يا أمين، إننا نقوم بهذا العمل حتى يجد أطفالنا مكانا للترفيه البريء عن أنفسهم. كنا نقضي معظم أيام العيد في السينما، ثلاثة أفلام بتذكرة واحدة، أفلام الحركة الهندية، لقد شاهدت فيلم “عصفور سطح” التونسي 11 مرّة. هل تعلم أن فيلم “مملكة النمل” قد صُور بالكامل في مدينتنا “قصور الساف”؟ أستغرب منك يا علي، كيف أنك إمام مسجد وقدوة حسنة للناس، ثم تشجع السينما وما يعرض فيها من رذيلة. وما المشكلة عندما تكون الأفلام هادفة؟ وأين الأفلام الهادفة؟ تقصد الأفلام التونسية؟ ما رأيك بفيلم الرسالة؟ يا شيخ، لو أحضرت هذا الفيلم هنا فسيهاجمونك ويصفونك بالتطرف. أنا أقصد أن نجعل هذا المكان لترفيه الأطفال، ونجلب لهم الأفلام والمسلسلات الهادفة. لقد تغير الجيل يا صديقي، إنهم لا ينجذبون إلى الأعمال الهادفة، بل يُقبِلون على الأفلام الهابطة. هنالك أفلام عن سيرة الرسول. وهل تسمي هذه الأعمال سينما؟ لا تستفزني يا رجل. نحن نزرع البذرة، وندع أمر الثمار إلى الله. وهناك أمر آخر يا صديقي، هذا المبنى في وسط المدينة مسجل على أنه سينما، فلا نستطيع تغيير صفته، فهنالك محددات قانونية وإجرائية تمنعنا من ذلك. شيخ علي، كانت السينما هادفة عندما كان الزوج يصطحب زوجته والخطيب خطيبته إلى السينما، أما اليوم فيؤمّها الشباب المنحرفون الراغبون في مشاهدة الأفلام الهابطة.

خطبة الجمعة.. منطلق المشروع السينمائي الهادف

في هذه الفترة كان فيروس كورونا يعصف بالعالم أجمع، فلجأت الحكومة التونسية إلى جملة من الإجراءات للحد من انتشار الفيروس، من أهمها منع التجمعات العامة والخاصة، وغلق الأسواق الأسبوعية، ومنع صلوات الجمعة والتراويح في المساجد. وقد كان لهذه الإجراءات وقع الصاعقة على أمين وصديقه علي:

يبدو أن جهودنا ستضيع هباء. لا تخف يا أمين، سنحاول عمل ما نستطيع، دون خرق الإجراءات. لم أكن أتوقع أن الإجراءات ستكون بهذه الصرامة. ولا حتى أنا، المهم أننا بدأنا العمل وأنجزنا فيه شوطا جيدا، وسنكمل بحدود المستطاع.

مضى عام على آخر زيارة لقاعة السينما، وعطّلت إجراءات كورونا تقدم سير العمل، وها نحن نستأنف عملنا، ونرجو أن نقدم شيئا يليق بهذا المكان، وتعود القاعة إلى سالف عهدها. فالدين والفن وجهان لعملة واحدة، فكلاهما رسالة، وديننا دين الجمال، حتى قال الرسول ﷺ: زيّنوا القرآن بأصواتكم.

الخطيب “علي” يخصص خطبة الجمعة للحديث عن السينما، كوسيلة هادفة للترفيه عن الأطفال ورفع الوعي لديهم

وقد خصص “علي” خطبة الجمعة للحديث عن السينما، بوصفها وسيلة هادفة للترفيه عن الأطفال ورفع الوعي لديهم، وتعليمهم سِير الفاتحين والعلماء والعظماء، بدلا من هذا التوحد الذي يعيشونه مع أجهزتهم المحمولة، يتصفحون مواقع الفساد والتنمر.

وبعد الصلاة توجه علي إلى إذاعة محلية، وكان برنامج اللقاء مخصصا لمناقشة مضامين خطبة الجمعة التي ألقاها على مسامع المصلين:

أستاذ عليّ، ما حقيقة ما سمعناه اليوم؟ جاء ذلك في سياق حديثنا عن الواقع الإعلامي المتدهور والمبتذل، وقلنا إنه الوقت المناسب لتقديم البديل. الأمر ليس بهذه السهولة، فالسينما في أذهان الناس ضربٌ من الكفر. يمكن المقاربة في هذا السياق بتقديم فنّ هادف وملتزم. أتفهم وجهة نظرك، ولكن هل قمتَ بدراسة الخطوات التي ستقدم عليها؟ ستواجه ردود فعل متباينة من الناس، سيتهمونك بركوب موجة السياسة أو التحضير لحملة انتخابية، والشبهة الأكبر أن وزارة الثقافة ستموّل هذا المشروع.

هنا يتدخل أمين، صاحب فكرة المشروع، وهو يعيش خارج تونس، ويقول:

دعوني أوضح لكم أنني بدأت هذا المشروع منذ أكثر من سنة، وقد ساعدني علي هندسيا وإداريا في إعداد مسودة المشروع، وكذلك أفادتني كثيرا علاقاته الاجتماعية مع الناس. ثم قدمت المشروع إلى المركز الوطني للسينما والصورة، فاقتنع بالمشروع ووافق على دعمه. المذيع: بل ربما تتذكر أننا تحدثنا في هذا الأمر قبل أكثر من سبع سنوات، كان حلما جميلا يراودنا. هل تذكر الفيلم الذي صُور كاملا في قصور الساف، ونال جائزة، وعرض في أكثر من مدينة، ولم يعرض في مدينته الأصلية؟ شيء مضحك. أمين: أذكر ذلك، ولهذا اتفقت مع علي على تسميتها “قاعة نجيب عيّاد للفن السابع”، فهو أول من صَوَّر فيلما في قصور الساف، وأن تكون القاعة ضمن مجمَّع ثقافي متكامل، نطلق عليه اسم “مُركَّب البشير بن سلامة الثقافي”، تيمنا بما قدمه الرجل لخدمة الثقافة في تونس.

“أتمنى لو لم يتحدث بها على المنبر”.. انطلاقة تثير جدلا في المدينة

في إطار جولاته الترويجية للمشروع، يحرص علي على لقاء أهل الحي، وأحدهم أستاذ يدرس تلامذته في الثانوية مادة الاقتصاد، وكان طلب منهم في آخر السنة الدراسية مشروعا اقتصاديا متكاملا، يتضمن الفكرة السياسية، والجدوى الاقتصادية، والتكاليف ومجسم البناء، فقدمت مجموعة من الطلبة قاعة سينما كمشروع.

يقول الأستاذ: لم ترُقْ لي فكرتهم، لأنني أعرف قليلا عن السينما، ورأيت أن مشروعهم ساذج ولا يرقى إلى هذا العمل الكبير. ولكنني عندما سمعت خطبة اليوم، علمت أن التلاميذ لا يتحدثون من فراغ، وإنما كانت السينما حلما من أحلامهم لم يشاهدوه على أرض الواقع، فقررت أن أساهم في هذا المشروع من قبيل ترجمة الأقوال إلى أفعال.

بعد أن كانت مبنى مهجورا، أصبحت السينما مكانا جاهزا لاستقبال الجمهور الذي يبحث عن أفلام هادفة

أما العم صبحي فيخالف ما ذهب إليه الإمام علي، إذ يقول في مداخلته: أنا صديق الأستاذ علي رغم أنني أكبره سنا، ولي ملاحظة على خطبته، هو حرّ فيما يراه تجاه السينما والثقافة بشكل عام، ولكن كنت أتمنى لو لم يتحدث بها على المنبر. نعم، أنا مع تنشئة الشباب في كافة المجالات رياضيا وثقافيا وفنيا، ولكن لست مع طرح هذا الموضوع الحساس على المنبر تجنبا للانتقاد.

ويرد عليه علي قائلا: عمّ صبحي، أنا تحدثت عن السينما في إطار تربية الأبناء، وتوجيه أولياء الأمور لغرس القيم في أبنائهم ومنها الفن والذوق العام، هل تعلم أن ابن كاملة هو أول من أسس قاعة سينما في تونس، وكان من مشايخ الزيتونة؟

أفلام العرض الأول.. حرية الاختيار وقيود الضوابط الشرعية

يرى أحد أساتذة علي -عندما كان في المرحلة الابتدائية- أن الخطاب الديني تنويري بالأساس، وأن الفن يوسع الأفق، ويتحدث عن علي قائلا: أتذكر ذلك الولد الهادئ الطيب، أذكر أنني أهديته بيانو صغيرا، وكان يمثل له قمة النشوة والسعادة عندما يعزف عليه، وهذا ترك فيه سعة الأفق وقبول الآخر، ها هو اليوم إمام وخطيب، ولم يثنه دوره التوعوي عن الاهتمام بجوانب أخرى من الفنون والثقافة، فالخطاب الديني تنويري بالأساس.

اختيار الأفلام المناسبة والتأكد من سلامة الأفلام القديمة

ثم توجه لهم عليّ بسؤال عن قائمة الأفلام التي يتمنون عرضها عند افتتاح القاعة، فجاءه مقترحات مثل “الشيخ والبحر” و”عمر المختار” و”الرسالة”. وقال بعضهم إنه يود مشاهدة جميع الأفلام التي لم تعرض في قصور الساف من قبل، دون قيد أو رقابة.

قال لهم علي: نعرض أي شيء ما لم يتعد الضوابط الشرعية. وقال آخر: بل نعرض كل شيء، للجمهور اختيار ما يشاهده أو يرفضه. وقال ثالث: الدولة ظالمة لأنها أغلقت أبواب السينما في وجه الشباب، ظهر جيل لا يتخيل في السينما إلا الميوعة والابتذال. وقال رابع: الفن يقاس بمعايير الجمال والقبح وليس بمعايير الأخلاق، والسينما تُعلِّم، سواء كان المعروض سيئا أم حسنا.

أعمال الترميم.. سواعد المدينة تعيد إحياء المكان

أعلن بواسطة مكبر صوت محمول على سيارة تجوب شوارع المدينة، عن موعد يجتمع فيه من يرغب من أهل المدينة في تقديم يد العون لإعادة تأهيل وترميم قاعة السينما. وفي الموعد المحدد اجتمع عدد من أهالي المدينة وبدأوا بأعمال تبطين الجدران وطلائها، تحت إشراف الإمام والمهندس المعماري علي.

إنجاز مبنى السينما كان حلما تحقق بالنسبة للشيخ علي إمام المسجد

يجري العمل على قدم وساق، كلٌ يحاول تقديم ما يتقنه أو يستطيعه من أعمال الترميم، وفي تلك الأثناء يجري تجريب آلات العرض والضوء، واختيار مقتطفات من أفلام ثقافية وواقعية، وكان للأشرطة التي تصور الهمّ الفلسطيني الحصة الكبرى، وكان علي يأخذ آراء الحاضرين صغارا وكبارا في هذه التجربة الفريدة التي يراها معظمهم للمرة الأولى.

 

كانت تجربة العمل هذه استثنائية لأهالي مدينة قصور الساف، ينتظرون بعين الأمل والشغف ذلك اليوم الذي سيتحقق فيه حلمهم بمشاهدة الأفلام في قاعة السينما التي أعادوا تأهيلها بجهودهم الذاتية.

دعوة العرض التجريبي.. تفاعل في وسائل التواصل يصل ابنة المؤسس

اقترب اليوم الموعود، وسجل عليّ رسالة صوتية، هي بمثابة دعوة لحضور العرض التجريبي الأول في قاعة السينما، وسيكون عبارة عن فيلم مصور بالكامل في مدينة قصور الساف، ويتحدث عن القضية الفلسطينية التي تشغل بال التونسيين بخاصة، والعالم العربي عامة، ومنتج الفيلم هو نجيب عياد ابن مدينة القصور، ومخرجه شوقي الماجري.

كان التفاعل مع دعوة علي من خلال وسائل التواصل كبيرا ومشجعا، وكان أحد التعليقات القادمة من كندا هو الذي أجج العاطفة في قلبه، كانت صاحبة التعليق من مدينة قصور الساف بالأصل، بل هي ابنة مؤسس قاعة السينما الأول، وقد تربّتْ في جنباتها وأكلت من خيرها، ثم غادرتها منذ 25 عاما، وها هي اليوم تسمع أن دارها الأولى عادت إلى الحياة من جديد.

وعلى قدر الناس الذين تفاعلوا مع المشروع إيجابيا فهنالك معارضون له، وكلٌّ له مسوغاته، فمن قائل: وما الفائدة؟ إلى قائل: هنالك أولويات أهمّ. إلى ثالث: هذا عبث ومضيعة للوقت. وكما تعلمون، فإرضاء الناس غاية لا تدرك.

يوم الافتتاح.. مشهد فلسطيني يزين العرض الأول

في اليوم الأول للعرض التجريبي اجتمع عدد لا بأس به من أهالي قصور الساف لحضور حفل الافتتاح، واصطحب كل منهم مقعده الخاص، فالقاعة ما تزال غير مجهزة بالمقاعد بعد، وألقى المخرج الشاب أمين بوخريص كلمة ترحيبية بالحضور، وتلا ذلك رسالة فيديو من تلك الفتاة في كندا، منال المستيري ابنة مؤسس هذه القاعة، وظهرت متوشحة الكوفية الفلسطينية.

أبناء المنطقة وأطفالهم يحضرون العرض الأول للسينما الحلال

بعدها بدأ عرض فيلم “مملكة النمل” لمخرجه شوقي الماجري والمنتج نجيب عياد، يحكي عن المقاومة الفلسطينية، ومملكة الأنفاق تحت أرض الوطن، هناك حيث تصنع الحياة من جديد.

كان اليوم بمثابة عودة الروح لقاعة السينما ولقصور الساف بأكملها، اختلطت فيها مشاعر الشوق إلى الطفولة البريئة، والأمل بمستقبل واعد مشرق لتونس وأهلها.


إعلان