“حفريات”.. نبش في حياة عامل عربي يُنقّب عن الآثار

“كل جزء في جسدي لديه قصة، وفي كل مرة أحاول أن أنسى ينفتح في قلبي جرح جديد، لكن الله أعطانا القدرة على النسيان”. بهذه العبارة التي كانت مطبوعة على شاشة سوداء يفتتح الفيلم التسجيلي “حفريات” (Hafreiat) للمخرج الإسباني الشاب “أليكس ساردا”، وسيوقع هذه العبارة المحملة بالأسى شخص اسمه محمد.
بيد أن هذا الفيلم التسجيلي لن يبدأ بمحمد، بل سنحتاج بعض الوقت حتى نتعرف عليه، ووقتا أطول للسبر في أغوار ماضيه العنيف، والأحداث التي قادته لفعل ما فعله، وكيف وصل إلى تلك القرية النائية في الأردن، حيث يعمل أجيرا في بعثة بحث عن آثار يقودها خبير إسباني اسمه “خوان”، وتدفع تكاليفها مؤسسات تاريخية بحثية أوروبية.
لا يستعجل المخرج تقديم شخصيته الرئيسية، بل يحاول أن يرسم ملامح العالم الذي تعيش فيه، فيقدم مشاهد في افتتاحيته لبداية يوم عمل طويل في الموقع الأثري الذي تُنقّب فيه البعثة الإسبانية. تنتقل الكاميرا إلى وجوه العمال العرب الذين يعملون تحت إمرة خبير الآثار الإسباني، ولم يكن من المعروف أين ستحط الكاميرا، وأي من الشخصيات ستستحوذ على اهتمام الفيلم.
بيت العامل الفقير.. غوص في عالم الشخصية الرئيسية
عندما تبدأ الكاميرا بالتركيز على عامل بعينه، يبدو شاردا في أفكاره وهو يراقب العمل من حوله، وينظر بدون اهتمام للاكتشاف الأثري الذي وثقته كاميرا الفيلم، وهو ما يُمكن أن يكون البيت الأقدم الذي يكتشف في تلك المنطقة.
وعندما ترافق الكاميرا هذا العامل إلى بيته، نعرف من المنزل الفقير أن العائلة تعيش حالة عوز، وأن الزوجة التي كانت تنتظر شاردة عبر شباك غرفتها تنتظر طفلها الثاني، لينضم إلى أخيه الأكبر ضياء الذي لم يتجاوز ربيعه الخامس.
يختار المخرج أسلوب المراقبة الصرفة، فيوجه عدساته إلى الشخصيات ويراقب أفعالها العادية اليومية، وينتظر أن تبدأ بذاتها بالبوح أو المضي بحياتها بتلقائية.
يتساءل محمد مع زوجته عن جنس الجنين القادم، ويسرد أساطير شعبية تربط بين سلوك الأم أثناء الحمل مع جنس الجنين القادم. لا يبالي العامل الأردني بجنس الجنين، بل بدا راضيا بما يعطيه الله له كما وصف، أما زوجته فقد بدت هادئة أيضا ومعتدلة كثيرا في آرائها وتوقعاتها.
في مشهد طويل آخر تركز الكاميرا على محمد وابنه ضياء في موقع الحفر نفسه. هنا يراقب الفيلم الحب الأبوي الجارف الذي يحمله الأب لابنه الصغير، وكيف يراقبه يلعب في تراب موقع الحفريات.
بين بذخ الماضي وعوز الحاضر.. ذكريات العائلة
لم تحمل المشاهد الافتتاحية السابقة ما يُعين على فهم شخصية محمد، فهو عامل فقير لا يختلف عن ملايين غيره، يعمل بالأجر اليومي، ومستقبله غير واضح المعالم، والمعضلات المادية تحاصره وتحاصر غيره، أما هيئته المتعبة وأسنانه الصفراء التي أتلفها التدخين، فذلك أمر شائع عند فئة كبيرة من الرجال العرب الفقراء الذين شغلهم الواقع القاسي عن الاهتمام بأنفسهم، أو العناية بصحتهم.
يقترب الفيلم من الكشف عن ماضي محمد، عندما يواجه مشاكل تتعلق بقوانين جديدة تتطلب الحصول على إذن أمني للعمل في الموقع الأثري، فهذا سيربك محمد لأن له ماضيا إجراميا، وقد قضى أكثر من عشرين عاما يتنقل بين السجون الأردنية كما كشف هو نفسه.

لا يسرد محمد قصته كاملة ولو لمرة واحدة، ولعله أخفى كثيرا من تفاصيلها، ولم يجبره الفيلم أو يحاصره لكي يعبئ الثغرات في القصة.
قبل أن تأتي المتاعب إلى حياته، عاش محمد حياة رغيدة، كما يتذكر مع أخيه الذي قابله بعد سنوات من الفراق، وبعد انتقال محمد وعائلته إلى البقعة الجغرافية النائية في شمال الأردن، حيث يعمل في موقع التنقيب الأثري.
في مشهد طويل في سيارة الأخ، يسترجع محمد مع أخيه ذكريات عن حياة سابقة حافلة، فقد كان محمد يعيش بعيدا كثيرا عن العوز الذي يعيشه اليوم. يتذكر الأخوان بيوت العائلة الكبيرة والسهرات والبذخ الذي كانت تعيش فيه العائلة في وقت ليس ببعيد.
وشم العقرب.. ندوب الماضي تسيطر على الجسد
بعد أن دار الفيلم حول ماضي محمد أكثر من ثلثي وقته، يصل إلى ذلك المشهد الطويل الصادم الذي يكشف فيه محمد عن الكثير من ماضيه، ويستعرض الأسباب والظروف التي قادته إلى ما هو عليه الآن، والندوب التي تركتها على روحه.
في ذلك المشهد الطويل كان محمد عاري الصدر، ربما لكي يظهر الوشوم التي وضعها على جسده، والتي ترمز إلى حياته والشخصيات التي مر بها.
تعذّب محمد كثيرا من قبل والده الذي كان يحبسه في غرفة مظلمة عدة أيام، أما زوجة الأب فقد كانت كابوسا في طفولة الشاب الأردني ذي الأصول الفلسطينية، فقد توفيت والدته، وتركته مع زوجة أب قاسية، وأب عرف الفقر ثم الغنى الكبير، لكنه حرم أبناءه من زوجته الأولى من أمواله.

اتجه محمد إلى المخدرات، وربما تاجر بها، وحبس مرارا، ولم يحضر جنازة والده الذي توفي عندما كان في السجن، ولم يكن موجودا عندما ولد طفله الأول. يشير محمد إلى وشم في ظهره قائلا: هذا العقرب هم أهلي الذين لم أر منهم إلا الغدر، أما هذا القبر فهو قبر والدي الذي لم أحضر جنازته.
عضو جديد في العائلة يصنع لحظة الفرح
يروي محمد في مشهد مؤثر أن ولده الصغير كان يعاتبه لعدم امتلاكه أي أموال مثل أعمامه، بينما كان محمد نفسه يسخر بمرارة من ابنه الذي طلب أن يشتري له هدية ثمينة، وذكّره بالأجر اليومي الزهيد الذي كان يحصل عليه من عمله.
يدفع الحاضر الصعب محمد إلى التفكير في الماضي، بيد أن هذا الماضي مليء بالذكريات المُرّة التي تزيد استعادتها هزّ الحياة القلقة التي يعيشها الرجل الأردني.
بين الحاضر والماضي الصعبين يعيش محمد وهو ينتظر مولودته الجديدة التي سيشهد الفيلم على ولادتها في سلسلة مشاهد عذبة في طبيعتها وروحها، إذ ترافق الكاميرا محمد منذ وصوله إلى المستشفى، وتبقى معه إلى أن يضم ابنته إلى صدره، بينما كانت الابتسامة تُزيّن وجهه التعب.
“أنا لست رجل أعمال أمريكيا”.. دهاليز عالم العمال العرب
إلى جانب اهتمامه بقصة محمد، يفرد الفيلم مساحة مهمة لتسجيل الحياة اليومية في ورشة التنقيب على الآثار، وربما ينقل -بدون تخطيط مسبق- عالما يبقى نادر الحضور في السينما التسجيلية العربية، أي التفاصيل اليومية والعلاقات بين العمال العرب وعلاقاتهم بمسؤوليهم.
ينقل الفيلم أحيانا دينامية العلاقة بين العمال، وأجواء العمل الخاصة في ورشة، من جهة أنها تجمع ثقافتين عربية وغربية ممثلة بالخبير “خوان” الذي كان يتحدث بعض العربية، ومساعده الذي لا يتحدث العربية، وهو يحل محله عند سفره.

يسجل الفيلم الجهود التي بدأها العمال لتنظيم أنفسهم، من أجل الضغط على “خوان” لزيادة أجورهم اليومية، ثم المواجهة التي لم تكن حادة، إذ لم يعرف خبير الآثار الإسباني كيف يرد على مطالب العمال العرب، وهو مشغول تمام الانشغال بعمله والاكتشافات التي يحاول أن يصل إليها.
بعتاب مغلف بالسخرية يخاطب “خوان” العمال الذين كانوا يطالبونه بعشرة دنانير لليوم، وبدل الأجر الذي كانوا يأخذونه، فيقول لهم: “أنا لست رجل أعمال أمريكيا”. أما مساعده فيشرح في مناسبة أخرى أن الآثار التاريخية ستبقى في الأردن للأبد، وستعرض في متاحفه، وأن بعثته هي لمساعدة البلد العربي في التفتيش عن آثاره.
يشغل غلاء الأسعار في الخارج العمال العرب الفقراء، ولا يغيب هذا الموضوع عن حواراتهم في أوقات الاستراحة، أما العمل نفسه فلم يكن يبدو أنه يثيرهم أو يلهمهم، وكأن الحاضر المعقد الصعب أنساهم الماضي المشرق الذي عاشته هذه المنطقة من العالم قبل مئات السنين.
طقوس الحياة اليومية.. ورشة مرهقة وأب قلق وابن مدلل
يهتم المخرج الإسباني بتوثيق مناخات بعينها، فيسجل مثلا في افتتاحية الفيلم مشاهد بدون حوارات أو موسيقى، تظهر تفاصيل العمل اليومية في ورشة التنقيب عن الآثار، وآلات الحفر وهي تغرس أسنانها في التراب، ثم بحث العمال ومعهم “خوان” عن خيوط تقودهم إلى آثار معينة.
يتواصل التسجيل بدون حوارات مع الشخصية الرئيسية محمد وعائلته، وخاصة زوجته ميسون التي لم تتحدث كثيرا في الفيلم، لكن الفيلم نقل بحساسية هواجسها ومخاوفها، خاصة في تلك المشاهد التي كانت تقف فيها وحيدة في بيتها، أو التي كانت تنظر فيها عبر النافذة.

ذهب الكثير من التركيز على طقوس محمد اليومية ذاتها، وتكشف هي الأخرى عن قلق متواصل، مثل تدخينه المستمر، أو عن غسله لجسمه في مغسلة بيته بعد عودته من يوم عمل طويل. أما المشاهد التي كانت تجمعه مع ابنه فكان محمد في أحسن حالته، إذ كان لا يتوقف عن تدليل ذلك الابن ومنحه الحب الذي حرم منه نفسه في طفولته.
فجوات النص.. فيلم يروي المعاناة ويتحاشى محظورات الشرق
على الرغم أن الفيلم يُعد إضافة لجهة عدد الأفلام التسجيلية التي تغوص في مشاكل عائلية لشخصيات عربية، وتكشف عن ماض يسعى كثيرون إلى طمره أو نسيانه، فإن الفيلم لم يكشف عن كل شيء من ماضي محمد، فهناك فجوات في قصة الرجل لم يملأها الفيلم بالتفاصيل الكافية.
ولا ريب أن الفيلم وصل إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه وسيط فني، وقبل أن يصطدم بمحظورات شرقية تخص الحديث عن قضايا حساسة عن العائلة.
ساهمت قناة الجزيرة الوثائقية بإنتاج الفيلم، وبدأ عروضه العالمية في الدورة الماضية للمهرجان البريطاني المرموق “شيفيلد” للأفلام التسجيلية، كما عرض في مهرجان أجيال في الدوحة، وفي مهرجان “سينميكي” الإسباني.